غالباً ما شكّل ملف التعيينات الإدارية في لبنان فرصة للقوى والزعامات الطائفية لتثبيت نفوذها داخل الدولة من ناحية، وتثبيت فكرة الولاءات لكل طامح إلى منصب رفيع بصرف النظر عن كفاءته أو مؤهلاته من ناحية أخرى. فالتعيينات في بلد تنتشر فيه ثقافة المحسوبية والزبائنية يتعدّى مفهومها الإجراء الإداري الروتيني ليتحوّل إلى أداة بيد أحزاب السلطة لتقاسم المناصب والنفوذ في المؤسسات الرسمية على اختلافها.
منذ اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، تعامل أهل الحكم مع التعيينات الإدارية باعتبارها الأداة التي يمكن من خلالها حصول كل طرف من أطراف الحكم على حصته من السلطة. ولم تتغيّر هذه القاعدة على الرغم من بعض محاولات "الإصلاح" الخجولة، والتي كان أبرزها عام 2010 حين حاولت الحكومة وضع آلية للتعيينات تعتمد على احترام التراتبية الوظيفية، بحيث تعطي أولوية للتعيين من داخل الملاك للموظفين من الفئة الثانية، كذلك أقرّت مبدأ تقويم دوري لإنتاجية المديرين ومسلكيتهم .
لكن هذه الآلية سرعان ما انهارت أمام المحاصصة من خلال عدم الالتزام بـ"إعطاء الأولوية في ملء المراكز الشاغرة في الفئة الأولى في الملاك الإداري العام للموظفين من الفئة الثانية من داخل الملاك الإداري". ويوجد أمثلة عدّة على التعيينات من خارج الملاك لموظفي الفئة الأولى.
بين من يرى الوضع "أفضل بكثير من قبل" ومن يتهم الحكومة الحالية بعدم الالتزام بالآلية التي وضعتها، تتباين الآراء حول أسباب تعثّر الإصلاح في ملف التعيينات والمحاصصة الطائفية والسياسية في لبنان. فما القصة؟
تحاصص تاريخي يتحكّم بالتعيينات الإدارية
التطوّر الأبرز في ملف التعيينات وصل إلى ذروته مع حمل "التيار الوطني الحر" لواء الدفاع عما سماه "حقوق المسيحيين"، مستخدماً هذا الشعار لزيادة حصته من التعيينات باعتباره الممثل الأبرز للطائفة المسيحية. على هذا الأساس، عطّل العونيون تعيين مواطنين ناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية.
شمل ذلك، عرقلة وزراء التيار تعيين 106 مواطنين ناجحين في وظيفة حارس أحراج في وزارة الزراعة منذ العام 2017 بحجة أن النتائج لا تراعي التوازنات الطائفية رغم أن هذه الوظيفة ليست من وظائف الفئة الأولى وليست من الوظائف الكبرى في الدولة اللبنانية. تكرّر الأمر في العام 2018 حيث لم يوقّع رئيس الجمهورية آنذاك ميشال عون مرسوم تعيين المراقبين الجويين الناجحين في مجلس الخدمة المدنية للأسباب عينها على الرغم من حاجة مطار رفيق الحريري المُلحّة لتأمين سلامة الطيران.
كما أن أحزاب السلطة لم تتوانَ عن حجز حصتها من التعيينات في أي تفاهم في ما بينها. هكذا جاء "اتفاق معراب" الذي ساهم في وصول عون إلى رئاسة الجمهورية ليضع آلية بين القوات اللبنانية و"التيار الوطني الحر" قائمة على التعيين "بالاتفاق بين الطرفين"، وما إشارته إلى اعتماد "معايير الكفاءة والنزاهة" سوى كلمات منمّقة وضرورية، إذ إنها تأتي قبل عبارة "يأتي تبادل المراكز بين الطرفين حلّاً حيث ينتفي الاتفاق بينهما"، وفقاً للفقرة (ه) من نص الاتفاق.
وفي حين استحوذ الحزب التقدّمي الاشتراكي على الحصة الأكبر من التعيينات الخاصة بالطائفة الدرزية، وتيار المستقبل على حصة الطائفة السنية، فإن التوافق بين الثنائي الشيعي شكَّل المرجع الأساس للتعيينات الخاصة بالطائفة الشيعية، مع تردّد بعض المعلومات أن الآلية المعتمدة بينهما تقوم على طرح أحدهما ثلاثة أسماء على أن يختار الطرف الآخر اسماً من بينها.
محاولات الإصلاح والآلية الجديدة
ومنذ وصول الرئيس جوزيف عون إلى سدّة الحكم وتشكيل الرئيس نواف سلام حكومته عوّل عليهما للخروج من هذا المسار. على هذا الأساس، وضعت الحكومة آلية مُعينة للتعيينات بهدف ضمان الكفاءة والمساواة بين المواطنين فيها، بحيث تعمل هذه الآلية من خلال تشكيل لجنة برئاسة الوزير المختص وعضوية رئيس مجلس الخدمة المدنية وممثل عن وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية لدراسة طلبات الترشيح، ثم تختار اللجنة ثلاثة أسماء وترفعها إلى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار المناسب بشأن التعيين.
وفي حين لم تتمكّن الحكومة من تطبيق المداورة في وظائف الفئة الأولى كما نصّت الفقرة "ب" من المادة 95 من الدستور إلا أنها حاولت إسقاط الأسباب الطائفية المانعة للتعيينات، وهذا ما ظهر مع صدور المرسوم رقم 519، في 22 حزيران/ يونيو 2025، الذي قضى بتعيين حرّاس الأحراج الذين سبق أن عرقل تعيينهم الرئيس ميشال عون.
إلى ذلك، تُقابل التعيينات التي تتخذها الحكومة اللبنانية بكثير من الجدل، بين دفاع رئيس الحكومة عنها باعتبار أن جميع التعيينات تعتمد على الآلية التي وضعتها الحكومة باستثناء "بعض القطاعات التي لديها وضع خاص وهي السلك الدبلوماسي والأجهزة الأمنية والعسكرية ومصرف لبنان والقضاء". في المقابل، تعترض قوى سياسية عدّة على "المحاصصة" التي تعتمد في التعيينات بشكلٍ متكرّر.
في آذار/ مارس 2025، حاول وزير الإعلام بول مرقص، فرض أسماء بعينها في تعيينات مجلس إدارة تلفزيون لبنان وأرسل مذكرة بذلك إلى مجلس الوزراء. استند مرقص في محاولته إلى أن التلفزيون الرسمي هو "شركة خاصة تخضع لقانون التجارة وليس إدارة رسمية"، إلا أن اقتراح مرقص قوبل باعتراض شعبي وحكومي، ما دفعه إلى التراجع عن خطوته والالتزام بالآلية المعتمدة.
أحزاب السلطة لم تتوانَ عن حجز حصتها من التعيينات في أي تفاهم في ما بينها… كيف ساهم التحاصص التاريخي في تثبيت نفوذ القوى والزعامات الطائفية بل وتثبيت فكرة الولاءات بصرف النظر عن الكفاءة والمؤهلات؟
حادثة أخرى تُثير تساؤلات حول مدى شفافية التعيينات في العهد الجديد إذ سبق لوزير الاتصالات شارل الحاج، في 25 حزيران/ يونيو 2025، أن أشار، في مقابلة عبر برنامج "حوار المرحلة" عبر قناة "LBC"، إلى تواصله مع مدير عام أجيرو، أحمد عويدات، قبل يوم واحد من انتهاء فترة الترشيحات لهذا المنصب، طالباً منه التقدّم للوظيفة، إذ إن الأخير لم يكن يرغب في ذلك. وهذا ما يطرح علامات الاستفهام حول مدى تمكّن الآلية، وإن جرى تطبيقها، من الخروج من دائرة المحاصصة والوساطة.
وتجزم النائبة بولا يعقوبيان، في حديثها إلى رصيف22، بأن "الوضع القائم حالياً على مستوى التعيينات أفضل من الوضع السابق، فالحكومة تمكّنت من وضع آلية للتعيينات وهناك محاولات حثيثة للالتزام بها. كما أن سلام وبعض الوزراء المحسوبين عليه يُحاولون الالتزام بأفضل المعايير للتعيين". وتستدرك يعقوبيان بالإشارة إلى "أننا لم نقم بانقلاب في لبنان، فالبلاد لا تزال تفتقد إلى الحوكمة الرشيدة ولكن أصبحنا بمكان أفضل من السابق وإن لم يكن المكان المثالي".
وتؤكد يعقوبيان أن "هناك الكثير من الملاحظات على التعيينات ولكن من دون شك الحكومة تعمد إلى تعيين الأفضل والأكفأ عندما يكون ذلك ممكناً ومتاحاً"، مضيفةً أن "الأمور أفضل بكثير ولكن ما زلنا نعمل بقوانين وعقلية الماضي مع بعض التغيير الذي دخل عبر بعض الشخصيات وعلى رأسهم سلام". وعن دور رئيس الجمهورية، توضح يعقوبيان أن "عون يُحاول طرح أفضل الممكن من الأسماء ولكن في بعض الحالات يقع في بعض الغش في هذه الأسماء".
غياب المداورة والشفافية
وجهة نظر يعقوبيان قد لا تتفق إلى حدّ بعيد مع رأي زميلها ياسين ياسين، فالأخير وجّه - مع النائبة حليمة قعقور - سؤالاً رسمياً إلى الحكومة في شخص رئيسها ووزير المال حول التعيينات المالية في مصرف لبنان ولم يتم الرد على السؤال لغاية اليوم. في حديثه إلى رصيف22، يؤكد ياسين أنه "غير راضٍ على التعيينات التي تتخذها الحكومة، كما أنها لم تلتزم بالآلية التي وضعتها"، مشيراً إلى أن "سؤالنا لها ارتكز حول مدى التزامها بمعايير الشفافية والكفاءة في التعيينات المالية في مصرف لبنان، فهذه التعيينات أساسية في ما يتعلّق بالعدالة لقضية أموال المودعين، خصوصاً في ظل الحديث عن قانون الفجوة المالية".
ولفت ياسين إلى أن "النتائج لن تكون عادلة إذا ما اتبعنا الأسلوب السابق بالمحاصصة، فضلاً عن أنه لم يتم اعتماد مبدأ المداورة الذي نصت عليها المادة 95 من الدستور". ولفت إلى أنه "يمكن قراءة ما بين السطور في التعيينات التي اطلعت عليها، سواء المالية في مصرف لبنان أو الهيئة الناظمة للاتصالات، فلم تُعتمد العناصر التي نطمح إليها والتي ينص عليها الدستور والتي سمعناها في الخطابات (خطاب القسم والبيان الوزاري) خصوصاً على مستوى المداورة". وأكد أن "الإصلاح الفعلي يبدأ باختيار أصحاب الكفاءة والخبرة، خصوصاً أن الكفاءة موجودة في كل الطوائف وفي مختلف المجالات، ولكن للأسف هناك تجاوزات حصلت".
ويعزو ياسين عدم قدرة العهد الجديد على اتباع مبدأ الكفاءة إلى "وجود دولة عميقة في جميع المؤسسات، وهذا أمر قد يكون أدى إلى تأثيرات في التعيينات الإدارية والأمنية، وهو ما أدى بدوره إلى نوع من الامتعاض لدى الكثير من النواب (بحكم علاقاته الشخصية معهم) بسبب عدم اعتماد معايير واضحة".
عدم الالتزام بمعيار المداورة دفع المرشح السابق لرئاسة الهيئة الناظمة للاتصالات وسيم منصور إلى تقديم مراجعة، في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أمام مجلس شورى الدولة بالتعاون مع المفكرة القانونية ضد قرار تعيين رئيسة للهيئة، ولم يتم الفصل فيه لغاية اليوم. وفي إطار توضيحه لماهية المراجعة، أشار المدير التنفيذي للمفكرة، نزار صاغية، في مؤتمر صحافي، إلى أن "العهد استهلّ خطابه والحكومة بيانها بإعلان التزامهما المداورة وتالياً عدم التخصيص. إلا أنه برغم وضوح الدستور وإعلان السلطات معرفتها وتمسكها به، يبقى أن التعيينات الأخيرة قد شهدت ممانعة وحيلاً للالتفاف على هذا الحظر وتالياً اختلالاً في تطبيقه".
دستورية آلية التعيينات الجديدة
لا شك في أن وضع آلية مُعينة للتعيينات في مجلس الوزراء تُثير مواجهة صامتة مع النصوص الدستورية التي رسمت الصلاحيات الموكلة للوزراء في هذا الشأن. هكذا يصبح السؤال واجباً عن مدى تلائم هذه الآلية مع ما نص عليه الدستور.
بحسب يمين، الآلية التي وضعتها الحكومة لا يمكن إلا أن تكون استئناسية لتفادي مخالفة الدستور، ولكنه يقول إن الحكومة نفسها خالفت في الكثير من التعيينات هذه الآلية التي وضعتها إذ هبطت أسماء خارج الآلية وبمحاصصة سياسية فاضحة
يرى الخبير الدستوري عادل يمين في حديث إلى رصيف22، أن "قرارات المجلس الدستوري واضحة عندما أبطل القوانين التي كانت تقيّد سلطة مجلس الوزراء في تعيين موظفي الفئة الأولى، وتقيد الوزير في رفع اقتراحه إلى مجلس الوزراء في الأسماء التي يرغب في ترشيحها للتعيين". ويضيف: "اعتبر المجلس الدستوري في قراراته التي أبطل فيها القوانين المخالفة للدستور أنه من غير الجائز تقييد مجلس الوزراء في خياره وإلزامه في خيار محدد ولا تقييد الوزير المختص".
ويلفت يمين إلى أنه "في الوقت عينه أشار المجلس الدستوري إلى أن لا شيء يمنع من أن يكون رأي أي لجنة تُكلف دراسة التعيينات رأياً على سبيل الاستئناس والمشورة من دون أن يكون رأياً ملزماً لمجلس الوزراء"، مردفاً أن "المادة 65 من الدستور تُنيط بمجلس الوزراء السلطة الإجرائية، وتعطي في فقرتها الأخيرة مجلس الوزراء صلاحية تعيين موظفي الفئة الأولى بأغلبية الثلثين من عدد أعضائه". ويوضح يمين في الوقت عينه أن "المادة 66 من الدستور تعطي الوزير المختص صلاحية تطبيق القوانين والأنظمة في ما يخصّ وزارته، فلا يجوز بالتالي تعيين موظف فئة أولى في وزارته بما لا يتلائم مع توجهات الوزير أو اقتراحاته".
بناءً على ما سبق، يرى يمين أنه "إذا كانت الآلية التي وضعتها الحكومة ملزمة لها، فهي تكون آلية مخالفة للدستور أما إذا كانت استئناسية (استشارية) فتكون متطابقة مع الدستور، ولكن الحكومة نفسها خالفت في الكثير من التعيينات الآلية التي وضعتها وهبطت الأسماء من خارج الآلية وبمحاصصة سياسية فاضحة".
*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع فريدريش إيبرت - مكتب لبنان FES.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



