منذ سنوات، يتصدّر مطلب اللامركزية النقاش العام في لبنان، محاطاً بجدلٍ سياسي لا ينفصل عن الاصطفافات الطائفية ومشاريع إعادة تشكيل النفوذ المحلي. وبرغم أنّ أطرافاً سياسيةً عدّة استخدمت هذا المفهوم كورقة في بازار التقاسمات، إلا أنّ انتفاضة 17 تشرين 2019 وما تلاها من انهيار اقتصادي ومالي عميق، أعادا تسليط الضوء على سؤال أكثر جوهريةً: هل يمكن لنظام اللامركزية، بصيغته الحالية، أن يشكّل مدخلاً لإنقاذ ما تبقّى من الدولة عبر تفعيل دور البلديات؟
لطالما عانت البلديات واتحاداتها من نقص مزمن في التمويل وضعف في الصلاحيات. ومع الانهيار، تراجعت قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية، وتقلّص هامشها في التخطيط لمشاريع تنموية طويلة الأمد. وبينما تواجه السلطات المحلية اليوم، أزمات متراكمةً، من شحّ الموارد إلى غياب آليات الرقابة الفاعلة، يتكشّف بوضوح أنّ نظام اللامركزية القائم منذ عام 1977، يعاني خللاً بنيوياً يعطّل أي محاولة جادة للنهوض بالخدمات العامة والبنى التحتية.
ومع ذلك، يبقى للبلديات دور محوري في أي مسار تعافٍ محتمل، شرط إعادة النظر جذرياً في هندسة هذا النظام بما يضمن استدامةً ماليةً وقدرةً تنفيذيةً حقيقية. وهنا يبرز السؤال الأكثر إلحاحاً: ما هي العوائق البنيوية التي تشلّ عمل السلطات المحلية في لبنان؟ وما الخيارات المتاحة لإرساء نموذج لامركزي قادر على ضمان تمويل مستدام وتعزيز الإدارة المحلية؟
نظام عمره نصف قرن
في محاولة لفهم تعثّر الحكم المحلي، يبرز قانون البلديات الصادر عام 1977، بوصفه الركيزة اللامركزية الوحيدة القائمة فعلياً، برغم مرور عقود على طرح مشاريع للامركزية الموسّعة التي لا تزال حبيسة البرلمان منذ 2016.
في هذا الصدد، يشير الوزير السابق والمحامي زياد بارود، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ القانون يمنح البلديات "صلاحيات واسعةً جداً وماليةً ذاتيةً وجبايةً مباشرةً"، لكنه يؤكد أنّ "المشكلة ليست في القانون بل في الممارسة"، مضيفاً أنّ "الرقابة الإدارية التي كان يُفترض أن تكون محصورةً، توسّعت بالاستناد إلى السقوف المالية التي يجوز للبلديات أن تتصرف بها دون الحاجة إلى المصادقة".
البلديات اللبنانية وحدات صغيرة جداً، تفتقر إلى الموارد والهياكل الإدارية والقدرات التنفيذية، وليست وحدات لامركزيةً قادرةً على ممارسة سلطة محلية فعلية، بل تجمّعات قروية بلا استقلالية مالية أو بنى تنظيمية
ويرى بارود، أنّ الأزمة المالية والاقتصادية والمصرفية التي انفجرت منذ 2019، فاقمت تعقيدات المشهد البلدي، إذ فقدت البلديات جزءاً كبيراً من إمكانياتها، ما انعكس مباشرةً على قدرتها على تنفيذ الصلاحيات التي يمنحها إياها القانون. ويوضح: "الواقع أنّ القدرة المالية لدى المواطنين/ ات، وهي متدهورة أيضاً، لا تسمح بزيادة الرسوم والضرائب إلا ضمن الحدود التي نصّت عليها قوانين الموازنة في السنوات الأخيرة".
ويصرّ بارود، على أنّ الأزمة الحالية تؤكد أكثر من أي وقت مضى الحاجة إلى لامركزية فعلية ومتطورة قادرة على مواجهة تحديات تعجز السلطة المركزية عن إدارتها. ويستعيد مثال أزمة النفايات عام 2015، حين أدى إقفال مطمر الناعمة إلى شلل كامل، بينما بقيت بلدات مثل حبالين وصيدا وزحلة في منأى عن الكارثة لاعتمادها حلولاً لامركزية.
كما يذكّر بالدور الذي لعبته البلديات في دعم وزارة الصحة خلال جائحة كورونا. ويعدّ بارود أنّ الحاجة إلى اللامركزية تبرز أيضاً في السياسة، من ضمن وحدة الدولة، باعتبارها آليةً قادرةً على تجاوز أزمات المركز المتكررة. يقول: "يجب تحرير البلديات، والمجالس المحلية لاحقاً، من القبضة الحديدية المركزية التي تريد لهذه السلطات المحلية أن تبقى مرتهنةً لها". ويقدّم الصندوق البلدي المستقل نموذجاً لهذا النهج، إذ يرتبط توزيع حصص البلديات فيه بقرار سياسي ومالي، بينما هذه الحصص حقّ للبلديات.
ويشدد بارود، على أنّ النقاش حول اقتراح قانون اللامركزية الموسّعة يجب أن يترافق مع تعديل قانون البلديات نفسه، ولكن ليس شكلياً، لأنّ جوهر الإصلاح يقوم على أربعة مرتكزات أساسية هي: صلاحيات واسعة وواضحة، مشاركة ديمقراطية فعلية عبر انتخابات عادلة، إيرادات مالية كافية لتطبيق الصلاحيات، ورقابة مؤخرة لا مسبقة، وقضائية بدل الإدارية. ويشدّد بارود: "من دون هذه الأسس، لا لزوم لتشريعات جديدة"، منبّهاً إلى أن عصب المال شرط جوهري للاستقلالية المحلية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالنظام الانتخابي البلدي نفسه يحتاج إلى إعادة نظر. ويذكّر بارود بأنه قدّم عام 2010 مشروع قانون أقرّه مجلس الوزراء بعد نقاشات مطوّلة، يتضمن النسبية، والكوتا الجندرية، وإصلاحات أخرى، "ولكن المشروع بقي مشروعاً..."، بحسب تعبير بارود.
بين الصندوق البلدي المستقلّ والدعم المفقود
لكن الأزمة تتجاوز الإطار القانوني إلى واقع مالي خانق تعيشه البلديات. فمنذ أكثر من أربع سنوات، وجدت البلديات نفسها في قلب أزمة مالية غير مسبوقة. ومع انتخاب المجالس البلدية الجديدة عام 2025، ينطرح سؤال جوهري: هل ما زالت البلديات قادرةً على إدارة شؤونها؟
"جوهر الإصلاح يقوم على 4 مرتكزات أساسية هي: صلاحيات واسعة وواضحة، مشاركة ديمقراطية فعلية عبر انتخابات عادلة، إيرادات مالية كافية لتطبيق الصلاحيات، ورقابة مؤخرة لا مسبقة، وقضائية بدل الإدارية".
يشير نائب رئيس اتحاد بلديات كسروان الفتوح، بيار الدكّاش، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ السنوات الأربع الأخيرة أوصلت البلديات إلى ما دون الصفر. وبرغم صدور قوانين رُفعت بعض الرسوم وزادت المداخيل، إلا أنّ الصورة الحقيقية لم تتغيّر، خصوصاً لدى البلديات الصغيرة.
يشرح الدكّاش أنّ البلديات تُقسَم إلى ثلاث فئات: كبرى، وسطى، وصغرى، حيث تعتمد الأخيرة على الدولة لتأمين 60 إلى 70% من إيراداتها عبر الصندوق البلدي المستقل، وصندوق دعم البلديات، وبدل الهاتف. ومع أنّ موازنة 2024 ضاعفت بعض الإيرادات عشر مرات، تلاها قانون تمكين البلديات، إلا أنّ الفائدة اقتصرت على البلديات الكبرى وبعض المتوسطة، لأنّ لديها رسوماً محليةً كبيرةً يمكن البناء عليها. أما البلديات الصغيرة، فبقيت عاجزةً بعد فقدان مصدر دخلها الأساسي، وهي المستحقات المحجوزة لدى الدولة.
يقدّم الدكّاش مثالًا عن بلدية النمورة وكفرجريف التي يرأسها: "آخر موازنة كانت نحو 105 آلاف دولار على سعر 1،500. بعد كل الزيادات القانونية، لا تتجاوز اليوم 16 ألف دولار. السبب؟ كنت أحصل على 27 إلى 30 ألفاً من الرسوم المحلية، والباقي من الدولة. أما اليوم، فالدعم مفقود بالكامل".
كما يشير الدكّاش، إلى أنّ جوهر الأزمة يكمن في تجاهل الدولة حقوق البلديات من الصندوق البلدي المستقل، وهي أموال يدفعها المواطنون/ ات كرسوم قانونية. ويؤكد أنّ البلديات الصغيرة لا تزال عاجزةً برغم القوانين الجديدة لأسباب عدة: غياب مستحقات الدولة، قصور التعويضات في القوانين الحديثة، وغياب التمويل المستقر الذي يمنع أي مؤسسة من التخطيط أو تقديم خدمات مستدامة، مضيفاً: "اليوم نتحرك عبر مبادرات فردية مع القطاع الخاص، لكن هذا لا يصنع مؤسسات. المؤسسات تحتاج إلى استقلالية مالية ثابتة، وإلا فهي مجرد هياكل معطّلة".
ويؤكد الدكّاش أهمية التخطيط الإستراتيجي، مشيراً إلى أنّ قانون الشراء العام يفرض على البلديات إعداد خطط شراء سنوية وموازنات مرتبطة برؤية واضحة. لكن في بلد غير مستقرّ، يقول: "كل سنة نواجه كارثةً: كورونا، انهيار اقتصادي، أحداث أمنية، وحروب... أي خطة توضع تُجمَّد فوراً، وحتى المشاريع مع المنظمات الدولية تتعطل عند أي تغيير سياسي أو أمني".
هذا الواقع يمنع البلديات من وضع خطط تنموية بعيدة المدى أو تنفيذ مشاريع تتطلب استقراراً مالياً وزمنياً.
يؤكّد الدكّاش، أنّ البلديات هي الإطار الطبيعي للامركزية الإدارية، لكنها اليوم تعاني شللاً بسبب سلطة الوصاية وغياب التمويل. ويرى أنّ الحلّ يكمن في اللامركزية الإدارية والمالية التي تمنح البلديات استقلالية القرار والقدرة على التخطيط المتوازن بين المناطق. وبرغم ورود اللامركزية في اتفاق الطائف وصدور قانونها عام 2014، وإجماع القوى السياسية على دعمها، إلا أنّ التطبيق ما زال معلّقاً.
ويشدّد على أنّ اللامركزية ليست ترفاً بل ضرورة إنمائية، خصوصاً بعد الانهيار المالي الذي كشف ضعف المركزية. ويختم بالتشديد على أنّ إنقاذ البلديات يبدأ بإعادة مستحقاتها من الصندوق البلدي المستقل، لأنها حق قانوني لا منّة، فمن دونها تبقى البلديات، ولا سيما الصغيرة منها، عاجزةً عن العمل في ظل غياب رؤية وطنية للإدارة المحلية.
اللامركزية بين الواقع والتوظيف السياسي
في بلد لا تتجاوز مساحته 10،452 كلم²، ويضمّ أكثر من ألف بلدية، يتكرّر النقاش حول اللامركزية منذ اتفاق الطائف. لكن بين الخطاب السياسي والواقع الميداني، ترى الباحثة والناشطة السياسية زينة الحلو، أنّ الدولة اللبنانية تفتقر اليوم إلى الشروط البنيوية التي تسمح بتطبيق نموذج لامركزي فعّال. وتتساءل: "عن أي لامركزية نتحدّث؟ وعلى أي مستوى؟"، مؤكدةً لرصيف22، أنّ موقفها ليس ضد اللامركزية بالمبدأ، بل ضد تطبيقها في اللحظة الراهنة حيث ضعف الدولة وغياب الموارد وارتفاع الهشاشة المؤسساتية، وهي عوامل تجعل منح صلاحيات واسعة للوحدات المحلية خطوةً قد تزيد تفكّك ما تبقّى من الإدارة المركزية بدل تعزيزها.
البلديات هي الإطار الطبيعي للامركزية، وتعاني اليوم شللاً بسبب سلطة الوصاية وغياب التمويل، والحلّ يكمن في اللامركزية الإدارية والمالية التي تمنحها استقلالية القرار والقدرة على التخطيط المتوازن بين المناطق
وتشدّد الحلو على أنّ معظم البلديات اللبنانية هي وحدات صغيرة جداً، تفتقر إلى الموارد والهياكل الإدارية والقدرات التنفيذية، إذ إنّ أكثر من 70% منها تتألف من 9 إلى 12 عضواً فقط، وتمثّل تجمعات صغيرةً من بضعة آلاف أو حتى مئات من السكان.
هذه، برأيها، ليست وحدات لامركزيةً قادرةً على ممارسة سلطة محلية فعلية، بل تجمّعات قروية بلا استقلالية مالية أو بنى تنظيمية. كما ترى أنّ التضخم الكبير في عدد البلديات بعد الطائف كان عمليةً سياسيةً بامتياز، هدفها إنتاج بلديات تخدم شبكات الزبائنية أو تضبط الخلافات العائلية وتسهّل التحكم بـ"المفاتيح الانتخابية"، ما حوّل البلديات من أدوات تنموية إلى امتدادات للعائلات والأحزاب.
وبالنسبة لها، أي لامركزية تنفَّذ على مستوى البلديات ضمن هذا الواقع تصبح "انتحاراً تخطيطياً": سلطات واسعة لوحدات صغيرة ومجزّأة تؤدي إلى تضارب في المشاريع، واتساع مساحات الفساد والمحسوبيات، وفوضى عمرانية وتنموية، وإلى استنزاف الموارد الطبيعية. ولذلك ترى الحلو أنّ مدلول اللامركزية يجب أن يرتكز على وحدات أكبر قادرة على التخطيط والتنفيذ، أي على مستوى القضاء كحدّ أدنى، أو المحافظة في بعض الحالات، حيث تتوفر كتلة سكانية ومالية وسياسية قادرة على حمل مشروع إنمائي فعلي.
وتلفت الحلو، إلى أنّ القوى السياسية تستخدم شعار اللامركزية بوصفه "عنواناً مرناً" من دون تحديد صلاحيات الوحدات المحلية أو حجم الميزانية المخصّصة لها. فقبل الأزمة، لم تتجاوز حصة البلديات والاتحادات 5% من الموازنة العامة، ما يجعل الحديث عن لامركزية فعلية "محض شعار" بلا أساس مالي. وتشير إلى أنّ الحد الأدنى المقبول لأي نموذج لامركزي فعّال يجب أن يكون بين 20 و25% من الموازنة.
لكن مواقف الحلو المتحفظة على اللامركزية في الظروف الراهنة، تقابلها وجهة نظر معاكسة لدى عدد من الخبراء الذين يرون أنّ ضعف الدولة لا يفترض أن يكون ذريعةً لتعليق الحكم المحلي، بل حافزاً لتفعيله.
فبينما ترى الحلو أنّ منح السلطات المحلية صلاحيات أوسع في ظل دولة هشّة قد يعني تفككاً أكبر، يرى أنصار اللامركزية أن تقوية البلديات والاتحادات قد تكون أحد المخارج القليلة المتاحة لتخفيف الضغط عن المركز وإعادة توزيع الأعباء بشكل عقلاني.
مع ذلك، تبقى الحلو ثابتةً على موقفها: "لا يمكن بناء نموذج لامركزي في دولة منهارة". بالنسبة لها، المدخل الإصلاحي المطلوب اليوم هو إعادة هيكلة اتحادات البلديات أو إنشاء مجالس تمثيلية بصلاحيات واضحة ورقابة صارمة، مع الإبقاء على البلديات المحلية بوصفها وحدات خدماتيةً محدودة الصلاحيات، ريثما تُعاد هيكلة الدولة المركزية.
وتختم بقولها إنّ أيّ مشروع جدّي للامركزية يجب أن ينطلق من دولة قوية لا من سلطة ممزقة، وإلا تحوّلت اللامركزية إلى أداة تفكك لا إلى أداة إصلاح.
*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع فريدريش إيبرت - مكتب لبنان FES.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



