ماذا تفعل السيدة الإفريقية فوق بحر الجزائر؟

ماذا تفعل السيدة الإفريقية فوق بحر الجزائر؟

رود تريب نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الخميس 18 ديسمبر 20256 دقائق للقراءة

تنشر هذه المادة ضمن ملف رصيف22 "الكنائس الشرقية... جوار في جغرافيا الرب" الذي يتوقف عند أجمل كنائسنا... منها ما يقترب من النسيان ومنها ما زال زيت قناديله مضيئاً.


تتربع كنيسة السيدة الإفريقية على قمة منحدرٍ شاهق (228 متراً) في منطقة باب الواد، غربي الجزائر العاصمة، تطلّ بشموخ وحنين على امتداد البحر سواحل البحر الأبيض المتوسط. حجارتها تحمل همسات قرنٍ من الزمن؛ فمنذ تأسيسها أيام الاستعمار الفرنسي وهي تروي ملاحم لقاء الثقافات. إنها ليست مجرد مبنى للعبادة، بل رمز هادئ للتعايش، تذكّر العاصمة أن السلام يستطيع أن ينبت في تربة الاختلاف.

صممت الكاتدرائية على يد المهندس المعماري الفرنسي جان أوجين فروماجو، واستغرق بناؤها 14 عاماً كاملاً قبل افتتاحها عام 1872 لتكون أول وأشهر كنيسة كاثوليكية في إفريقيا، ومع مرور الوقت أصبحت رمزاً للحضور الفرنسي سابقاً وللتداخل الثقافي بين أوروبا وإفريقيا.

كنيسة كاثوليكية في حضن بلد مسلم

ارتبط اسم كنيسة السيدة الإفريقية أو "للا مريم" كما يسميها الجزائريون بقصة خادمة مسيحية سوداء البشرة تدعى مارغريت بيرغر قدمت مع أسقف الجزائر ويس أنطوان أوغسطين بافي من مدينة ليون الفرنسية إلى الجزائر عام 1836، بهدف نشر المسيحية، ولكثرة تعلقها بدينها أصرت على إنشاء معبد للسيدة العذراء، فسميت الكنيسة تيمناً بها، وتوفيت ودفنت داخل الكنيسة عام 1875.

"يا سيدة أفريقيا صلي من أجلنا ومن أجل المسلمين" صلاة كتبت بالفرنسية والعربية والأمازيغية خلف المذبح بالكنيسة بمثابة رسالة جامعة تدعو إلى التسامح والاحترام المتبادل استجابة لغاية بناء هذا الصرح، وهي تعزيز الوحدة والسلام بين المسيحيين والمسلمين.

التنوع الذي تعبر عنه روح "السيدة الإفريقية" يتجلى حتى في تفاصيلها المعمارية، إذ تتميز الكنيسة بطرازها الذي يجمع بين الطابع البيزنطي والزخارف العربية والإسبانية، مستمداً عناصرَ من المعمار المغاربي والإسلامي مثل الفسيفساء والأقواس.

مع مرور الزمن، لم تعد الكنيسة مجرد مبنى يطل على شواطئ الجزائر العاصمة، بل تحولت إلى مساحة يلتقي فيها ما تفرَّقَ في الخارج


يعتلي الكنيسة تمثال للسيدة الإفريقية مفتوحة اليدين ترحب وتصلي لزوارها، وتتزين جدران الكنيسة الداخلية بصلوات خطت بلغات متعددة منها العربية واللاتينية والأمازيغية. أما سقف القبة المزخرف بالفسيفساء فيتحول إلى سمفونية بصرية أخاذة، لا سيما عندما يمر ضوء الشمس عبر زجاجه الملون.

وجهة مسيحية حتى لغير المسيحيين

ترتبط كنيسة السيدة الإفريقية في الجزائر بجملة من الطقوس والمناسبات الدينية التي تحمل معنى خاصاً لدى المجتمعات المحلية وزوارها. ومن أبرز هذه المناسبات الاحتفال السنوي بعيد انتقال السيدة العذراء، الذي يقام في 15 آب/أغسطس من كل عام لتكريم مريم العذراء، حيث يجتمع الناس للصلاة وترديد الترانيم وإحياء قداس خاص، مما يرسخ المكانة الروحية للكنيسة.

ومن التقاليد اللافتة أيضاً تقليد الصلاة المشتركة بين أتباع الديانات المختلفة؛ فبفضل موقع الكنيسة في بلد أغلب سكانه مسلمون، تحولت إلى رمز للسلام ومساحة لتعزيز التفاهم بين الأديان.ويأتي الزوار من جميع أنحاء العالم لإضاءة الشموع، وتلاوة الصلوات، وطلب البركة.

من بين الروايات الشعبية المتداولة حول تاريخ الكنيسة، هناك واحدة تتحدث عن تحوّلها إلى منارة أمل للبحارة العابرين للمتوسط، إذ كان الاعتقاد السائد أن تمثال العذراء في داخلها يرافقهم في رحلاتهم ويحميهم من غضب البحر.

استمدت كنيسة سيدة إفريقيا أهميتها الخاصة منذ البداية من تدفق المسلمين الجزائريين إلى هذا المزار. ففي وقت مبكر جداً، انضموا إلى الحج المتواضع إلى كنيسة سيدة الوادي. ورغم أن الكاتدرائية تعد موقعاً دينياً مهماً للكاثوليكيين في شمال إفريقيا، إلا أنها ذات أهمية بالغة للكثيرين من مختلف الديانات والخلفيات الثقافية. لما تمثله من رمز للأمل والسلام والوحدة، بالإضافة إلى كونها ليس مجرد فضاء للعبادة بل أيضاً معلمة تزخر بما يمكن أن يغري فضول الناس لعيش تجربة جمالية فريدة.

ومع مرور الزمن، لم تعد الكنيسة مجرد مبنى يطل على شواطئ الجزائر العاصمة، بل تحولت إلى مساحة يلتقي فيها ما تفرق في الخارج، وإلى علامة صامتة على احتمال التعايش حتى حين يبدو بعيداً.

روايات شعبية عن السيدة الإفريقية

منذ عقود، ارتبطت كنيسة السيدة الإفريقية في ذاكرة البحارة الجزائريين والملاحين عبر البحر الأبيض المتوسط بالسلامة والحماية، حتى أصبحت قصصها جزءًا من الفلكلور البحري المحلي. كان الاعتقاد سائداً أن تمثال السيدة الإفريقية، بيديه المفتوحتين وبرفقته الضوء المنبعث من شمع المذبح، يحمي السفن ويخفف من غضب البحر أثناء العواصف، فينقذ من في عرض البحر من الغرق أو المخاطر الملاحية. وقد تناقلت هذه الحكايات من جيل إلى جيل، لتصبح نصوصًا شفهية تربط المزار بالسلامة على المياه.

ولا تقتصر هذه الروايات على حماية البحارة، بل تتناول أيضاً قصصاً عن شخصيات محلية كان لها فضل على بناء الكنيسة أو الحفاظ عليها، حيث يُذكر أن بعض المصلين شاهدوا تمثال السيدة يتحرك بطريقة خفية أو يضيء في ليالي الظلام، في حين يروي آخرون عن شفاء مفاجئ للمريضين الذين زاروا المزار طالبين البركة.

هذه الأساطير الشعبية، رغم طابعها الرمزي، أسهمت في ترسيخ الكنيسة كمكان تجتمع فيه المعتقدات الروحية مع حكايات الحياة اليومية، وخلقت رابطاً ثقافياً فريداً بين الأديان والطبقات الاجتماعية المختلفة في الجزائر.

وهكذا، على ضفاف المتوسط، تقف كنيسة السيدة الإفريقية كمنارة معلقة تذيب ما تراكم بين المذاهب والأديان من فواصل. لا لأنها ترحب بالمسلمين والمسيحيين تحت سقف واحد فقط، بل لأنها تستحضر ما يتقاسمونه من قيم الرحمة والإحسان والإيمان بقوة الروابط الإنسانية. داخل هذا الصرح، تصنع القصص والصلوات واللغات حواراً صامتاً يعيد الاعتبار لذاكرة مشتركة تمتد عبر القرون.

كما أن كنيسة السيدة الإفريقية تمثل منصة للتبادل الثقافي والفكري، إذ يلتقي فيها الباحثون والفنانون والمؤرخون للاطلاع على الفن الديني، ودراسة العمارة التي تمزج بين الطراز البيزنطي والزخارف العربية، وفهم الرسائل الرمزية التي تحملها أيقوناتها وفسيفسائها. بهذا المعنى، تتحول الكنيسة إلى متحف حي للتاريخ الروحي والثقافي، حيث يقرأ الزائر عبر تفاصيلها فصولاً من التاريخ الجزائري وعلاقاته بالمتوسط وأوروبا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image