شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
دير سانت كاترين... السر النائم في جبال سيناء

دير سانت كاترين... السر النائم في جبال سيناء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الخميس 23 يناير 202502:40 م

في قلب جبال سيناء، حيث التضاريس الوعرة والوادي المقدس "طوى"، انطلقت قصة دير سانت كاترين وقبيلة الجبالية قبل قرابة 14 قرناً، عندما قرر الإمبراطور البيزنطي "جستنيان" بناء دير على هذا الجبل في فترة ما بين 548 و565 ميلادي، وجلب معه أفرادًا من مناطق متعددة، مثل الإسكندرية وساحل البحر الأسود، لتأمين احتياجات الرهبان. هؤلاء الأفراد أصبحوا يلقبون فيما بعد بقبيلة الجبالية، التي ارتبط اسمها بتلك الجبال المحيطة بالدير.  

قبيلة الجبالية والدير  

كان بناء الدير، الذي عُرف أولاً بـ"دير التجلي"، وأيضاً "دير الله المقدس"، مستندًا إلى روايات دينية تقول إن النبي موسى تلقى أمرًا إلهيًا بخلع نعليه لأنه كان في الوادي المقدس "طوى". ومن وحي هذه الروايات التي ارتبطت بالمكان، أصبح الدير مركزًا روحيًا، وجذب إليه الرهبان الذين كرّسوا حياتهم للعبادة والتأمل.

تعد العلاقة بين الرهبان وبدو الجبالية في دير سانت كاترين مثالًا على التعاون والتفاهم في بيئة قاسية وصعبة. فقد لعبت القبيلة دورًا محوريًا في دعم الرهبان وتوفير الإمدادات اللازمة لهم في ظل التضاريس الوعرة.

ليست الحياة في تلك المنطقة بالسهلة؛ فالطبيعة الجغرافية الوعرة والمسافات البعيدة جعلت من الضروري وجود دعم قوي للرهبان، فظهر دور قبيلة الجبالية كشريك أساسي، حيث تكفلت القبيلة بحماية الدير، وتوفير الطعام، والحطب، ونقل الإمدادات باستخدام الجمال عبر التضاريس الصعبة.

لم يكن الدير ليصمد لولا دعم البدو في تزويدهم بالمعلومات والموارد التي كانت ضرورية للتكيف مع البيئة القاسية. إضافةً إلى ذلك، كان البدو يعملون كمرشدين للحجاج والزوار، حيث قادوا قوافلهم عبر الممرات الجبلية الوعرة حتى وصولهم إلى الدير.

بمرور الوقت، تطورت العلاقة بين الرهبان وأفراد قبيلة الجبالية، لتصبح علاقة إنسانية وروحية متجذرة في التعاون والاحترام المتبادل. وصف الرهبان أفراد الجبالية بـ”أبناء الدير”، وهي تسمية تعكس قوة العلاقة التي تجاوزت مجرد الشراكة العملية لتصل إلى الروابط الإنسانية. 

حارس الدير 

رمضان ليس مجرد حارس للدير، بل هو شاهد يومي على حياة الرهبان والزوار، ومساهم نشط في المهام اليومية هناك. يُعتبر رمضان حلقة وصل حيوية بين الماضي والحاضر، وبين الرهبان وبدو الجبالية، حيث يعيش تفاصيل حياة يومية تجسد معنى التعايش بين الديانات السماوية المختلفة في هذا المكان المقدس.

يروي لنا رمضان الجبالي، حارس دير سانت كاترين، كيف بدأ عمله في الدير، ويأخذنا في رحلة يومية داخل هذا المكان المقدس ليحكي لنا عن الحياة الروحية والعملية التي يعيشها هناك، يقول: "منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمري، دخلت إلى دير سانت كاترين كحارس صغير، لا أدرك تمامًا حجم المسؤولية التي تنتظرني، أو عظمة المكان الذي سأصبح جزءًا منه. ومع الوقت، أصبح الدير ليس فقط مقر عملي، بل ملاذي الروحي والثقافي، فالحياة هنا تختلف تمامًا عن أي مكان آخر، حيث تُعاش كل لحظة بتأمل وروحانية".

يبدأ رمضان يومه مع أول ضوء للشمس، مستيقظًا قبل الخامسة صباحًا، حيث يبدأ بتحضير الدير لاستقبال الحجاج والزوار من مختلف أنحاء العالم. ويقول بأن فتح أبواب الدير في هذا الوقت المبكر ليس مجرد روتين، بل هو عمل يحمل رمزية كبيرة، كأنه يفتح أبوابه أمام العالم كله. فالحجاج والزوار، من مختلف الأديان والجنسيات، يأتون بحماس وفضول لرؤية هذا المكان المقدس الذي يجمع بين التراث الروحي والإنساني. 

بدأ رمضان الجبالي، أحد أحفاد القبيلة وحارس دير سانت كاترين الحالي حياته داخل الدير منذ 22 عامًا، دون أن يدرك أن هذا المكان سيصبح جزءًا لا يتجزأ من حياته، يقول إن عمله ليس مجرد وظيفة، بل تجربة حياتية وروحية، ويصف الدير بأنه بيته لا عمله

وفي تمام الساعة الخامسة، يبدأ رمضان في استقبال الحجاج ويوجههم إلى أماكن الصلاة، ثم يظل مراقبًا بحرص خلال القداس الذي يبدأ في السادسة صباحًا. يصف رمضان دائمًا كيف يدهشه هدوء الرهبان وتركيزهم أثناء الصلاة، الأمر الذي ينعكس على الزوار الذين يأتون لأداء الطقوس الدينية أو للتعرف على التاريخ العميق للدير. وبعد القداس، يبدأ الرهبان في أداء أعمالهم الروحية والعلمية، بينما يواصل رمضان متابعة سير العمل داخل الدير، سواء في تنظيم الزيارات أو مساعدة الرهبان في مهامهم. 

وخلال فترة النهار، يتفاعل رمضان مع الرهبان بشكل وثيق، وقد تعلم منهم الكثير عن النظام والتواضع بحسب كلماته، وأصبح يشعر بأنهم جميعًا عائلة واحدة. يتشاركون اللحظات الصامتة التي تحمل معاني عميقة، بالإضافة إلى الطعام البسيط والصحي الذي يتناوله الجميع معًا. ورغم أنه اعتاد على الطعام النباتي الذي يفضله الرهبان، إلا أنه أصبح يقدره بشكل أكبر مع مرور الزمن.

في المساء، تجتمع قلوب الجميع في الصلاة مرة أخرى، حيث تسود الأجواء الهادئة والمليئة بالتأمل. وعندما يبدأ الليل، يُغلق الدير أبوابه وتخيم السكينة على المكان. يقول رمضان إن الحياة في الدير ليست مجرد عمل، يقول: "الحياة هنا ليست مجرد عمل، بل إنها تجربة شاملة تحمل العديد من الدروس، تعلمت من الرهبان أهمية النظام، قيمة البساطة، وأهمية الروحانية في الحياة اليومية، وعلى الرغم من أن طبيعة عملي تبدو شاقة أحيانًا، إلا أنني لا أستطيع تخيل نفسي خارج هذا المكان".

ويستكمل حديثة قائلًا: "الدير ليس مجرد مكان أثري أو ديني، إنه قصة إنسانية مستمرة، تجمع بين الناس من خلفيات وثقافات مختلفة، أعيش هنا مع قبيلة الجبالية والرهبان في تناغم فريد، ولو عُرضت عليّ أي فرصة للسفر أو العمل في مكان آخر، لن أقبل".  

الأديان الثلاثة 

ما يميز دير سانت كاترين عن غيره من المواقع الدينية هو كونه ملتقى للأديان السماوية الثلاث: الإسلام، والمسيحية، واليهودية. يستقبل زوارًا من جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم، يتحدث رمضان عن الزوار قائلاً: “الكثير منهم يعودون مرارًا وتكرارًا لأنهم يجدون هنا راحة فريدة. البعض يقضي إجازاته السنوية في هذا المكان، ليعيش تجربة تمزج بين التاريخ، والثقافة، والروحانية". 

ويختتم: "الحياة هنا علمتني دروسًا لا تُقدَّر بثمن، تعلمت قيمة التعاون، وأهمية البساطة، والروحانية في الحياة. فالعلاقة بين الرهبان وقبيلة الجبالية مثال حي على كيف يمكن للناس من خلفيات مختلفة أن يعيشوا معًا في سلام وتناغم".

وحتى يومنا هذا، يظل دير سانت كاترين شاهدًا على تاريخ طويل من الشراكة بين الرهبان والبدو. هذه العلاقة، التي بنيت على أسس من الاحترام والتفاهم المتبادل، وتُعد مصدر إلهام للعديد من المجتمعات حول العالم، حيث تبرز أهمية التعاون في مواجهة التحديات. يمكننا أن نتعلم الكثير من هذه العلاقة، ليس فقط عن كيفية التعايش في بيئة صعبة، بل أيضًا عن قيمة الحوار والعمل المشترك في بناء مستقبل أفضل.

"في العصر الحديث، أصبح الدير موقعًا تراثيًا عالميًا مدرجًا ضمن قائمة اليونسكو. هذا التطور أضاف بُعدًا جديدًا للعلاقة بين الرهبان والبدو، حيث بات الطرفان يعملان معًا للحفاظ على الموقع وحمايته من التأثيرات السلبية للسياحة والتمدن، فالبدو الذين ما زالوا يعيشون حول الدير، يلعبون دورًا مهمًا في خدمة الزوار وتأمين احتياجات الدير، بينما يستمر الرهبان في أداء دورهم الروحي".

ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تطوير منطقة سانت كاترين فكان مشروع التجلي الأعظم والذي يُعد أحد أهم المشروعات التنموية في سيناء، يقول الدكتور باسم حلقة، نقيب السياحيين في مصر، لرصيف22: إن هذا المشروع يُعد من المبادرات الحيوية التي تأتي ضمن خطة التنمية الشاملة في سيناء، لا سيما في منطقة سانت كاترين، نظرًا لأهميتها التاريخية والدينية، ويضيف، أنه يستهدف إحياء الأماكن المقدسة ذات القيمة الروحية والإنسانية العالية، مثل موقع التجلي الأعظم على جبل موسى ودير سانت كاترين، مما يعزز مكانة سانت كاترين كوجهة سياحية بارزة على المستويين المحلي والعالمي.

ويشير نقيب السياحيين، أن الدولة حرصت على تبني نهج شامل في عملية تطوير المنطقة، مع التركيز على الالتزام بالمعايير البيئية العالمية، بهدف تحويل سانت كاترين إلى نموذج رائد للمدن البيئية، حيث إن المشروع يشمل تجهيز مطار سانت كاترين ليستقبل رحلات مباشرة من مختلف الوجهات، ما سيجعل الوصول إلى المنطقة أكثر سهولة، وبالتالي يرفع من معدل الإقبال السياحي ويعزز من تنشيط القطاع السياحي بشكل عام. 

تعزيز السياحة وتحسين حياة السكان المحليين

ويؤكد أن التطوير لا يقتصر فقط على الجانب السياحي، بل يشمل أيضًا الاهتمام بالجانب الاجتماعي والاقتصادي للسكان المحليين، حيث أن الدولة تعمل على تطوير الظهير العمراني في المنطقة من خلال إنشاء وحدات سكنية بيئية تتماشى مع الطبيعة الفريدة لسانت كاترين، وتُخصص هذه الوحدات للعاملين والبدو المقيمين في المنطقة، بما يضمن توفير حياة كريمة وسكن لائق يلبي احتياجاتهم ويعزز من استقرارهم.

ويختتم الدكتور باسم حديثه بالتأكيد على أن هذا المشروع يجسد رؤية الدولة لتطوير المناطق ذات الأهمية التاريخية والدينية، مع الحفاظ على خصوصية البيئة الطبيعية، بما يسهم في تحقيق تنمية مستدامة تضمن استفادة الأجيال الحالية والمستقبلية.

ويظل دير سانت كاترين رمزًا للتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة في قلب صحراء سيناء، وهذا التلاحم بين الماضي والحاضر أصبح اليوم محورًا رئيسيًا في مشروع التجلي الأعظم، الذي يسعى لإبراز المكانة الروحية لسانت كاترين وتطويرها لتكون وجهة سياحية عالمية. ومع الحفاظ على طبيعة المنطقة وجمالها الفريد، يبقى هذا المكان شاهدًا على قدرتنا على العيش معًا في سلام، والتعلم من التاريخ لبناء مستقبل أفضل.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image