تمشيتُ في يوم رائق على جسر خشبي يقسم منطقة جزيرة الروضة إلى جزئين؛ جنوبي ويُسمى "المماليك"، وشمالي ويُسمّى "منيل الروضة"، وهذا الأخير يضمّ قصر المانسترلي في نهاية الجزيرة، وهو مطلّ على نهر النيل.
اقتطعتُ تذكرةً بسعر رمزي (10 جنيهات)، للتجول داخل قاعة ملحقة بقصر المانسترلي خُصصت لمتحف أم كلثوم الذي افتتحته وزارة الثقافة في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2001.
في أرجاء القاعة، يصدح صوت "الست" المخملي بأغانيها، الواحدة تلو الأخرى، دون توقف.
المتحف يحتضن مقتنيات أم كلثوم وفساتينها المظلومة مع تقنية الأبيض والأسود، إذ تخفي ألوانها الحقيقية الجريئة التي تختلف عن تلك الشخصية الثابتة المتحفظة التي لطالما رأيناها نحن أبناء الأجيال التي لم تعاصرها
المتحف يحتضن مقتنيات أم كلثوم وفساتينها المظلومة مع تقنية الأبيض والأسود، إذ تخفي ألوانها الحقيقية الجريئة التي تختلف عن تلك الشخصية الثابتة المتحفظة التي لطالما رأيناها نحن أبناء الأجيال التي لم تعاصرها، وتعرّفنا عليها فقط من خلال حفلاتها.
لا أتقبل فكرة توقف حدود ذكاء أم كلثوم عند غنائها. لا بد أنه شمل رؤيتها الخاصة تجاه ما ترتديه قبل كل حفلة. هذا ما أكدته بالفعل مصممة الأزياء الخاصة بها مدام فاسو، في إحدى حواراتها، كاشفةً أن أم كلثوم كانت لا تخضع للصيحات العالمية دون وعي، بل كانت تضيف روحها إلى كل فستان، وتعرف أن تواكب أحدث صيحات الموضة بلا ذوبان فيها.
هذا الذكاء كشفته صورها قديمة العهد التي من بداياتها. حينها لم تكن أم كلثوم التي نعرفها؛ كانت ترتدي أزياءً بدويةً بعقال (غطاء رأس)، تقف فيها كصبي متجهّم، لا تتميز بشيء عن ملابس أخيها خالد الذي يقف بجوارها، ولم يكن يميزهما سوى فارق السن. كانت هي صبيةً صغيرةً بينما كان أخوها شاباً يافعاً.
فكيف حدث هذا التحول لتصبح طلّة أم كلثوم ذات هوية أصيلة، تُكمل تصوّرنا عن ذكائها وجهدها في الفن؟ وكيف أثّرت بيئتها على ملابسها طوال حياتها؟
أم كلثوم... فتاة ريفية بعقال رجالي
قال صاح الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي، في أثناء قراءته كتاباً عن أولاد النبي: "لقيت الاسم... نسمّيها على اسم بنت النبي أم كلثوم". قالها قبل معرفته جنس مولودته التي انتظر ميلادها جالساً على الأرض في بيت من الطوب النيئ في إحدى قرى الريف المتواضعة التي لا يعلو أكبر مبنى فيها عن دورين، ولا يتّسع شارعها الوحيد لأكثر من "كارتة". هناك وضعت السيدة فاطمة المليجي مولودتها في قرية تماي الزهايرة بالقرب من مدينة السنبلاوين في محافظة الدقهلية في الدلتا. جالت الداية القروية في المنزل لتخبر ذويه بقدوم المولودة بسلام دون أن تفصح عن جنسها، خوفاً من غضب الأب لولادة فتاة.
قصة ميلادها التي ذكرها الكاتب محمد عوض، في كتابه "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد"، والكاتب رجاء النقاش في كتابها "لغز أم كلثوم"، تشير إلى أنه بخلاف عمل الشيخ إبراهيم في الإمامة، كان يقرأ القرآن في الموالد ويعلّم ابنه خالد التواشيح الدينية والقصائد كي يعينه على عمله الإضافي الذي بالكاد يكفي إطعام أسرته ومعيشتها بشق الأنفس.
في إحدى المرات، راقب الأب أم كلثوم في أثناء قيامها بتقليده وهو يغنّي، فطلب منها الحضور معه إلى حفلة شيخ البلد، وأغراها بصحن مهلبية كي توافق.
الحفل المنتظر هذا حضره وقتها خمسة عشر شخصاً كانوا هم الجمهور الأول لأم كلثوم، بعدما غنّت أمامهم بتشجيع من والدها، وسمعت لأول مرة التصفيق بعد 5 دقائق من الغناء.
من حفل إلى حفل، وقرية إلى قرية، ذاع صيت أم كلثوم الفتاة الصغيرة التي تجيد غناء التواشيح وتحفظها عن ظهر قلب، وصارت تذهب إلى القرى المختلفة بحثاً عن رزقها ورزق أسرتها، وكانت تصل إما مشياً وتقطع مئات الكيلومترات، أو راكبةً على ظهر حمار، وعن تلك الرحلات الأولى كتب الصحافي المصري كتابه: "مذكرات الآنسة أم كلثوم... ووثائق أخرى".
ذكر أن محصلة غناء أم كلثوم وأخيها ووالدهما في حفلات الريف نصف ساعة على الأكثر دونها 3 ساعات ونصف من "الخناقات" والمعارك التي تدور بين المتفرجين كسمة من سمات أفراح أهل الريف ومناسباتهم.
وسط هذه الأجواء، عاشت أم كلثوم سنواتها الأولى؛ ما ميّزها هو صوتها أولاً، وزيّها الرجالي الذي بقيت محافظةً عليه حتى بعد مجيئها إلى القاهرة عام 1926.
تقول في إحدى حواراتها التي أشار إليها الكاتب محمد عوض: "كان أبي غير مستريح لفكرة اشتغال ابنته بالغناء، وكان لا يمانع في أن يغنّي ولده، أما ابنته فلا، وكان هذا هو السرّ في العقال الذي وضعته على رأسي عدة سنوات".
وفي "لغز أم كلثوم"، يذكر رجاء النقاش، أنه لم يكن سهلاً أن تقف فتاة أمام زمرة من رجال القرى تغني دون أن تنال ما يناله غيرها من وصمة أخلاقية، فكان الزي الرجالي بمثابة سِتر تخفي وراءه ملامح أنوثتها ووصمة الغناء في ذلك الوقت، ومع بدايات انتشارها واجهت نظرات استهجان.
أما في مطلع عشرينيات القرن الماضي، فطُلبت للغناء في قصر أسرة من أعيان الصعيد، هي أسرة عبد الرازق، ولم تنجُ من نميمة النساء اللواتي أبدين تعجباً من ملابسها الريفية. تسجّل تلك الواقعة إحدى صديقات زوجة عبد الرازق باشا، وقد تطرق إليها بالتفصيل الكاتب محمد عوض، فتقول: "جاءت الفتاة وحدها والنساء يدفعن بها إلى داخل القاعة، وكانت ترتدي الملابس الريفية، وتشعر بالخجل وسط سيدات الأسرة بملابسهن الفخمة. استهان الحاضرون بهذه الفتاة الريفية البسيطة. سارت بين صفوف الضيوف، وطرحتها السوداء تغطّي وجهها ورأسها ما عدا عينيها وفمها حتى وصلت إلى المكان المعدّ لها، ثم بدأت تغني".
العباءة الرجالية هي أول ما لفت نظر الملحن محمد القصبجي عندما شاهدها للمرة الأولى في حفلة في بدايات تواجدها في القاهرة: "ترتدي عباءةً رجاليةً سوداء، وتلفّ رأسها بكوفية مثبتة بعقال على عادة عربان الصحراء، وتظهر على المسرح بحسنها الأخّاذ وسط أربعة من المشايخ، وتغنّي وهي واقفة بلا أي آلات معتمدةً على موسيقى صوتها الفريد"، وفق ما جاء في كتاب "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد".
ومع هذا، كان غناء أم كلثوم لدى عائلة عبد الرازق فاتحة خير لها ولأسرتها، وبتشجيعهم انتقلت مطلع العشرينيات للعيش في القاهرة. كانت تجد في هذه الأسرة ما يهدّئ روع تناقضات داخلها، فكثيرون من أبناء أسرة عبد الرازق يلبسون العمامة ويتحدثون في الوقت نفسه لغات إفرنجيةً بطلاقة. كان مصطفى عبد الرازق أيضاً شيخاً معمماً ويتقن الفرنسية، ما أعطاها فكرةً عن كيفية الدمج بين الحداثة والأصالة أو التمسك بالقديم مع عدا الانجراف إلى الأصولية ومخاصمة التجديد، بل التصالح بين هذا وذاك.
أم كلثوم ونساء القصور
حين دُعيت أم كلثوم لحضور مناسبات الأعيان، وفي بيت عبد الرازق، سنحت لها فرصة مشاهدة أزياء سيدات مصر الثريات الراقيات ومراقبة سلوكهن الذي تشبّعت به، وصادقت عدداً من نساء هذه العائلات من بينهن روحية المهدي، زوجة رئيس نادي الموسيقى الشرقي، وسميرة أباظة وأفراد أسرتها، وأخت حجازي باشا، محافظ القاهرة، ومع الوقت أخذت أم كلثوم تقلّد سيدات هذه العائلات في تصرفاتهنّ، فالكثيرات منهن شكّلن نماذج ناجحةً في أمور الحياة اليومية، يُحتذى بهن في الأناقة.
وبدأت الفتاة اليافعة أم كلثوم تدريجياً، وتحديداً خلال الأعوام من 1922 إلى 1928، بإدخال بعض التعديلات على سلوكها ومظهرها العام كجزء من سعيها إلى صناعة رصيد غنائي وهوية مهنية تضمن بهما استمرار الطلب عليها وتحقيق الشهرة والثروة اللتين انتقلت إلى القاهرة من أجلهما.
كما لعبت المقالات النقدية في ذلك الوقت دوراً في تغيير أم كلثوم لأزيائها وشخصيتها بشكل عام، حين ركزت معظمها على موهبتها التي تحتاج إلى صقل ليس فقط على المستوى الفني والتدريبات، ولكن أيضاً على مستوى حاجتها إلى التطوير والتخلي عن تعبيراتها الريفية البسيطة.
القاهرة عام 1926... من العقال إلى الفستان
شهد هذا العام بقاء أم كلثوم في القاهرة، لتتخلى مع هذا البقاء في المدينة عن الأزياء الرخيصة والعقال، وبعد سنوات من عملها كانت تسافر لإحياء حفلات في الإسكندرية، وكان أكبر مبلغ تتقاضاه 15 جنيهاً.
حينها، كان يصطحبها أبوها في اليوم السابق للحفل، إلى محال هانو في الإسكندرية، لشراء فساتين جديدة بالـ15 جنيهاً، ثم يدفع بعد ذلك أجر السفر إلى الإسكندرية من جيبه، مُظهراً اهتماماً بالغاً بمظهرها طالما أتيحت المادة والمكان الذي يسمح بوجود مغنية، بخلاف الريف.
"المهم في المسألة ليست تكاليف الفستان إنما ذوقه، هكذا أرى... وبالنسبة لي فإنني لا أنقل الموضة مع أنني أتابعها لكن آخذ منها ما يناسبني... أنا لا أريد أن أرتدي فستاناً ألفت به نظر الناس وإلا أبقى معرض موضة"
كانت فساتين أم كلثوم تتسم بالحشمة والتحفظ وتناسب جديتها في الحياة والفن. يقول عنها الصحافي والناقد الفني جورج طنوس، وفق ما ذكره رجاء النقاش: "محتشمة في ملابسها كأنها تريد أن تقول: أنا مغنية لا ممثلة، ومغنية لست كسائر المغنيات".
وأوضحت أم كلثوم في إحدى المقابلات أنها تهتم بأناقتها، لكن دون مبالغة في دفع كلفة كبيرة لكل فستان ترتديه، "المهم في المسألة ليست تكاليف الفستان إنما ذوقه، هكذا أرى... وبالنسبة لي فإنني لا أنقل الموضة مع أنني أتابعها لكن آخذ منها ما يناسبني... أنا لا أريد أن أرتدي فستاناً ألفت به نظر الناس وإلا أبقى معرض موضة".
حددت 4 مواصفات حافظت عليها في انتقاء الفستان، هي أن يكون "محتشماً، مواكباً لخطوط الموضة السائدة، ألوانه منسجمة، وبسيطاً".
ظلت تتبع هذا النمط من البساطة والأناقة طوال حياتها، حتى في تسريحات شعرها الملمومة إلى الوراء وكأنها تقدّم نفسها كواحدة من أفراد الطبقة العاملة في مصر، أو كما يقول زوجها: "كانت محافظةً جداً... كانت بنت ريف بحق، ملابسها وتسريحاتها تعكس طبيعتها كواحدة من بنات الريف... كانت أم كلثوم بنت ريف أنيقةً ترتدي أحدث الأزياء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت