نيوتن… مثارَ جَدلٍ على مدخل المكتبة البريطانية

نيوتن… مثارَ جَدلٍ على مدخل المكتبة البريطانية

رأي نحن والتنوّع

السبت 13 ديسمبر 20257 دقائق للقراءة

فاتني، في زياراتي السابقة لعاصمة المملكة المتّحدة، أنْ أزورَ مَعْلماً ثقافيّاً بارزاً من معالم لندن: المكتبة البريطانيّة "British Library"، وقد عزمتُ خلال هذه الرحلة أن لا أفوّت الفرصة مرّةً ثانية، فعجلةُ العُمر تُسرّعُ في دورانها، ووطني باتَ موطناً للمخاطر.قوأنا أَهُمّ بالدخول إلى المكتبة من باحتها الرئيسيّة الرحبة، لَفَتني تمثالٌ ضخم من البرونز الداكن في جانبٍ طرفيّ من جوانبها. واللافت أنّ صاحب التمثال لا يتصدّرُ الباحة، كما ولا يعيرُ انتباهاً لروّاد المكتبة، كما هي حال أصحاب التماثيل في المراكز وفي الباحات والأماكن العامة الذين يلاقون الزوار برؤوسٍ مرفوعة وجباهٍ عالية، فهو مشغولٌ عنهم بأمرٍ هام، بمخطّطٍ هندسيّ على ما يبدو: الفرجار (البيكار) بيده اليسرى وباليد اليمنى يثبّت لوحة الرسم.

بين الفن والعلم

من سبقَ وشاهد في متحف "Tate Britain" في لندن، لوحة نيوتن "Newton" للشاعر والفنّان البريطاني وليم بليك "William Blake" لا تفوته معرفة صاحب التمثال: إنّه ولا ريب إسحق نيوتن، العالم الفيزيائي البريطاني الذي فاقت شهرة تفاحته العلميّة شهرة تفاحة جدّنا آدم الرمزيّة.

لوحة بليك ظهرت عام 1795 بعنوان "نيوتن"، والتمثال أنجزه الفنّان البريطاني من أصل إيطالي إدواردو باولوزي "Eduardo Paolozzi" بعد مئتي عام، 1995 بالتمام والكمال، تحت عنوان: "نيوتن ما بعد وليم بليك Newton after William Blake".

كان بليك شاعراً وفناناً رومانسيّاً يمجّد جمال الطبيعة والروح ولا يرى للوجود من معنى من دون الخيال والفنون. وانطلاقاً من هذه النظرة كان يرى في العالم نيوتن تجسيداً للعلم والعقل الخالص، للمادية وللنظرة الأحادية للوجود من خلال عدسة العلم. لذا جاءت لوحته عن نيوتن نقداً للعالِم أكثر منها تمجيداً له

وكما يبدو من ظاهر اللوحة والتمثال فإن باولوزي استوحى، في عمله، لوحة نيوتن لبليك. ولكنّ العنوان يشي باختلاف النظرة لموضوع العمل الفني بين الرسّام والنحّات وبأن نيوتن باولوزي غير نيوتن بليك.

كان بليك شاعراً وفناناً رومانسيّاً يمجّد جمال الطبيعة والروح ولا يرى للوجود من معنى من دون الخيال والفنون. وانطلاقاً من هذه النظرة كان يرى في العالم نيوتن تجسيداً للعلم والعقل الخالص، للمادية وللنظرة الأحادية للوجود من خلال عدسة العلم. لذا جاءت لوحته عن نيوتن نقداً للعالِم أكثر منها تمجيداً له.

فخلفيّة اللوحة تزخرُ بجمال الطبيعة البِكر وألوانها الأخّاذة ونورها الوضّاء، فيما يديرُ نيوتن ظهره لهذا المنظر البديع، لا بل يتقوقع وينغلق على عمله، وينصرف عن هذا الجمال إلى مخططاته الهندسية، مركّزاً جسمه ونظره وكلّ حواسه وطاقته على هذه اللّفافة الباهتة والخالية من أي عنصرٍ جمالي، سوى أنّها تحمل رسماً هندسيّاً!

نيوتن عارياً.. لماذا؟

ولكن لماذا، يا أيها الفنّان الرومانسي، رسمتَ مُواطنكَ نيوتن عارياً وبجسدٍ يشبه أجساد رجال الإغريق؟بلا، ليس كرجال الإغريق يا صاحبي! عُريُ رجالهم إنساني طبيعي يحتفلُ بجمال التكوين، أمّا نيوتن بمفهومي فهو عارٍ من أبعاد وطبقات الوجود المتعدّدة، ولكن ليس من العقل! ولا أخفي عنك بأنني لا أحب العقلانيّة المفرطة، إذ إنّ ارتفاع منسوبها في تفسير الوجود وفي النظر إليه يأتي على حساب الروح.

ومع أنّ جسد نيوتن في لوحتي يبدو متناسقاً ويُغري مقارنة بالمثال الإغريقيّ، إلاّ أنّه جسمٌ خالص بدون روح! إذ هو يدير ظهره لكلّ ما هو جميل في هذا العالم! وهذا ما لا يروقُ لي مهما علا شأن عالِمنا في مجال العلوم الفيزيائيّة والرياضيّة والفلكيّة. ليس من شكٍ في أن نيوتن عبقريُّ زمانه وكلّ الأزمان، ولكنّ اكتشاف قوانين الطبيعة، بنظري، لا يصنع وجوداً واسع الآفاق، حرّاً، منفتحاً وإنسانيّاً. ألا ترى معي يا صاحبي، وأنت على بعد ثلاثة قرون من زمان نيوتن، من زمان انطلاقة الثورة العلمية والصناعية، أنّ العالم، بشراً وحيواناً وحجراً، ورغم كلّ التطوّر العلمي، وكل الثورات التكنولوجية والرقمية المتعاقبة، بات أكثر قلقاً على وجوده بالذات منه إلى عالمٍ أفضل!

وأنت، يا أيها الفنّان السوريالي والنحّات العظيم، أَتحتفي بصاحب هذا التمثال أم تُقَرّعه كسَلَفك بليك؟ ما لي أرى أمامي جسداً ميكانيكياً تصل المسامير بين مفاصله ويبدو كأنّه يضع نظّارة ثلاثية البعد على عينيه، أهو إنسانٌ أم روبوت؟لهو إنسان وروبوت معاً. دَعْني، قبل أن أشرح لك رؤيتي، أنْ أخبركَ بأنّي لا أحتفي، في هذا العمل الفنّي، بنيوتن فقط بل وبوليم بليك أيضاً. أردتُ الاحتفاء بالعالِم والفنّان معاً. وكنتُ قد صرّحتُ منذ ثلاثين عاماً، لحظة ظهور التمثال، بأني أرى فيه "اتحاداً مُثيراً للعبقرية البريطانية في مجالَي الفنّ والعلم".

هل التمثال إنسان أم روبوت؟ ليس لي إلا أن أحيلك على ما أدلى به بعض النقاد: "لقد أعاد باولوزي لنيوتن إنسانيته من خلال إعطائه جسماً ميكانيكياً شبيهاً بالروبوتات، مما يشير إلى أنّ العلم نفسه نتاج خيالٍ بشريّ وليس نقيضاً له"

لذا فقد صهرتُهما معاً -العلم والفن- في قالب واحد بقدر ما صهرتُ معدن البرونز ليكون مطواعاً لنظرتي. وطبعاً، لا يخفى على المتابعين أنّي قد استلهمتُ في عملي هذا لوحة بليك، في تناصٍّ فنّي على غرار التناصّ الأدبي، وكل تناصّ هو بوجهٍ من الوجوه احتفاء من العمل اللاحق بالعمل السابق مهما اختلفت النظرة بينهما. وطبعاً لم أنسخْ عمل سَلَفي الفنّي، بل أعدتُ قراءة نيوتن وفقاً لزماني وبما يتلاءم مع نظرتي لأحد آباء الثورة العلميّة الكونيّة.

الذهول

على مسافة قرنين من الزمان، بليك الرومانسي على خط البداية، بداية الثورة العلميّة الصناعيّة، يراقب بنظرةٍ مشوبة بالحذر، يخاف سطوة العقل ويطلق عبر لوحته تحذيراً: هناك شيء مفقود في هذه الثورة، الروح والخيال. أمّا أنا الذي على خط النهاية، نهاية الثورة الصناعية وبداية ثورات متتالية: تكنولوجية، معلوماتية، رقمية — فقد كان من حظي أن أنتفع بثمار هذه الثورات وأن أعاين ما قدّمته من مكاسب للبشرية وأن ألمس الآفاق التي فتحتها، فوجدتني أمجّد هذه الثورات وأحتفي بآبائها، ومن أولى بذلك من نيوتن!

هل التمثال إنسان أم روبوت؟ ليس لي إلا أن أحيلك على ما أدلى به بعض النقاد: "لقد أعاد باولوزي لنيوتن إنسانيته من خلال إعطائه جسماً ميكانيكياً شبيهاً بالروبوتات، مما يشير إلى أنّ العلم نفسه نتاج خيالٍ بشريّ وليس نقيضاً له"

لذا جعلتُ من تمثال نيوتن ضخماً على قدر عظمة الثورة العلمية التي أطلقها و"رمزاً حداثياً تكنولوجياً" كما رأى فيه بعض النقّاد، بل "آلة معرفية" كما رأى بعضهم الآخر. و"أردتُ لنيوتن أن يكون آلة، لأنّ العلم نفسه آلة يتغذّى عليها الخيال". وأنا هنا أخالف بليك، فكل الاكتشافات العلمية تطلّبت خيالاً مُجنّحاً، وما "الخيال العلمي" بحدّ ذاته إلا وليد عقل نيوتنيّ. ومع كل ذلك "لم أرَ رفض بليك للعقلانية نهايةً للحوار، بل بداية لسؤالٍ جديد: ماذا يحدث حين نمزج الخيال بالرياضيات؟"

أصارحكَ، يا "إدواردو"، بأنّي أخطأتُ التقدير. فقد راودتني أول الأمر فكرة مفادها أنّ هذا التمثال مكانه متحف العلوم في غرب لندن أو باحة منشأة علميّة، وليس مكتبة وطنيّة، وأنّ حُسن الاختيار قد جانَبَ "باولوزي" وأولي الأمر في المكتبة البريطانيّة!

هذا الصرح الثقافي المعرفي البحثي الذي يُعدّ من أكبر الصروح المعرفيّة في العالم، ويحتوي على مجموعات متنوعة من كتب وأدوات المعارف والعلوم والفنون لشتّى شعوب الأرض وعلى مدى الأزمان المعرفية الطويلة (أكثر من 170 مليون عنصر ومرجع ثقافي ونحو 14 مليون كتاب)، لا يقيم روبوتاً على مدخله، بل يحتفي بعمل واحد بثلاثة أعلام بريطانيّين: نيوتن، بليك وباولوزي، ويعرض لنا نموذجاً خلّاقاً يجمع في رمزيّته بين العلم والفن.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image