في الانتقال من سؤال "ما الأدب؟" إلى سؤال "لماذا الأدب؟" ننتقل بمستوى السؤال من التصنيف والتعريف الماهوي إلى مستوى الغايات والجدوى. فالانطلاق من "لماذا؟" هو انطلاق لمعاينة المتغيّر في وظيفة الأدب. وفي هذا النص استعراض سريع لما انشغلت فيه بعض المدارس الغربية المعاصرة في لحظات مفصلية، ومعاينة لموقع الأدب، وخاصة الشعر، في اللحظة الراهنة.
فريدريك جيمسون وتيري إيغلتون كتبا عن الأدب والثقافة في سياق صعود النيوليبرالية في الثمانينيات والتسعينيات ثم تطوّرها مطلع الألفية، وانشغلا بالهواجس التي حملتها تلك اللحظات من تراجع المشاريع الثورية، حيث بدا أنّ الرأسمالية المتأخّرة باتت قادرة على إنتاج ثقافتها الخاصة، وأنّ النقد الأدبي أصبح مطالباً بكشف البُنى السياسية خلف النصوص.
ما الذي يصنع الشعر في كل زمن؟
يقدّم فريدريك جيمسون مشروعاً تأويلياً شاملاً يركّز على البنية التاريخية للأدب بما هو نتاج ثقافي يتيح قراءة ومعاينة "اللاوعي السياسي" للثقافة، إذ إنّ الأعمال الأدبية تعكس تحوّلات العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتأثير آليات رأس المال في تشكيل النصوص. في حين يتواءم تيري إيغلتون مع جيمسون في أنّ الأدب هو منتج ثقافي يقع ضمن علاقات القوّة والصراع الطبقي، ولكن إيغلتون يتجاوز الإطار الكُلّي الجيمسوني إلى ملاحظة وظائف أخرى للأدب، أبعد من تشكيل الوعي السياسي، إلى تشكيل قيم جمالية وأخلاقية تُسهم في فهم الذات والآخر، وهذا يضع المعنى الإنساني في عالم دائم الاتّساع.
وعلى الضفّة المحافظة، بلور روجر سكروتن كتاباته في الفترة الزمنية عينها، وفي سياق تطوّر النزعة المحافظة في بريطانيا، مقدّماً رغبته في الدفاع عن التراث الجمالي والأخلاقي ضدّ النسبية وما بعد الحداثة.
فالأدب والفنّ يحفظان القيم والتقاليد الثقافية، وأنّ فهم الفرد للعالم لا يكتمل إلّا عبر الانغماس في التراث الأدبي والفني. يشير سكروتن إلى أنّ الأدب الكلاسيكي ليس إرثاً متحفياً يقدّم جماليات شكليّة، بل يحمل نظاماً أخلاقياً وثقافياً يعكس حكمة الأجيال السابقة، يعرّف القيم، يحدّد ما هو جيّد، ويعلّم الفرد كيف يقيّم العالم من منظور جمالي وأخلاقي، وليس كمنتوج شخصي أو اعتباطي.
الأدب له وظيفة المحافظة على القيم المجتمعية والتاريخية في لحظة التغيير. وللنص قدرة على نقل التجربة الإنسانية بشكل عميق ومستمرّ، ويمثّل مساحة للتأمّل الأخلاقي تضع القارئ أمام الصراعات الإنسانية، وتتيح له ممارسة الحرّية داخل إطار ثقافي متماسك.
ترى مدارس جيمسون وإيغلتون أن الأدب منتج ثقافي ينشأ داخل علاقات القوة، ويكشف "اللاوعي السياسي" للمجتمع. بينما تضيف تيارات أخرى أن الأدب ليس فقط أداة وعي سياسي، بل أيضاً وسيلة لتشكيل قيم جمالية وأخلاقية وفهم الذات والآخر
وعلى النقيض منه، ولكن من زاوية أخرى تتبنّى الرأسمالية كنظام قيم ثقافي وأخلاقي في مواجهة المدّ السوفياتي أواخر الستينيات من القرن الماضي، تناولت آين راند الفردانية كضرورة لتجسيد الأخلاق العقلانية الليبرالية في مواجهة الأيديولوجيات الجماعية.
وبهذا، فإنّها اعتبرت مكانة الأدب في فلسفتها الفردانية أداة لتعزيز حرّية وفاعلية الفرد. في "مانيفستو الرومنطيقية" ترى راند أنّ الأدب الرومانطيقي يعكس إمكانيات الفرد الوجودية ويعبّر عن قيمه العقلانية بما هو إعادة خلق للواقع وفق أحكام قيمة الفرد ولتجسيده ككائن قادر على المبادرة والاختيار الحرّ.
وبهذا تعيد راند تعريف الرومنطيقية بما هي تمثيل وتمجيد للقوّة والإرادة الفردية، حيث الشخصية البطولية هي المثال الأعلى للقيم الإنسانية التي يجب أن يسعى إليها الفرد. فتحقيق الفرد لسعادته الخاصة هو الغرض الأخلاقي الأسمى له. وبهذا فإنّ النص الأدبي بالنسبة إليها ليس مجرّد تمثيل للعالم، بل إطار لتجربة القيم الفردية. فكلّ شخصية وكلّ صراع يحمل رسالة عن الاختيار الأخلاقي والقدرة على الفعل.
التفكيكية والشعر
غير أنّ مدرسة التفكيك الفرنسية بدورها نظرت إلى الأدب بوصفه آلية تعبيريّة تُعرّي حدود المعنى الثابت. فجاك دريدا، الذي بلور تفكيكه في مناخ الستينيات الفرنسي حيث كانت البُنى اللغوية والفكرية محلّ مساءلة جذرية، وضع رؤيته للنصّ الأدبي بوصفه فضاءً لا نهائياً لـ"التأجيل".
هذه النظرة تعكس لحظة فكرية اهتزّت فيها يقينيات الحداثة، فكان التفكيك ردّاً على أزمة المعنى. فالكتابة بالنسبة إليه لها قابليّة لتأجيل المعنى وتسعير اعتِماله عبر توليد الاختلافات في القراءات، ممّا يجعل النصّ مكاناً لإنتاج سؤالٍ مستمرّ عن الحقيقة والهوية. وبهذا يصبح الجواب عن جدوى هذا النتاج تعريةً لزيف وضوح الحضور وسلطة اليقين. فالتأويل المفتوح يُعزّز سياقات التعدّد ويغذّي الالتباس الذي من خلاله تُجابه الذات مقولات السلطة.
أمّا دولوز وغاتاري، اللذان كتبا منذ بداية السبعينيات على أثر انهيار أوهام الثورة الكلاسيكية وتفاعلا مع مناخ رافض للسلطة الهرمية وداعٍ إلى أشكال جديدة من التنظيم والعيش والفكر، والحاجة إلى تخيّل "خطوط هرب" بديلة من المركزية والسلطة عبر شبكات لا مركزيّة للعلاقات، فكانت نظريتهما عن "الكتابة التعدّدية" نتاجاً لهذا المزاج التحرّري.
فهما ذهبا إلى أبعد من احتفاء دريدا بالمعنى كحقل نصّي يتولّد عبر تأجيل استتبابه ودفعه للاعتمال في المغايرة والاختلاف. ففي تناولهما لنتاج كافكا في منتصف السبعينيات، رأيا أنّ هذا النوع من "الأدب الصغير"، كما أسمياه، يُسهم في تفكيك لغة السلطة المركزية، وفي تأسيس تصوّرات صغيرة تصدر عن شرائح الضعفاء والمهمّشين الذين يبتكرون أدواتهم الخاصة للتعبير ومكاناً يصلح لتأسيس كينونة جماعية جديدة خارج السلطة.
وفي سبعينيات القرن العشرين، أرسى الناقد الأدبي الأمريكي هارولد بلوم فكرته عن الأدب مقابل صعود الدراسات البنيوية والتفكيكية الفرنسية والنقاش حول السلطة الأدبية والموروث الغربي. فبلوم تناول أعمال والاس ستيفنز وقدّمه كشاعر أميركا الحداثوي، وكان قد سبق هذا بأطروحته عن "حمّى التأثّر"، والتي كانت في جزء منها ردّاً على تحوّلات سلطة النصوص الكبرى في الأكاديميا الأمريكية، ومحاولةً لتكريس نسق أدبي أمريكي خارج تأثير النقد الأوروبي، وبخاصة الفرنسي.
قتل الأب أو حمّى التأثر
بلوم يرى أنّ الأدب يكتسب أهميّته لأنّه ساحة للصراع على الأصل. ولتكريس هذا المنحى انشغل بالتمايز لتثبيت محاولة الانفكاك. فكلّ مُبدع، أكان كاتباً أم شاعراً، يواجه هواجس التأثّر بسابقيه، وهذا بدوره يُنشئ ما يسمّيه بلوم "حمّى التأثّر". فنجاح المبدع يحتم عليه أن ينتصر على تأثير الماضي ليصنع صوتاً فريداً، وهذا ما كان قد وجده في ستيفنز. فالنتاج الأدبي بالنسبة إليه هو ممارسة ذاتيّة للتميّز والتجديد بما هو مواجهة تاريخية بين أجيال الكتّاب، وآلية تجديد وإنتاج للفرادة اللغوية والدلالية، ومسار انعتاق من التكرار.
من دريدا إلى دولوز وغاتاري، يتحول الأدب إلى مساحة لمساءلة المعنى وتفكيك المركزيات، وصناعة "أدب صغير" يمنح المهمَّشين أدوات للتعبير. في المقابل، تجعل راند الأدب مجالاً لترسيخ الفردانية وإعادة خلق الواقع وفق إرادة الفرد الحرة.
وفي مقام نقدي آخر، قدّم إيزايا برلين محاضراته عن الرومنطيقية في جامعة إدنبره في منتصف ستينيات القرن العشرين، في لحظة صعود دراسات تاريخ الأفكار كحقل أكاديمي جديد في بريطانيا وأمريكا، وفي سياق مواجهة الشيوعية السوفييتية في الخارج وتصدّع الثقة بقدرة العقلانية الوضعية والتقدّم العلمي على حلّ الأزمات الإنسانية بعد حربين عالميتين.
بدا أنّ هناك حاجة ملحّة لتفسير التحوّلات الفكرية التي أدّت إلى ولادة قيم الحرّية والفردانية ورفض الأحادية العقلانية، فاختار برلين أن يعود إلى الرومنطيقية بوصفها الثورة الثقافية التي غيّرت صورة الإنسان والذات منذ أواخر القرن الثامن عشر. يرى برلين أنّ هذه الحركة الأدبية لم تظهر فجأة في نهاية القرن الثامن عشر، بل تبلورت عبر تراكم طويل من الشكوك المثارة حول الكلاسيكية والعقلانية.
وفي هذا السياق، ومن بين الكثير من الكتّاب والشعراء والفلاسفة والموسيقيين الذين تناولهم في دراسته، أورد برلين عن نتاج سيرفانتس وغوته على ما لهما من موقعين أدبيين: واحد مُؤسِّس وآخر مُظهِر لعملية بناء الفرد وتجوهر حضوره عبر الأدب.
فسيرفانتس، في أواخر القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، يظهر مثالاً مبكراً على كاتب يُفكّك بنية النموذج البطولي التقليدي. ففي "دون كيخوته" نرى حسّاً تهكّميّاً وجوديّاً يزعزع صورة الفارس المثالي ويعرضه كفرد يتخبّط بين الخيال والواقع.
هذه المفارقة، المتجلّية في بطلٍ نبيلٍ في عالمٍ بلا نُبل، تُعدّ إحدى علامات الانفصال بين الفرد المتخيَّل والمؤسسة الاجتماعية في الأدب. أمّا غوته، في أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، فيضعه برلين في قلب التحوّل الرومنطيقي نفسه؛ في "آلام فرتر" حيث تبرز الذاتيّة بتعبير عاطفي راديكالي غير مُقنّن مقابل التقاليد، وتمجيد التجربة الشخصية حتى مأساويتها.
أمّا في "فاوست"، فيُبرز برلين ذلك التوتّر العنيف بين التنوير والرومنطيقية، بين العقل والرغبة، بين القوّة والهاوية الأخلاقية. فأعمال غوته في جانب منها تُجسّد الانتقال العنيف من انسجام العالم الكلاسيكي إلى تعدّد القيم الذي بنت عليه الرومنطيقية فلسفتها. برلين أيضًا يُقدّم نظرة إلى اعتمال الأحاسيس الرومنطيقية في أعمال الشاعر الإنكليزي اللورد بايرون، الذي جمع في قصيدته انفعالات المطارَد والرجل الخارق، المنبري والمتطوّع، حامل التراجيديا (كما تشهد حياته ونهايته)، الذي لا يتّسع العالم الذي يعيش فيه لحضوره. ومنه يربط برلين تسرب العدوى إلى فيكتور هيغو ولامارتين والرومنطيقيين الفرنسيين.
وفي مقامٍ سابق على كلّ ما ورد، فإنّ التطرّق إلى امتدادات الرومنطيقية يوصلنا إلى وليم جيمس وتلميذه جون ديوي ورؤية الفلسفة البراغماتية الأمريكية. في مطلع القرن العشرين ثم في ثلاثينياته، كتب جيمس وديوي أعمالهما الكبرى عن البراغماتية في زمن الثورة الصناعية الثانية وصعود المدن الكبرى والتحوّلات الاجتماعية العميقة في الولايات المتحدة.
تشكيل المعنى
كانت الفلسفة البراغماتية تبحث في تسارع الحداثة الصناعية والحاجة إلى ربط الفكر بالممارسة. فالأدب عندهما مختبر للتجربة الإنسانية الحيّة في سياق مجتمع يتحرّك من الريف إلى المدينة ومن التقاليد إلى التكنولوجيا الحديثة. جيمس يعتبر أنّ الأدب وسيلة لفهم التجربة الإنسانية الحيّة، لا مجرّد تأمّل نظري.
في كتابه الشهير "البراغماتية" يرى أنّ الأفكار والمعتقدات يجب أن تُختبر من خلال تجربتها العملية في الحياة اليومية، مقدّماً أعمال والت ويتمان كمثال للتجربة الحياتية العميقة والمتفائلة. بالنسبة إلى ديوي، الشعر والرواية "مختبرات للتجربة" وفضاء للتفكير العملي الذي يُخرج الفلسفة من الصفوف الأكاديمية ويقرّبها من الحياة الحقيقية.
في كتابه "الفن كخبرة" يرى أنّ العمل الفني لا يكون مجرّد موضوع للتمتّع الجمالي، بل مجموع خبرات كاملة في الحياة تُنشّط الحسّ والإدراك والتفكير. الأدب يخلق تجربة تفاعلية حيث يشارك القارئ في تشكيل المعنى، ويصبح جزءًا من عملية الإبداع نفسها. وبهذا فإنّ ديوي يقدّم الأدب كوسيلة تعليمية وثقافية تُعلّم الإنسان كيف يلاحظ العالم، يُقيّم الأحداث، ويخوض الاختيارات الأخلاقية. الشعر والرواية ليسا مجرّد تمثيلٍ للعالم أو نقل حقائق، بل آليّات لتطوير القدرة على الحكم والتجريب الأخلاقي وتعزيز النضج العقلي والعاطفي. فالأدب يُؤنسِن المنفعة.
أمّا ريتشارد رورتي، الذي أصدر أهمّ أعماله في السبعينيات والثمانينيات في سياق تراجع الفلسفات الكبرى (الميتافيزيقا، الماركسية، التحليل المنطقي)، حيث كانت الأكاديميا الأمريكية تشهد حالة انتقال من الفلسفة التحليلية الصارمة إلى انفتاح على ما بعد البنيوية والهرمنيوطيقا الأوروبية، فقد بدأ في هذا المناخ تقديم نظرته البراغماتية الجديدة كإعلان عن نهاية الفلسفة بوصفها بحثًا عن أسس صلبة للمعرفة، مُواجِهاً ذلك بطرحٍ يدعو إلى التركيز على اللغة والأدب والشعر كمساحات لإعادة اختراع الذات والثقافة.
فالفلاسفة الكبار (أفلاطون، ديكارت، كانط) سعوا إلى إيجاد أساس ضروري للمعرفة، بينما الشعراء يخلقون استعارات وقواميس جديدة تفتح إمكانات مختلفة للتفكير والعيش. في ورقته الشهيرة "احتمالية الذات" يذهب رورتي إلى أنّ الذات طارئة وليست جوهراً ثابتاً. نحن نتكوّن عبر اللغة والسرديات التي نرثها ونبتكرها. هنا تصبح وظيفة الشعر إعادة كتابة الذات من خلال ابتكار استعارات جديدة. وبهذا فإنّ الأدب والشعر يتفوّقان على الفلسفة في القدرة على إعادة اختراع القاموس الثقافي. فالفيلسوف يحاول أن يبرّر أو يفسّر، بينما الشاعر يبتكر لغة جديدة. ويذهب رورتي إلى ربط الأدب بمفهوم التضامن الإنساني: الروايات والقصائد توسّع خيالنا الأخلاقي، تجعلنا قادرين على رؤية الآخر والتعاطف معه. ولكن هذا التعاطف ليس قائمًا على أسس عقلانية أو طبيعة بشرية ثابتة، بل على قدرة السرد الأدبي على جعل معاناة الآخر ملموسة لنا.
صدمة الخوارزمية
هذه مجموعة قراءاتٍ عرّجنا عليها بسرعة، ساهمت في تحديد وظائف الأدب عبر لحظاتٍ تاريخية سالفة. قد يبقى منها ما يُمكّننا من قراءة قدرة الأدب في الراهن، ولكن قد يكون مفيدًا أيضًا أن نُعاين التحوّلات التي طرأت عليها. لا شكّ في أنّ الكثير من السياقات التي خاضت فيها هذه الأفكار لم تعد موجودة، وهذا ما يجعل الاستهداء عبر تتبّع هذه المقترحات يصطدم بغياب شروط وتناقضات تلك اللحظات، وبولادة شروط جديدة للأدب تزداد تعقيداً يومًا بعد يوم. فنحن لم نعد نعيش صدمة الآلة، بل صدمة الخوارزمية والواقع الافتراضي.
مع صدمة التقنيات الحديثة، وانهيار البُنى القديمة للمعنى، يصبح الشعر وسيلة لإعادة التوازن الداخلي، واقتراح لغة تسمح بمواجهة هشاشة الواقع. الشعر لا يغيّر العالم مباشرة، لكنه يغيّر إدراكنا له، ويفتح مسارب للذات كي تستمر وتحتفظ بكرامتها الإنسانية
وبحث جيمس وديوي في ربط الفكر بالممارسة تلاشى مقابل معضلة بقاء المعنى أصلًا في فضاء تستبطن فيه الممارسة معنىً يُنتج سلفاً من السلطات التقنية الجديدة وعبرها. فمضمار الثقافة الغربية الذي فاض على العالم منذ التنوير يعيش حالة انهيارات متتالية. القراءة لم تعد محكومة بشجرة نسب أدبية، كما رأى بلوم، بل بمقترحات تقنية مُلخّصة عالية الفاعلية. وبهذا فإنّ الصراع لم يعد يُدار مع أسلافٍ في الثقافة، بل مع آلةٍ بلا ذاكرة حسّية. وهذا بدوره يضعنا أمام سؤال عن الاعتراض: على من نعترض في كتابتنا؟ وكيف نعترض؟ وأين؟
فمع ارتجاج مفهوم الدولة وضمور قدرتها على أن تكون سلطة ناجزة تقليدية تؤمّن شروط التمثيل السياسي كما تحتكر العنف، وتالياً تؤمّن ولادة الفرد ورعايته، يتجوّف حضور الفردانية التي كتبت فيها راند شيئاً فشيئًا من الداخل ويتحوّل "سائلًا" في الخارج.
الفردانية الآن مُعولمة ومُستهلكة ومُستعمَلة ومصنوعة عبر هويّات صغيرة متعدّدة ومتغيّرة ومُمأسسة بتماثُل عبر شبكات المؤثّرين والمنصّات السحابية والصناعات الرقمية. وبالتالي لم يعد مُحرّك الراهن صراعاً طبقياً بالمفهوم الكلاسيكي الثابت. فأحد أوجه إشكاليات التعامل مع سلطات التقانة الجديدة هذه هو في الجِدّة الدائمة المتغيّرة التي تُحرّكها، والتي تبني سلطاتها عبرها. هي ليست تماماً صناعةً تقليدية لها طبقتها، ولا هي جهازاً بيروقراطياً مُؤطّراً. قد يصحّ النظر إليها كمنظومة إبداعية هجينة لها مفكّروها ومستثمروها ومحاموها وصنّاعيوها وحِرَفيوها، تتمدّد كبنية علاقاتيّة نفعية متجدّدة، تجمع التقني والاجتماعي في علاقاتٍ لم تكن موجودة من قبل.
وهذا التركيب الجديد يصعب التعامل معه في سياقات "فلسفة الحق" مثلاً بما يمثّله هذا التصوّر الهيغلي من بنية مؤسساتية تتجسد في الدولة الحديثة باعتبارها "الحرّية المتحقّقة عقلانياً"، وبالتالي نظامًا يوفّر الاعتراف المتبادل ويمنح الإنسان مجالاً ليكون فاعلاً حرّاً وبالتالي مُعترضاً. فسلطات التقانة هذه نجحت في العقدين الماضيين في تأسيس سلطة معيارية جديدة تضع شروطاً ومعايير للوجود، لا تني تغيّرها وتعدّلها لتتواءم مع مصالحها وسياساتها الخاصة، بما في ذلك منح الاعتراف الرمزي (وسحبه) من خلال الانتساب والاستخدام. في العقود الماضية بدأنا نرى انتقال هذه "العدوى" تدريجياً إلى مؤسسات الحكم والسياسة إلى أن بدأ يظهر جليًّا توجّه هذه السياسات في مختلف القطاعات كخطوات تكتيكية تبادلية، على خلاف ما كان سابقاً يُحرّكها من رؤيوية لها طابع كونيّ. وهذا بدوره يجعلها منيعةً على الاعتراض، ويجعل الذات عرضة للتشتّت.
خلافاً لمن يعرّف هذه السلطة التقنية على أنّها "مشاعٌ مُحتكَر" من خلال نسبها إلى آليات الإقطاع الكلاسيكي، قد يساعد تقصّي مسارات تطوّرها على ملاحظة خصائص الثورة العلمية في أصلها، والتي تتضافر على اعتمالها تدريجياً جهود المخترع ورأس المال، وآليات السوق، وجهد المستخدم، ورغبته.
فراغ اليقينيّات!
وهذا كله حوّل هذا الإنجاز من قيمةٍ كمالية في بدايتها إلى قابليّة مستدامة تطوّرت إلى حاجة ماسّة، ثمّ إلى "طاقة نووية" مُشغّلة. وبالتالي صارت جزءاً لا يتجزّأ من طبيعة البشر الفردية والجمعية، وتصلّبت في منظومات تفيض على سلطات الدول والطبقات والشرائح المجتمعية. وفيضُها هذا هو سرعة في الأداء وقدرة عالية على ابتكار الحلول وتقديم الفعل بوصفه "تجارب رفاهية وعناية" تتوق لها الذات وتبذل الغالي والرخيص للحصول عليها.
فهي بذلك أقرب إلى آلية نفعية حادّة تجعل من مستخدميها وقوداً لها؛ فلا فكاك من ذلك إلا الطرد والتعطّل والازدراء. أمّا الإقامة فيها فتتبلور في سياق يكون فيه العرض أعلى من الطلب، وهذا يجعل الإغراقَ الأدائي أحد أعلى العوائق أمام الاعتراض. نحن "نبوح" إلكترونياً بكلّ شيء هنا. وبالتالي فإنّ "اللاوعي السياسي" الذي تحدّث عنه جيمسون يُستبدل اليوم بـ"لاوعي تقني" لا تاريخي ولا طبقيّ.
السلطات التقليدية الأخرى التي تتشارك في صنع الراهن تمدّدت أيضاً عبر هذه التقانة، ولم تعد ذات طابع صافٍ قوميّ أو مركزيّ، إنّما تفرّعت في شبكيّة موزّعة في أجهزة الحكم والرقابة والجيوش، كما عبر الحدود وفي الصناعات الحيويّة الأخرى. هذا التشابك صار نظامَ حياةٍ لا يمكن الإقامة خارجه أو الهرب منه. فخطوط الهروب التي اقترحها دولوز وغاتاري تمّ ابتلاعها في سحابيات المنصّات والمصارف العابرة للدولة وشبكات المؤثّرين واقتصاد العمل الجزئي والوظائف المؤقّتة.
يرى بلوم في الأدب ساحة صراع بين الأجيال، حيث يسعى كل مبدع إلى الانفكاك من تأثير السابقين. الكتابة هنا تصبح فعل تحرّر وصناعة صوت فريد، لا مجرد إضافة في سلسلة الموروث.
وبالتالي نحن نعيش كأفراد وجماعات صغيرة في شُبيكات صغيرة تحتيّة وضَيّقة، تتلقّى التأثير من مراكز ضخٍّ في سلاسل التوريد المعلوماتيّة والمالية. وبهذا لم نعد نواجه يقينيات بحاجة إلى تفكيك، بل نعيش فيما يُشبه فراغ اليقينيّات، حيث نتعامل مع "غبار المعنى" لا مع تفرّعاته الجذمورية. ففي تناولنا له بتنا مُجبَرين على أن نتقن الأداء والتداول. وتالياً، فإنّ التفكيك يصبح فائضاً؛ لأنّ ما يجدر تفكيكه صار عارياً تمامًا كهويّاتنا الصلبة. وبذلك يصبح التضامن عبر قواميس الاستعارات الجديدة أمام تحدٍّ كبير: كيف نصنع الاستعارة؟ وماذا نُدخل فيها؟ فمفهوم التضامن الرورتي يتفتّت في هذه البنية التي تدّعي الحياد والتفهّم المُجرّد لمصائب البشر (كما يذهب سام ألتمان مؤخراً).
هل بقي مكان للشعر؟
وإذا ما أردنا العودة إلى التراث، أيّ منجز يصمد أمام هذا المدّ؟ كيف نرثي أنفسنا ومَن ماتوا في الحروب التي ما زالت تلفّنا منذ الولادة؟ كيف نبقيهم في الذاكرة ونحن نخسرها لأننا لا نستطيع أن نبقى مع أنفسنا في حَمأة التغيير؟ هناك نُقصان دائم في إبرام التذكّر. ولهذا يبدو استرجاع التراث، أكان تُرساً أم نافذة، نُوستالجيا أصوليّة تصطدم بإحباطات الإخفاق وعدم الإنجاز. فما كان لم يكن ناجزًا للاحتفال به، بل إنّ النقصان والحسرة هما ما يلفّانه. وفي هذا يصبح استرجاع الموروث عملاً يُشبه "اقتصاد الهدر". فالسؤال الذي يدهمني دائمًا كلبناني: ماذا أتذكّر؟
وهذا التساؤل في الموروث وفي الذاتية سرعان ما يتخطّى الخسائر المؤسِّسة لذواتنا إلى وضوحٍ أفدح بدأت تتظهّر ملامحه في صور انهيار فكرة "القيمة الكونية" التي كانت المجتمعات تعمل على تحقّقها في حاضرها وتحلم بإمكانات انبعاثها في المستقبل، في عبارات مثل "التقدّم نحو الكارثة" و"العالم وهو يَهجرنا" التي اختارها الصديق بلال خبيز عناوين لكتبه لما فيها من دقّة في التقاط روح اللحظة في مجتمعاتنا والعالم. فالراهن ابتعد سنوات ضوئيّة عن مَحطّ صراع القيم الكبرى بين التنوير والرومنطيقية، وما جاءت به الحداثة وما بعدها. وبهذا فإنّ إرث التعدّد وولادة الذاتية الذي أنتجته الرومنطيقية وأعلته الحداثة ثمّ فكّكه النقد، قد تمّ ابتلاعُه في نسبيّة تقنية محايدة لا تعرف إلا الكفاءة الأداتية.
مع كلّ هذا الابتعاد عن إرثٍ تاريخي نحو غرابةٍ كبيرة تُغلّف الراهن، يصبح السؤال "لماذا الأدب؟" أكثر إلحاحاً. فكما أسلفت مدارس النقد، فالكتابة الأدبية، وبخاصة الشعر، يستطيعان أن يفتحا أبواب التجريب في اللغة كتمرين على البقاء ورسم ظلال الذات في هذا الهشيم. فالشعر، كما يقول شيموس هيني، له قدرة على إعادة التوازن في مواجهة قسوة الواقع ولاعدالته؛ همهمةُ أصوات نستمع إليها في المُكابدة على المواكبة لأننا لا نقوى على الاستقالة، ولا نرى في الآتي، ولا نعرف ماذا يمكننا أن نصير. الشعر لا يُصلح العالم مباشرة، لكنّه يُعيد تشكيل وعينا، ويمنحنا توازناً داخلياً يجعلنا قادرين على مواجهة الخارج. وبهذا فإنّه لا يغيّر الوقائع، إنّما يغيّر إدراكنا لها. فهو يستطيع أن يُغاير في اللغة ويتمايز في عزوفه عن أن يكون دعاية سياسية ووعظاً أخلاقياً، وفي ألا يكون هروباً إلى الجمال المحض. الشعر يستطيع أن يبني طُرقًا مُلتوية ليُوفّر مسافة جمالية عن الواقع، لكنّه في الوقت نفسه يرتدّ إلى الواقع ليعطي أدوات معنوية لمواجهته وفضاءً بديلًا من التنفّس الحرّ. غير أنّ هذه الحرية لا تلغي الألم أو العنف، بل تُخفّف وطأته بإبراز كرامة التجربة الإنسانية وتوسيع أفق الإحساس، وجعل التعب قيمة يُحتفى بها كعلامة على الوجود. فالقصيدة الغنائية الصغيرة يمكن أن تحمل حضورًا لتضامنٍ أخلاقيٍّ لا حكميٍّ، وقبولاً بتشارك المصائر وتفهّمها.
في البراغماتية الأميركية لدى جيمس وديوي، يتحول الأدب والشعر والرواية إلى أدوات لفهم الحياة اليومية. النص ليس تمثيلاً للعالم وحسب، بل تجربة تفاعلية تُنضج الحسّ الأخلاقي، وتنمّي القدرة على الحكم، وتعيد وصل الفكر بالممارسة
قد يكون ما يستطيع الشعر أن يقدّمه في هذه اللحظة هو تعامُلٌ مع الأقدار كمعطًى لا كنهاية، مِجذافٌ على رَمث، ملجأ من الإعصار، رثاء بما هو تصريف للموت، سُخرية، كلامٌ في التعب خارج هالة الجسد الأسطورة، في صعوبة تحقّق الحميميّة خارج أبراج المتعة المتخيّلة، اقتفاء أثر التحوّل لا استعادة تأصيل سابق للشعور. نحن نكتب الشعر تحت وطأة غزارة المتغيّرات والمتطلّبات. وبهذا فإنّ اللغة والكتابة الأدبية تستطيعان المواكبة والتحيين وإتاحة المحاولة لإيجاد مسارب تصف عبرها الذاتُ يومَها بين ظهراني السلطات الجديدة. وفي هذا قد يكون الشعر بحثًا عن "النقطة العمياء" الوظيفية لهذه السلطات، والإقامة فيها، والتحايل عليها، وتوسيعها قدر المستطاع. وفي هذا أستعير، بتصرّف، عبارة المسرحي سعدالله ونوس: نحن محكومون بالتقانة! وبواقعية عالية علينا أن ننقّب في مساماتها لنجد الأمل. فالشعر هو بداية اللغة وشكلها الأولي عندما تخرج الأحاسيس في الكلمات، وبهذا فهو لا يُكتب في الباب الأول بوصفه فنًّا، بل إطلاقاً للتساؤل والوصف والتواصل في لحظة ضعف تحت وطأة اللحظة. ومن هنا يتحوّل كلّ سؤال إلى سؤالٍ شعري، وكلّ انطباع إلى هَمس لغوي يتسرّب خارج حدود النظام الأدائي؛ أي خارج ذواتنا التقنية التي لا تحتضن الحميمية الداخلية لأنّها مبنيّة على التسجيل والتعميم، ولا تلتقط الهشاشة الإنسانية بما فيها من فَقد وخطأ، ولا تلحظ الصمت في العبارة. وهذا كله قد يُشكّل أثاثاً للشعر، تُحوَّل هندستُه وأنساقُه إلى مساحة مكاشفةٍ للعادي المطموس برُهاب الأداء والموت، وتتحوّل معه التجربة من تجربة "سياحية" إلى استعارة.
وبهذا قد يكون الشعر أحد أبواب إخراج العبارة من التأمّل النُوستالجي، بالانحياز إلى تلقائية الوصف، والتذكير بأنّ وراء كلّ أدائية ذاتية بحثًا مكتومًا عن معنى يتجاوزها. فهو يصف الاختناق بدل أن يُحلّله، ويلتقط اللحظة في فورتها. هذا لا يعني سقوط الشعر في المباشرة السطحية، بل يعني أنّه يتحوّل إلى شهادات حيّة تبني الاستعارة الجديدة. وفي هذا فإنّ الشعر لا يبقى حكرًا على "الشاعر" وحده. ففي كلّ قراءة صادقة يتحوّل القارئ إلى شاعر، لا بالمعنى الاحترافي، بل بالمعنى الأصيل: من يُعيد صياغة ذاتِه عبر اللغة، مَن يجد في النص ما لا تمنحه الخوارزميات. الشعر يصنع شعراء، سواء كانوا كتّاباً أم قرّاء، لأنّه يفتح الباب لصناعة الذات خارج السلطة والموروث. هذه "الذاتية الطارئة" التي تحدّث عنها رورتي تجد في الشعر مجالها الأرحب: لا هوية جاهزة، بل اكتشاف مستمرّ للمعنى في الاستعارة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



