يُحوّل الذكاء الاصطناعي كل جانب من جوانب حياتنا بسرعة غير مسبوقة. هذه التقنية، التي استُورِدت إلى منطقتنا من دون أن تفهم ثقافتنا، تعتمد على أنظمة تُسخَّر لقمعنا. وبينما تُقدَّم بوصفها وعداً بالابتكار والفرص، فإنها تحمل أيضاً تهديدات غير مسبوقة لحرياتنا وحقوقنا ونسيج مجتمعاتنا.
بالنسبة للمنظمات التنموية والإنسانية والحقوقية، فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي قد يكون مصدر خوفٍ إن لم نكن مستعدين له. ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي أصلاً الأكثر تفاوتاً في العالم والأشد شُحّاً بالمياه، وتُسجّل أعلى معدلات بطالة بين الشباب وأدنى مشاركة للنساء في سوق العمل، يتعلّم الذكاء الاصطناعي من قاعدة معطوبة بُنيت على الأعراف الأبوية، والموروثات الاستعمارية، والتحيّزات العنصرية، والتمييز الهيكلي المتجذّر في بياناتنا ومؤسساتنا وأنظمتنا الاجتماعية.
نواجه عصراً تستهدف فيه جهود المناصرة الآلات، في حين أن الأطر الدولية التي عملنا ضمنها لعقود أصبحت قديمة تماماً وغير قادرة على مجاراة الكمّ الهائل من القضايا التي أطلقها الذكاء الاصطناعي. فما العمل؟
وهو مملوكٌ ويُدار من قبل منصات وجهات تنتهك الحقوق، تُراقب وتقمع وتنشر الدعاية والخوف. إنه خالٍ تماماً من الفهم النسوي أو الحوكمة المبنية على الحقوق، ما يمنح الأنظمة القمعية والجهات السيئة النية حريةً مطلقة لتشكيله كما تشاء.
ليست المنظمات غير الحكومية معروفة بمرونتها. وأخشى أننا قد لا نكون سريعين بما يكفي لنتكيف مع الوتيرة التي يُعيد بها الذكاء الاصطناعي تشكيل عالمنا. من الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة إلى تعزيز الصور النمطية الجندرية، يمكننا أن نرى بالفعل تداعيات الذكاء الاصطناعي على المجتمعات التي نخدمها. لا يوجد مجال في عملنا لن يطاله أثر هذه التقنية.
ما لم تُسهم الأصوات النسوية والمناهضة للاستعمار والمبنية على المجتمعات المحلية في تشكيل الذكاء الاصطناعي منذ البداية، فإن قضايا النسوية والعدالة الجندرية والاقتصادية والحقوق الرقمية والإنسانية والحوكمة الرشيدة جميعها ستتأثر بعمق، إذ يُستخدَم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد لترسيخ أوجه اللامساواة، ومراقبة الهويات، وتعزيز النظام الأبوي.
النساء والمجتمعات المهمشة في المنطقة في وضع هشّ بشكل خاص. فحَيْف الذكاء الاصطناعي يمحو وجودهن أو يصوّرهن في قوالب نمطية، بما يزيد المخاطر، إذ تتفاقم أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي عبر المنصات التي تُدار بالذكاء الاصطناعي. كما تستهدف تقنيات المراقبة النساء والناشطات والناشطين من مجتمع الميم-عين، فيما تستمر الأنظمة القائمة على الأدوار الجندرية في إقصاء النساء عن سوق العمل.
ومع ذلك، رغم أن الذكاء الاصطناعي قد يُعمّق أوجه اللامساواة ويُقيّد الحقوق أكثر، لا يمكننا تجاهل إمكاناته في الابتكار. فكيف يمكننا توظيفه لتضخيم الأصوات بدلاً من إسكاتها؟
يجب التعامل مع الذكاء الاصطناعي من خلال منظور الحقوق والأخلاق والحوكمة. علينا أن نكون قادرين على صياغة النقاشات والمناصرة من أجل أطرٍ أخلاقية، وتطوير آليات حماية ممنهجة تصون المجتمعات الأكثر ضعفاً وتكفل في الوقت ذاته حريات الجميع.
نحن نواجه عصراً تستهدف فيه جهود المناصرة الآلات، في حين أن الأطر الدولية التي عملنا ضمنها لعقود أصبحت قديمة تماماً وغير قادرة على مجاراة الكمّ الهائل من القضايا التي أطلقها الذكاء الاصطناعي.
على الحكومات والمجتمع المدني أن يتعاونا لإنشاء آليات جديدة لفهم التهديدات التي تواجه الفئات الأكثر ضعفاً، وللحماية من إساءة استخدام هذه التقنيات في كل مكان. تُظهر لنا دروس غزة أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدَم كسلاح لإبادة شعوب بأكملها.
نحن أمام فجر جديد للامساواة، هذه المرة رقمية، وعلينا أن نكون مستعدين لها. يجب على الحركات النسوية والحقوقية والمنظمات غير الحكومية أن تكتسب معرفة بلغة الذكاء الاصطناعي وأن تكون استباقية في تشكيله عبر المنطقة
علينا أن نتعلم كيف نبني عملاً مناصِراً فعّالاً يطالب بحظر أنظمة الأسلحة الذاتية والمراقبة الجماعية وغيرها من التقنيات التمييزية، وأن نُنشئ حركات اجتماعية في مواجهة تآكل الخصوصية. يجب أن نستعيد روح النشاط المدني وأن نتعلم كيف نصمِّم نماذج بديلة من الذكاء الاصطناعي لمواجهة هذا "الذكاء الفائق" بآخر يتعلّم منا، ويستند إلى أخلاقنا وقيمنا.
نحن أمام فجر جديد للامساواة، هذه المرة رقمية، وعلينا أن نكون مستعدين لها. يجب على الحركات النسوية والحقوقية والمنظمات غير الحكومية أن تكتسب معرفة بلغة الذكاء الاصطناعي وأن تكون استباقية في تشكيله عبر المنطقة.
إذا فشلنا في التحرّك الآن، سيُعمّق الذكاء الاصطناعي الفجوات التي نناضل بشدة لسدّها. لكن إن عملنا معاً، وضغطنا على حكوماتنا لضمان أن تكون أطره منظمة وأخلاقية، واستثمرنا في ابتكارات ترسّخ العدالة الرقمية النسوية بشكل منصف، فقد يتحوّل إلى قوةٍ للخير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



