المعارضة تحت الترهيب... كيف تعيد السلطة صوغ الحياة السياسية في تونس؟

المعارضة تحت الترهيب... كيف تعيد السلطة صوغ الحياة السياسية في تونس؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 10 ديسمبر 202515 دقيقة للقراءة

تعيش تونس في الآونة الأخيرة موجةً من الاحتجاجات الأسبوعية، التي تنطلق من شارع الحبيب بورقيبة خصوصاً، للمطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين ووقف ما يصفه المحتجون بـ"القمع وتجريم المعارضة السياسية". وتأتي هذه التحرّكات في لحظة دقيقة تستند إلى ثلاثة مؤشرات مركزية: تراجع سيادة القانون، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وغياب شبه تام للأجسام الوسيطة عن الحياة السياسية.

مؤشرات تدهور الوضع في 2025

وفق تقرير "مؤشر سيادة القانون 2025"، الصادر عن منظمة World Justice Project في تشرين الأول/ أكتوبر 2025، تراجعت تونس إلى المرتبة 85 عالمياً من أصل 142 دولة، وهو أدنى ترتيب لها منذ ثورة عام 2011. ويشير التقرير بوضوح إلى توسّع المحاكمات الاستثنائية، وضعف الرقابة القضائية، واعتماد السلطة التنفيذية على مراسيم واسعة لتقييد حرية التعبير وتقييد عمل المجتمع المدني.

تراجع غير مسبوق في المشهدين السياسي والديمقراطي، تونس تهبط إلى المرتبة 85 في "مؤشر سيادة القانون" وتُصنّف "دولة غير حرة" لعام 2025… كيف تعيد سلطة قيس سعيد هندسة المجال العام عبر محاكمات معيبة وتوظيف "المرسوم 54" لكتم الأصوات المنتقدة لها؟

أما على الصعيد الديمقراطي، فقد سجّلت Freedom House في تقرير "الحريات في العالم 2025"، الصادر في آذار/ مارس 2025، استمرار تصنيف تونس كـ"دولة غير حرة"، مع تدهور في مؤشرات استقلال القضاء وحرية الصحافة والمشاركة السياسية، ما يعكس اختناق المجال العام وتراجع قدرة المواطنين على التأثير عبر الآليات المؤسساتية.

الوضع ليس أفضل حالاً اقتصادياً حيث تكشف مناقشة مشروع قانون المالية لعام 2026 عن أزمة مالية متفاقمة تُقيّد قدرة الدولة على الاستجابة للمطالب الاجتماعية المتصاعدة بخصوص التشغيل وزيادة الأجور، لا سيّما في ظل ارتفاع معدلات البطالة التي تصل إلى 24% لدى حاملي الشهادات العليا. في المقابل، ووفق ما تشير إليه الأرقام الرسمية المعلنة، تُقدَّر مداخيل الدولة بـ52.560 مليار دينار، مقابل نفقات تفوق 63.5 مليار دينار (نحو 22 مليار دولار)، أي بعجز يتجاوز 11 مليار دينار (نحو 3.4 مليارات دولار). وهي مؤشرات تحد من حلول الدولة في إيجاد فرص العمل وتحسين الظروف الاجتماعية.

ولتغطية هذا العجز، كشفت الحكومة التونسية عن نيتها اللجوء إلى اقتراض خارجي بقيمة 6.8 مليارات دينار (نحو 2.2 ملياري دولار(، إضافة إلى اقتراض داخلي يبلغ 19.1 مليار دينار (نحو 6.3 مليارات دولار)، وهو ما يعمّق ارتهان المالية العمومية للسوق المحلية في ظل صعوبات النفاذ إلى التمويل الدولي وسط انتقادات شديدة بخصوص مواصلة الحكومة الاقتراض من البنك المركزي التونسي.

كذلك أظهر مشروع ميزانية المالية لسنة 2026 ضغطاً هائلاً تمارسه خدمة الدين العمومي، إلى جانب كتلة الأجور والتزامات التفاوض الاجتماعي، على الموارد المتاحة، بما يقلّص هامش الاستثمار ويوسّع الفجوة بين حاجيات المواطنين والإمكانيات الفعلية للدولة.

هذا الوضع المالي الهش انعكس مباشرة خلال الجلسات البرلمانية، حيث شهد المجلس مشادات بين نواب ووزيرة المال بعدما اعتبرت الأخيرة أن مطالب تحسين الأجور وبعض الفصول المقترحة خدمة للمطالب الاجتماعية "غير واقعية" في ظل غياب الموارد اللازمة. في المقابل، اتهم نوابٌ زملاءهم بخدمة مصالح لوبيات اقتصادية عبر تعطيل مقترحات فصول قانونية لحماية المستهلكين وتخفيف الأعباء الجبائية.

ويأتي كل هذا بينما تتجه السلطة التنفيذية إلى استبعاد الاتحاد العام التونسي للشغل من المفاوضات الاجتماعية، مع طرح تصور جديد يقوم على أن تحدد الحكومة نسب الزيادة السنوية في الأجور بشكل أحادي عوضاً من فتح باب المفاوضات الاجتماعية كما هو معمول به منذ عقود بين اتحاد الشغل كأكبر هيكل نقابي في البلاد والحكومة في وقت يطالب فيه نواب ونقابيون بزيادات تفوق 5% لمواجهة تدهور القدرة الشرائية وهي نسبة تعتبرها الحكومة مستحيلة في ظل "الوضع المالي الحالي".

هذا التدهور العام ترافق مع تغييب شبه كامل للأجسام الوسيطة بما فيها الأحزاب، والمنظمات المهنية، والجمعيات التي تم تحييدها تدريجياً منذ 2021. فالحياة السياسية باتت محصورة بين مؤسسة الرئاسة والشارع، دون وسطاء قادرين على تأطير النزاع أو تقديم بدائل. وحتى الاتحاد العام التونسي للشغل، آخر قوة اجتماعية منظَّمة، دخل في توتر مباشر مع السلطة بلغ ذروته حين اتهم الرئيس سعيّد الاتحاد الأوروبي بـ"التدخل الأجنبي" عقب لقاء جمع أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي بسفير الاتحاد الأوروبي في تونس.

تضييق منهجي يعيد صوغ المجال العام

وفي ظل هذا الفراغ السياسي، يتحوّل البرلمان المنبثق من انتخابات 2022/2023، والمُشكّل وفق آلية الاقتراع على الأفراد، إلى ساحة للخطاب الشعبوي، حيث تسود لغة التخوين واتهامات "العمالة"، في مشهد يعكس ضعف المؤسسة التشريعية وعجزها عن لعب دور توازني أو رقابي فعلي.

وبين أزمة اقتصادية خانقة، تراجع مؤسساتي، وغياب الوساطة، تبدو الاحتجاجات الأسبوعية الصوت الأخير المتبقي في المجال العام، في بلد يشهد إعادة تشكيل عميقة لخرائط القوة السياسية.

شهد عام 2025 تصعيداً لافتاً في مستوى الانتهاكات الحقوقية في تونس حيث أصبحت المحاكمات والعقوبات الثقيلة جزءاً من المشهد السياسي اليومي. ومع توسّع استعمال المرسوم 54 – الموجّه رسمياً لمكافحة الأخبار الزائفة – تحوّل النص القانوني إلى أداة إسكات، استُخدمت ضد الصحافيين والمدونين ونشطاء المجتمع المدني. وقد وثّقت "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها السنوي (الصادر في كانون الثاني/ يناير 2025) أنّ السلطات التونسية "اعتمدت نهجاً عقابياً ضد المعارضين يقوم على المحاكمات السريعة والأحكام المشدّدة ومحاولة تجريم العمل الحقوقي".

وتجلّى هذا المسار بوضوح في الأحكام الصادرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 في ما يعرف بـ"قضية التآمر على أمن الدولة"، وهي القضية التي حوكم فيها نحو 34 متهماً بأحكام تراوحت بين 10 و45 عاماً، بينما تم إسقاط التهم عن حطاب سلامة بعد أكثر من عامين في السجن دون أدلة متماسكة ونور الدين بوطار مالك إذاعة موزاييك الذي كان قد أفرج عنه في وقت سابق مقابل ضمان مالي. وقد اعتبرت منظمات حقوقية أن الحكم كشف هشاشة الملف و"طابع الانتقائية في توجيه التهم".

يرى بن عمر، في حديثه إلى رصيف22، أنّ التضييق على المجتمع المدني في تونس جزء من موجة عالمية أوسع إذ ثمّة "سياق عالمي تتنامى فيه الشعبوية واليمين المتطرف، وهذا يجد صداه اليوم في تونس. المرحلة بالنسبة إلى المجتمع المدني هي مرحلة مقاومة وإثبات وجود"

وفي السياق نفسه، جاءت قضية المحامية والإعلامية سنية الدهماني لتؤكد اتساع سياسة الردع، إذ أدّى توقيفها بموجب المرسوم 54 إلى موجة تضامن محلية ودولية، بينما جاء الإفراج عنها لحظات بعد جلسة عامة للبرلمان الأوروبي دعا فيه صراحة إلى إطلاق سراحها فوراً، وهو ما أثار تساؤلات حول قابلية السلطة للتأثر بالضغط الخارجي.

غير أنّ الانتهاكات الأكثر عمقاً تتعلّق بتدهور فضاء المجتمع المدني، كما يوضح ذلك الناشط والناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، الذي يرى أنّ المنظمات باتت تواجه "مرحلة غير مسبوقة من الوصم والتهميش".

ويقول لرصيف22: "تعيش الجمعيات اليوم تحت ضغط متعدّد الأوجه، حملات تشويه على الشبكات الاجتماعية، وملاحقات مالية وجبائية، وقرارات إدارية تهدف إلى إنهاكِها. السلطة لم تعد تكتفي بالضغط السياسي، بل باتت تستهدف شرعية وجود المجتمع المدني نفسه".

ويردف بن عمر مفسّراً نمط التضييق: "كلما واجهت السلطة أزمة – اجتماعية أو بيئية أو سياسية – تلجأ إلى مهاجمة الجمعيات وتحميلها مسؤولية الاحتجاجات. رأينا ذلك خلال تحركات قابس البيئية، حيث استُخدم خطاب التخوين لإغلاق النقاش حول التلوث". ويلفت إلى أنّ الخطر الأكبر يهدّد الجمعيات المحلية الصغرى لا سيّما وأن "هذه الجمعيات تعمل في فضاءات ضيقة، وهي الأكثر عرضة للاستهداف لأنها الأقرب للمواطنين. السلطة تستفرد بها بسهولة بسبب محدودية مواردها".

ويؤكد بن عمر أنّ المرحلة الحالية كشفت عن تباين داخل المجتمع المدني إذ إن "المجتمع المدني ليس كتلةً واحدة. هناك منظمات اختارت المواجهة والدفاع عن الفضاء العام، وفي المقابل جزء صغير انجرف مع سرديات الدولة"، كما يرى بن عمر أنّ التضييق على المجتمع المدني جزء من موجة عالمية أوسع: "هناك سياق عالمي تتنامى فيه الشعبوية واليمين المتطرف، وهذا يجد صداه اليوم في تونس. المرحلة بالنسبة إلى المجتمع المدني هي مرحلة مقاومة وإثبات وجود، وتتطلّب أقصى درجات التنسيق والتشبيك للدفاع عن الفضاء المدني".

كما يستعيد بن عمر العلاقة المتقلّبة بين السلطة والمجتمع المدني منذ 25 تموز/ يوليو 2021، شارحاً أن "رئيس الجمهورية (قيس سعيد) كان عدائياً تجاه الجمعيات منذ البداية، لكنه عندما احتاجها في 26 تموز/ يوليو 2021، استدعى المنظمات المهنية والحقوقية لتمرير رسالة للخارج بأنّ هناك مساراً تشاركياً. وبعد انتهاء مصلحته، عاد إلى خطابه المعادي وقمع الجمعيات التي تخالف سرديّته".

ويضرب مثالاً باحتجاجات قابس الأخيرة: "الحملة التي استهدفت منظمات بيئية بعد تحركات قابس لم تكن اعتباطية. عندما وجد الرئيس نفسه محرجاً أمام خطاب يناقض تصريحاته حول البيئة، اختار تحويل وجهة النقاش عبر إغلاق الجمعيات واتهامها بالعمالة والفساد".

ويؤكد بن عمر أنّ هذا الأسلوب أصبح ممنهجاً حيث أنه "كلما واجهت السلطة ضغطاً اجتماعياً أو سياسياً، تلجأ إلى نظريات المؤامرة وتجريم المخالفين. المجتمع المدني هو أوّل من يدفع الثمن". ومع ذلك، يؤكد أنّ إلغاء الفضاء المدني أو التضييق عليه لن يوقف الحراك "حتى لو أعادت السلطة القوامة على المجتمع المدني أو قيّدت فضاءه القانوني، فإننا سنواصل النضال كأفراد ومنظمات، وبالوسائل المتاحة، دفاعاً عن القيم التي نؤمن بها منذ قبل الثورة".

ويختم بن عمر تقييمه بالقول إن "كل السيناريوهات مفتوحة. قد نشهد حملات قمع جديدة في أي لحظة، لكن المواجهة القانونية والحقوقية ستستمر. المجتمع المدني لم يُخلق ليستسلم، بل ليكون في الصفوف الأمامية للدفاع عن الحقوق والحرّيات".

ومن جانبها، ترى منظمة العفو الدولية، في تقريرها لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أنّ "النمط الحالي من التضييق يمثل تراجعاً دراماتيكياً في ضمانات حرية تكوين الجمعيات"، وأن هذه التطورات تكشف عن إعادة تشكيل قسرية للمجال العام، حيث تحاول السلطة التحكم في كل موقع قادر على إنتاج نقد، من خلال القضاء، والرقابة الإدارية، والحملات المنظَّمة على الفضاء الرقمي.

إعادة هندسة المعارضة تحت الضغط

انطلقت التحرّكات الاحتجاجية الأسبوعية تزامناً مع صدور الأحكام الاستثنائية في قضية "التآمر على أمن الدولة"،، كان أبرزها المسيرات التي انطلقت من شارع الحبيب بورقيبة للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين ووقف "المسار العقابي للمعارضة". هذه الاحتجاجات، التي شارك فيها محامون، طلاب، عائلات الموقوفين وشخصيات سياسية، عكست تحوّلاً لافتاً في المزاج العام، حيث تمدّدت دائرة الرفض مقارنة بما كان عليه الوضع في 2023 و2024، حين كان الخوف والقمع كفيلين بإضعاف أي محاولة للتجمّع.

في هذا السياق، يقدّم الناشط السياسي حاتم النفطي قراءة دقيقة لهذا التحوّل، عبر رصيف22، مؤكداً أنّ ما يحدث اليوم "ليس تحالفاً سياسياً بالمعنى التقليدي"، بل تلاقي وعي بين أطياف مختلفة من المعارضة أدركت أنها أصبحت هدفاً مشتركاً لنهج سلطوي يقوم على "استهداف كل الأجسام الوسيطة"، وعلى رأسها الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية. ويعتبر النفطي أنّ الحكم على شخصيات مثل أحمد صواب، وأحمد نجيب الشابي، وشيماء عيسى، والعياشي الهمامي، شكّل لحظة فاصلة سمحت لشرائح من الرأي العام برؤية الطبيعة العقابية للمسار السياسي"، بعد أن طالت الإجراءات شخصيات كانت تعتبر حتى وقت قريب "خارج دائرة الاستهداف".

ويقول النفطي إن ما يربك السلطة اليوم هو تغيّر مواقف فئات كانت سابقاً متحفِّظة تجاه بعض رموز المعارضة. ويستشهد بحالة شيماء عيسى، التي واجهت تحفظاً من تيارات نسوية وسياسية عند توقيفها في 2023، قبل أن يتحوّل هذا الموقف اليوم إلى تضامن واسع، "لأن الضربات التي تأتي من سلطة فردية تلغي الفوارق التقليدية بين المعارضين".

ويشير كذلك إلى أن القضاء، منذ 2021، أصبح "مُركّعاً بالكامل"، خصوصاً بعد إعفاء القضاة في 2022 ورفض إعادة منصفين منهم بحكم قضائي، وهو ما يجعل المعارضة "في مرمى قضاء مُدجَّن" يصدر أحكاماً ثقيلة ذات طابع سياسي بحت.

لكن رغم هذه المؤشرات، يرى النفطي أن الاحتجاجات لا تزال نخبوية ومركّزة في العاصمة، ولم تتحوّل بعد إلى موجة اجتماعية واسعة. ويعتبر أنّ توسّعها يظل رهيناً بمستوى التأزم الاقتصادي والاجتماعي خلال الأسابيع المقبلة، إضافة إلى رد فعل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يلوّح بدوره بالتصعيد.

العائلات في الواجهة… والقضاء أداة للترهيب

إذا كانت الاحتجاجات تعبّر عن موجة غضب سياسية واجتماعية متصاعدة، فإنّ شهادة عائلات الموقوفين/ات تكشف جانباً آخر لا يقل أهمية: البعدين الإنساني والحقوقي للأحكام الاستثنائية، وحدّة الإجراءات التي تُتخذ ضد شخصيات معروفة. في هذا الإطار، تقدم فداء الهمامي، ابنة المحامي والناشط الموقوف العياشي الهمامي، صورة مقرّبة عن ما تعيشه العائلات اليوم، مؤكدةً أنّ الحكم الأخير بالنفاذ العاجل "لم يكن خطوة قضائية طبيعية، بل رسالة سياسية واضحة".

توضح فداء، لرصيف22، أن والدها، الذي كان يحاكم في حالة سراح منذ انطلاق القضية، لم يخلّ يوماً بأي إجراء، وكان دائم الحضور في كل الجلسات، ما يجعل توقيفه المفاجئ بعد الحكم الاستئنافي "خطوة لا يمكن فهمها إلا في سياق ترهيب المعارضين".

وتشير إلى أنّ ما تعتبره السلطة اليوم "قضية تآمر" هو، وفق هيئة الدفاع، قضية تآمر على المعارضة لا على الدولة، لأن الوقائع المنسوبة لوالدها ولغيره من الموقوفين لا تتجاوز حدود نشاط سياسي مشروع، وتضيف أن "القضية خالية تماماً من الأفعال الإجرامية"، وأن كل ما تحمله من وثائق يتعلّق بـ"أنشطة سياسية عادية: لقاءات، اجتماعات، اتصالات بين شخصيات معروفة وفاعلين سياسيين"، وهي ممارسات تعدها "جوهر العمل السياسي، لا مدخلاً لتوصيفات إرهابية".

وتذهب أبعد من ذلك بالقول إن ما يسمّى "الوفاق الإرهابي" الذي يُتهم به والدها يضم "شخصيات مدنية مثل خيام التركي، وغازي الشواشي، وعصام الشابي"، مبرزةً أنهم "اجتمعوا في إطار طبيعي لمناقشة الوضع العام، لا للتخطيط لأي أعمال عنف أو مسّ بالدولة". وتعتبر أن إدراج تهمة الإرهاب ليست سوى "محاولة لإضفاء طابع جنائي مصطنع على قضية سياسية بامتياز".

ورغم ذلك، تعبّر فداء عن قناعتها بأن التضامن الحقوقي يتّسع، وأن كشف تجاوزات الملف إلى الرأي العام "جزء من معركة أكبر للدفاع عن الحق في المحاكمة العادلة". وتتابع فداء: "لا يزال لديّ أمل في أن يفهم التونسيون، مع الوقت، أن لا علاقة للمتهمين بالإرهاب، وأن هذه الادعاءات السخيفة لن تصمد. في النهاية، سيتساءل المواطنون: هل ستتحسن حياتهم بتوقيف هؤلاء الناس؟ هل سيتغيّر الوضع الاقتصادي؟ بالطبع لا. وسيدرك الجميع أن الخروج من الأزمة يتطلّب الابتعاد عن خطاب الحقد والاستهداف السياسي".

حصار الأجسام الوسيطة في تونس… السلطة تسعى إلى تحييد الأحزاب والنقابات والجمعيات عبر حملات التخوين والملاحقات القضائية، فضلاً عن "تغييب ممنهج" للمجتمع المدني بما يجعل الشارع ومؤسسة الرئاسة وجهاً لوجه. فأي تأثير تضطلع به الاحتجاجات الأسبوعية في وجه القمع؟

أما في شأن الخروقات في الحق بالمحاكمة العادلة، فتؤكد فداء أنّها "لا تُحصى ولا تُعد"، وأنها بدأت منذ اليوم الأول في عام 2023 حين تم فتح القضية. وتوضح أنّ جميع الموقوفين، دون استثناء، لم تتوافر لهم شروط المحاكمة العادلة، وهو ما وثّقته منظمات حقوقية وجمعيات متعدّدة.

وتشمل الخروقات، وفق قولها: الإيقافات العشوائية وغياب سند قانوني واضح، واعتماد محاضر مبنية على شهود مجهولين، وعدم تمكين الدفاع من الاطلاع على كامل الملف، وتنظيم جلسات محاكمة في غياب المتهمين، وإصدار أحكام استثنائية مشدّدة لا تستند إلى أدلة جدّية.

هذه الشهادة الإنسانية تضع الاحتجاجات المتصاعدة في سياق أوسع: مجتمع يرى أن السلطة تستخدم القضاء كسلاح سياسي، وأن الهدف لم يعد فقط معاقبة الخصوم، بل إعادة رسم حدود المسموح والممنوع في العمل العام. ومع كل حكم ثقيل أو عملية توقيف جديدة، تتقلّص المساحة المدنية وتزداد قناعة المواطنين/ات والحقوقيين/ات بأن ما يجري يتجاوز مجرّد نزاع قضائي، إلى "هندسة سياسية لواقع جديد"، حيث تخضع المعارضة إلى نهج تركيع ممنهج.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image