تحويلات المهجر… شريان الحياة الصامت لأسر تونس في مواجهة الأزمة الاقتصادية

تحويلات المهجر… شريان الحياة الصامت لأسر تونس في مواجهة الأزمة الاقتصادية

حياة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 2 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

في تونس، بعيداً من ضجيج الخطابات الرسمية والأرقام الجامدة، تختبئ خلف الأبواب المغلقة قصص عائلات لم تعد تنتظر حلولاً من الدولة بقدر ما تنتظر إشعار تحويل مالي يصلها من بعيد.

أصبحت التحويلات المالية الواردة من الخارج شيئاً فشيئاً شريان حياة يربط مئات الآلاف من الأسر بأبنائها المنتشرين في أوروبا والخليج.

بين وجع الغياب وضرورة البقاء، نشأ اقتصاد موازٍ مبني على العاطفة والمسؤولية؛ اقتصاد يُدار في غرف صغيرة ببيوت تونسية تعتمد على ما يصلها من الخارج لتغطية التعليم، تخفيف وطأة الغلاء، سداد الديون، والحفاظ على عائلات تحاول أن تعيش بكرامة رغم الضغوط الاقتصادية.

تشير بيانات البنك المركزي التونسي والمعهد الوطني للإحصاء إلى أن تحويلات التونسيين المقيمين بالخارج بلغت نحو 7.6 مليارات دينار في عام 2024، بزيادة نسبتها 4.6% مقارنة بالعام السابق، وهو ما يعادل نحو 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

هذه الأرقام تعكس مدى تصاعد الاعتماد على هذه الأموال كدعامة أساسية في اقتصاد متأرجح يعاني من ارتفاع معدلات البطالة والتضخم المستمر.

التحويلات المالية...طوق نجاة للأسر التونسية وسط أزمة مستمرة

في مدنين جنوب شرق تونس، يعيش هادي، موظف حكومي بسيط، رب أسرة يواجه تحديات يومية بالغة الصعوبة راتبه الشهري بالكاد يكفي نصف الشهر، لكنه يؤمن حياة أفضل لأسرته بفضل تحويلات أبنائه من الخارج.

يروي هادي: "الأوضاع صعبة والأسعار في ارتفاع مستمر؛ راتبي لا يكفي حتى لنصف الشهر، لكن أبنائي، بخاصة الابن الأكبر الذي درس الهندسة الإعلامية في تونس ثم استقر في فرنسا، يرسلون لي دعماً مالياً ساعدني في ترميم البيت، تسديد الديون، وحتى أداء مناسك العمرة أنا ووالدتهم فمن غير هذا الدعم، لما استطعت الصمود".

في تونس، بعيداً من ضجيج الخطابات الرسمية والأرقام الجامدة، تختبئ خلف الأبواب المغلقة قصص عائلات لم تعد تنتظر حلولاً من الدولة بقدر ما تنتظر إشعار تحويل مالي يصلها من بعيد

في هذا الصدد، يقول الخبير الاقتصادي جوهر الباشا، الباحث في جامعة المنار بتونس، إن الزيادة في أعداد التونسيين بالخارج، التي ارتفعت من نحو مليون قبل الثورة إلى ما يقارب مليون وثمانمائة ألف اليوم، إلى جانب تراجع دخول الأسر المحلية، شكلت الدافع الرئيسي وراء تصاعد التحويلات المالية، التي أصبحت بمثابة شريان حياة لعديد الأسر، لكنه يحذر من أن هذه الأموال في غالبها "دعم استهلاكي يعوّض هشاشة الاقتصاد الوطني ولا يشكل استثماراً في التنمية المستدامة".

ويضيف لرصيف22: "بدون سياسات واضحة لتعزيز الاقتصاد الداخلي وإيجاد فرص عمل، سيظل هذا الاعتماد على الخارج أشبه بعلاج مؤقت لا يعالج الجذور".

تحويلات المهجر... دعم يومي لكنه لا يعوّض غياب الدولة

في شقتها بضاحية من ضواحي العاصمة، تقلّب سهام صفحات دفتر مصاريفها، كأنها تتلمس الحياة بأرقام تتبدّل كل شهر. زوجها، الذي هاجر إلى فرنسا في سن الحادية والعشرين ثم تزوجا لاحقاً، يرسل لها نحو 2500 دينار شهرياً، مبلغ كان يبعث في نفسها شعوراً بالأمان، لكنه اليوم بالكاد يغطي أقساط مدرسة خاصة لطفليهما، وفواتير الماء والكهرباء والإنترنت ونفقات المعيشة الأساسية.

تقول سهام بنبرة تختلط فيها الواقعية بالإرهاق: "تصل الأموال بانتظام، لكن الطمأنينة لا ترافقها… فكل شيء يرتفع إلا مداخيلنا."

ما تعيشه سهام في منزلها هو نموذج يعكس واقعاً أوسع يؤثر في آلاف الأسر في تونس، يقرأه الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور نادر الحداد، في تصريح لرصيف22، كمرآة لوضع أوسع، فحسب تحليله، أصبحت تحويلات التونسيين بالخارج شبكة الأمان الاجتماعية الأولى بدلاً من الدولة؛ فهي التي تمنع تدهور مستويات المعيشة، وتغطي الغذاء والسكن والتعليم، وتحافظ على آلاف الأسر خارج دائرة الفقر المباشر لكنها تكشف في الوقت ذاته هشاشة الاقتصاد الوطني وغياب منظومة حماية اجتماعية قادرة على تحمل مسؤولياتها.

إلا أن للتحويلات أثراً يتعدى الجانب الاقتصادي ليصل إلى الواقع العاطفي المؤلم. فسهام، التي تحاول حماية طفليها من شعور الفقد، تعترف: "أحياناً أبكي وحدي، حين أرى الأطفال مع آبائهم والنساء مع أزواجهن. يحاول زوجي القدوم في الصيف والأعياد، لكن ظروف العمل تقيّده".

هذا البعد الإنساني، يرى الحداد، يمثل جزءاً من الكلفة غير المحسوبة للتحويلات: استقرار مالي مقابل شرخ اجتماعي وتربوي طويل الأمد.

من الناحية الاقتصادية، يوضح الحداد أن التحويلات تمنح الدولة هامش تنفس عبر تعزيز احتياطي العملة الصعبة وتخفيف الاحتقان الاجتماعي، لكنها في الوقت عينه توجد ما يسميه "الاطمئنان الخادع"؛ أي إرجاء الإصلاحات الجوهرية لأن جزءاً من العبء تتحمله العائلات عبر أبنائها في الخارج.

ويضيف أن هذه المعادلة توجد علاقة مختلة: عائلات تصمد بفضل المهجر، ودولة تؤجل التغيير لعدم تحملها كلفة التأجيل.

ورغم رغبة سهام في لم شمل أسرتها، تصطدم أحلامها بتعقيدات الواقع؛ فزوجها يخشى فقدان عمله كعامل يومي في فرنسا، ويرى أن بقاء الأطفال في تونس يحفظ قيمهم ويوفر مصاريف لا يمكن تغطيتها هناك. ومع ذلك، يبقى الخوف حاضراً: "لو فقد عمله، فقد تتشرد عائلة كاملة"، وفق قولها.

في هذا التداخل بين الخاص والعام، بين حيرة أم ورقم في ميزانية الدولة، تتبلور الخلاصة التي تتقاطع فيها شهادة سهام مع تحليل نادر الـ: التحويلات تقي الأسر من السقوط، لكنها لا تبني اقتصاداً، ولا تعيد الأزواج إلى بيوتهم، ولا تُصلح دولة فقدت وظائفها الأساسية، وما لم تتحول إلى استثمار منتج ورؤية تنموية، سيظل الاستقرار هشًا، وسيظل المهاجر صمام أمان بلا نهاية، يدفع ثمن ذلك من جيبه ومن قلبه أيضاً.

بين الواجب العائلي وحدود القدرة… ضغط غير مرئي على المهاجرين

"خرجت من تونس وأنا أحمل حلماً وحملاً معاً"، هكذا يلخّص طارق، الشاب الذي غادر إلى فرنسا عام 2018 لإتمام دراسته في هندسة الإعلامية، تجربته الأولى مع الهجرة.

يقول لرصيف22: "أوّل مبلغ أرسلته كان من منحة التربّص، كان بمناسبة عيد الأضحى، وأحسست وقتها أنّني بدأت أُعيد لوالديّ جزءاً مما قدّماه لي".

تطوّر الدعم مع الوقت ليصبح، كما يوضّح طارق، "التزاماً لا يمكن التخلّي عنه"،فهو يرسل اليوم ما يقارب 2000 دينار شهرياً، رغم أنّ أسرته ليست معتمدة عليه كلياً، لكنه يوضح: "منحة تقاعد والدي الزهيدة وغلاء المعيشة جعلا التحويلات ضرورة، لا مجرّد مساعدة".

ورغم أنّ العائلة لا تمارس ضغطاً مباشراً، إلا أنّ الشعور بالواجب يتحوّل أحياناً إلى عبء: "حين أتأخر في الإرسال، أشعر بعتاب غير معلن وأحياناً تراودني فكرة البحث عن موارد إضافية لأتمكن من تغطية كل شيء".

تجربة طارق، رغم خصوصيتها، تعكس دينامية أوسع يصفها خبراء الاقتصاد في تونس.

فبحسب نادر الحداد، الذي يتابع سلوك الأسر والتحويلات عن قرب، لا يمكن فهم الضغط على المهاجرين بمعزل عن انهيار القدرة الشرائية داخل البلاد وغياب سياسات حماية اجتماعية فاعلة، فكثير من الأسر التي كانت مستقرة أصبحت اليوم عاجزة عن تغطية احتياجاتها الأساسية دون دعم خارجي.

أما جوهر الباشا فيذهب إلى أبعد من ذلك، معتبراً أنّ التحويلات لم تعد مجرد تضامن عائلي، بل أصبحت جزءاً من بنية اقتصادية غير معلنة تعوّض انسحاب الدولة من واجباتها.

ويضيف أنّ هذا الاعتماد يوجد طبقتين:" أسر لديها مهاجرون قادرون على مجابهة الأزمات، وأسر أخرى تغرق في الديون. وفي كلتا الحالتين، يصبح المهاجر محاصراً بين صورته النمطية كميسور دائم، وبين واقعه المرهق في بلد الإقامة".

وبين هذه التناقضات، يجد طارق نفسه أمام معادلة معقدة. فهو، كما يقول: "لا يستطيع أن يقول لا لأهله، فهذا واجب"، لكنه في المقابل يرفض الصورة الرائجة بأن "المهاجر دائماً بخير"، وهكذا تتحوّل حكايته من قصة نجاح لابن نجح في دراسته وعمله، إلى مرآة تعكس هشاشة اقتصاد يعيش على أنفاس أبنائه في الخارج.

نحو اقتصاد مستدام يتجاوز تسكين التحويلات

تونس اليوم ليست فقط أرقام بطالة تتجاوز 15% وتضخم يلامس 9.3% وفقاً لبيانات البنك المركزي التونسي، بل هي أيضاً شعور عام بأن الدولة لم تعد قادرة على ضمان الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي، وأن التحويلات القادمة من أوروبا والخليج أصبحت درعاً تحمي آلاف الأسر من الانهيار، لكن هذه الدرع، كما يوضح الخبير الاقتصادي جوهر الباشا، لا تصنع اقتصاداً، بل تخفف فقط آثار اقتصاد مضطرب فقد قدرته على توفير فرص عمل حقيقية داخل البلاد.

بين وجع الغياب وضرورة البقاء، نشأ اقتصاد موازٍ مبني على العاطفة والمسؤولية؛ اقتصاد يُدار في غرف صغيرة ببيوت تونسية تعتمد على ما يصلها من الخارج لتغطية التعليم، تخفيف وطأة الغلاء، سداد الديون، والحفاظ على عائلات تحاول أن تعيش بكرامة رغم الضغوط الاقتصادية

أما الخبير الاقتصادي والمالي نادر الحداد، فيذهب أبعد من توصيف الواقع، ليقدّم ملامح طريق بديل يرى أنه السبيل الوحيد لتحويل دور المهاجر من ممول للعيش اليومي إلى شريك في صناعة مستقبل اقتصادي مختلف.

ويشير الحداد في هذا الإطار إلى خمسة مسارات أساسية: خفض كلفة التحويلات عبر قنوات رقمية شفافة، خلق أدوات مالية مخصصة للدياسبورا مثل سندات الادخار والصكوك والصناديق الجهوية، تبسيط تأسيس المشاريع الصغيرة والمتوسطة، توفير ضمانات قانونية تقلل الخوف من الفساد والتعسف الإداري، ومنصات تربط المهاجرين بمشاريع محلية ذات جدوى حقيقية.

هذه الخطوات، كما يشرح، يمكن أن تحوّل التحويلات من مال يُستهلك بسرعة إلى رأس مال يخلق قيمة وفرصاً.

وبين رؤى الخبراء وتجارب العائلات وضغط المهاجرين الصامت، يظهر سؤال أعمق: هل يمكن لبلد يعيش منذ سنوات على مساهمات أبنائه خارج حدوده أن يعيد بناء نفسه بحيث لا يكون دعمه الاقتصادي مرهوناً بالغربة؟ وهل تستطيع تونس — سياسياً ومؤسساتياً وثقافياً — أن تنتقل من اقتصاد يحتاج إلى تحويلات، إلى اقتصاد يجعل من أبنائه في الخارج شركاء لا مسعفين؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image