في صباح شتوي بارد، كانت رقية بن حمادي* تمشي بخطوات متردّدة نحو إحدى الفلل البيضاء في شارع متفرّع من شارع آلان سافاري، في العاصمة تونس. واجهة أنيقة ولافتة كبيرة أوحتا لها بالثقة، بينما كانت تحمل بين يديها ملفاً ثقيلاً من الأوراق، التي طُلبت منها في زيارتها السابقة لهذا المكان؛ "مكتب وساطة". في حقيبتها الصغيرة، كانت نقود دفعة مالية مطلوبة أيضاً (2،000 دينار تونسي، نحو 750 دولاراً)، حسب ما تخبر رصيف22، على أمل أن يكون هذا الباب هو المدخل أخيراً إلى حلمها الكبير؛ الدراسة في أوروبا، بعد تجربتين فاشلتين مع مكتبين آخرين.
تقول رقية، إنها كانت تشعر في كل مرة تزور فيها "مكتب وساطة تعليمية"، وكأن الأبواب كلها فُتحت أمامها. "وعدوني بقبول جامعي مضمون، وسكن جامعي، وأحياناً منحة دراسية. حتى التأشيرة دائماً ما يقولون إنها مضمونة. دفعت كل ما طلبوه وأنا متأكدة من أن حلمي أصبح قريباً من التحقّق".
لكن ما اعتقدتها بدايةً مشرقةً، سرعان ما غدت متاهةً من الوعود الفارغة، والاستنزاف المادي، وأحياناً التهديد والابتزاز. لم تحصل رقية لا على السكن ولا المنحة الدراسية، واضطرت في النهاية إلى دفع ما يزيد عن 12،000 دينار تونسي (ما يعادل 4،000 دولار) بين مكتب وآخر، ولم تحصل في المقابل إلا على قبول في جامعة خاصة في إيطاليا، حيث وجدت نفسها وحيدةً في غرفة صغيرة استأجرتها لتؤويها.
"تشعر أنّك مجرد رقم"... ما الذي يحدث حين يتحوّل الحلم الأكاديمي إلى سلعة تُباع وتُشترى، ويتحوّل أصحاب مكاتب الوساطة التعليمية في تونس من "وكلاء سفر" وميسّرين للإجراءات إلى "تجار أمل" يستغلون هشاشة الشباب ورغبتهم في الهجرة؟
حلم مشترك للشباب التونسي
قصة رقية ليست استثناءً. فبحسب تقرير لـ"الباروميتر العربي"، نُشر في آب/ أغسطس 2024، فإن أكثر من سبعة من كل عشرة شباب تونسيين (بين 18 و29 عاماً) عبّروا عن رغبتهم في مغادرة البلاد، وهي أعلى نسبة في المنطقة. الدراسة في الخارج تُعدّ أحد المسارات المفضّلة لتحقيق هذا الطموح، حيث يغادر آلاف الطلبة التونسيين سنوياً، بما يناهز 10% منهم، نحو جامعات أجنبية.
عام 2024 مثلاً، تقدّم 177،951 طلباً لتأشيرة "شنغن" من تونس، رُفض أكثر من 38 ألفاً منها، أي ما يعادل 21.39%. وكانت فرنسا الوجهة الأولى من حيث عدد الطلبات. في المقابل، سجّلت اليونان واحدةً من أعلى نسب الرفض، بما يقارب النصف. هذه الأرقام تعكس حجم التحدي الذي يواجه الشباب التونسيين الراغبين في السفر إلى الغرب، خاصةً أوروبا، بما يجعل من مكاتب الوساطة التعليمية، سواء كانت معتمدةً من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التونسية أو غير معتمدة، الخيار الذي يَعِدُ بالحلول السريعة مقابل المال.
لكن ما الذي يحدث حين يتحوّل الحلم الأكاديمي إلى سلعة تُباع وتُشترى، ويتحوّل أصحاب هذه المكاتب من "وكلاء سفر" وميسّرين للإجراءات إلى "تجار أمل" يستغلون هشاشة الشباب ورغبتهم في الهجرة؟
وعود فضفاضة، عقود إذعان، وأموال بالملايين تتحرّك خارج المظلة الرسمية في قطاع مكاتب الوساطة للدراسة في الخارج، فيما الهيئات والوزارات التونسية المعنية تكتفي بالصمت، وأحياناً بإجراءات شكلية لا تأتي بجديد ولا توقف استنزاف عشرات الأسر التونسية مادياً والتلاعب بأحلام مئات الشباب سنوياً. في هذا التقرير يتتبع رصيف22 خمسةً من هذه المكاتب، ويكشف كيف تخدع الشباب التونسيين الحالمين بفرصة تعليمية في الخارج قد تغيّر حياتهم كلياً، دون أن تلعب السلطات الرسمية أي دور في وقف هذه العملية المتكرّرة التي تخالف القوانين في مختلف مراحلها.
ويتحفّظ رصيف22، عن ذكر أسماء هذه المكاتب فيما يحتفظ بالأدلة والإثباتات كافة على ما يرد في هذا التحقيق من معلومات واتهامات.
بداية متاهة رقية
تعود رحلة رقية إلى ربيع عام 2021. لم تكن قد حصلت بعد على شهادة البكالوريا، وسمعت من صديق عن مكتب في وسط العاصمة ييسّر إجراءات السفر لأغراض تعليمية. قصدت المكتب مع والدتها، وهناك أخبرها المسؤول بأنّ القبول في ألمانيا "مضمون" شرط الحصول على معدل يفوق 12/ 20.
العرض كان مغرياً: مرحلة تحضيرية في جامعة ألمانية، ثم الالتحاق بدراسة الهندسة، مقابل 1،400 دينار (ما يعادل تقريباً 480 دولاراً). شمل العرض تحضير الوثائق وحجز موعد لاجتياز اختبار اللغة الألمانية في معهد "غوته". دفعت رقية 700 دينار (240 دولاراً) كـ"تسبقة" (أي دفعة أولى)، على أن تُكمل الباقي لاحقاً.
لكن الوعود سرعان ما تلاشت تباعاً. فالمكتب لم يحجز لها موعد اختبار اللغة كما قيل لها في البداية، بل تركها تواجه صعوبة إيجاد موعد بمفردها. تقول رقية: "ظننت أن المبلغ الذي دفعته يغطي كل شيء. لكنهم قالوا لاحقاً إن المبلغ فقط لفتح الملف. لم أجد موعداً متاحاً بسهولة في المعهد، واضطررت إلى حجزه بنفسي (…) حتى اتصالاتي لم يعودوا يردّون عليها إلا حينما أتصل من رقم مختلف".
شعرت رقية بخيبة أمل كبيرة. وحتى بعد اجتياز الاختبار، تجاهل المكتب اتصالاتها ولم يبدِ أيّ تعاون معها. تزامن ذلك مع قبولها في دراسة القانون في تونس، فتوقّفت عن التواصل مع المكتب. ومع انهيار خطتها الأولى، تراجعت مؤقتاً عن فكرة الدراسة في الخارج وواصلت دراستها الجامعية في تونس. لكن الحلم لم يمُت داخلها.
محاولة ثانية عبر "واجهة لامعة"
بعد أن أنهت إجازتها في القانون في 2024، عادت رقية لتطرق باب مكتب آخر بدا أكثر صيتاً واحترافيةً بل معروفاً أكثر إعلامياً، ومسؤولته سيدة أجنبية تحمل الجنسية التونسية، تقدّم نفسها إعلامياً على أنها "جسر للطلبة نحو الجامعات الأوروبية".
قدّمت لها المسؤولة عرضاً يشمل "قبولاً مضموناً" في جامعة لوزان السويسرية، مع سكن جامعي وضمان للتأشيرة، مقابل رسوم بلغت 3،000 دينار على دفعتين، ثم 800 دينار (إجمالاً نحو 1،300 دولار) إضافية ترسل للجامعة. تقول رقية: "كان العرض مغّلفاً بطريقة جذابة: قالت لي المسؤولة إنّ سويسرا بلد الفرص والثروة السهلة، والدراسة والعمل في آن واحد، والمستقبل المضمون (...) حديثها جعلني أتخيّل نفسي وقد أصبحت مليونيرة".
 
  
  
 لكن سرعان ما بدأت المفاجآت. بعد أن دفعت المبالغ، لم تتلقَّ أيّ رسالة إلى أن تواصلت هي مع المكتب هاتفياً، وهناك كانت الصدمة: تلقت ردّاً بارداً فهمت منه أن ملفها وملفات ثلاثة طلبة آخرين قد رُفضت. وحين سألت عن السبب، لم تحصل على إجابة. بعد فترة، عرض عليها المكتب تسجيل ملف جديد مقابل 800 دينار (نحو 280 دولاراً) إضافية، ثم طالبها، في اتصال هاتفي، لاحقاً بدفع الـ1،500 دينار (نحو 500 دولار) المتبقية تحت الابتزاز بعدم تسليمها أوراقها والتواصل مع الجامعة لرفضها إن لم تدفعها.
فالمكتب يعمد إلى إنشاء حساب بريد إلكتروني لكل طالب للتواصل مع الجامعة. هذا الحساب لم يُمنح لرقية أبداً حيث طُلب منها استكمال بقية الدفعات للحصول عليه. وهو ما رفضته. قبل أن تحصل عليه بأن دفعت 200 دينار (نحو 70 دولاراً) لموظفة في المكتب دون علم الإدارة.
حين اطلعت رقية على المراسلات، اكتشفت أن المكتب لم يرسل للجامعة كل الوثائق المطلوبة، وأن المراسلات بين الطرفين كانت غير احترافية حيث لم يرفق المكتب الوثائق كافة المطلوبة للجامعة، ما استنتجت منه أن رفضها كان بسبب تقصير المكتب.
 
  
  
 من سويسرا إلى إيطاليا
كان صيف 2024 طويلاً وحاراً. وبينما كانت رقية لا تزال تنتظر مآل ملفها لدى المكتب الثاني، فكّرت في استغلال وقتها في تعلّم اللغة الإيطالية. توجّهت إلى مكتب شهير متخصّص في تسويق برامج دراسية في إيطاليا في قلب العاصمة تونس، لكنها صُدمت حين أخبرها المسؤول بأنّ دراسة اللغة لديه تكلّف 7،000 دينار (نحو 2،400 دولار). وحينما عبّرت عن دهشتها من المبلغ، أقنعها بأنه بالمبلغ نفسه يمكنه تجهيز ملف كامل وتأمين السكن والتأشيرة والتسجيل الجامعي في إيطاليا في وقت قياسي لا يتجاوز الشهرين.
دفعت رقية 4،500 دينار (نحو 1،600 دولار) كقسط أوّل، لكن المكتب لم يؤمّن لها السكن كما وعد. وحين اقترب موعد الحصول على الفيزا، لم تتسلّم وثائقها إلا بعد دفع مبالغ إضافية. في النهاية، وجدت نفسها في إيطاليا بلا سكن وقد دفعت 9،200 دينار (نحو 3،000 دولار) للمكتب مقابل خدمات منقوصة وليس 7،000 دينار (نحو 2،400 دولار).
تقول بمرارة إنه صحيح أنها غادرت تونس، ولكنها اضطررت إلى دفع أكثر من 12 ألف دينار بين المكاتب الثلاثة. وفي النهاية لم تحصل سوى على تأشيرة، بلا سكن ولا منحة، حتى أوراقها ظلّت (في المكتبين الأخيرين) تُحتجز كوسيلة لطلب المزيد من المال، على حدّ قولها.
قصة رقية، التي تتكرّر مع طلبة غيرها، تطرح سؤالاً أساسياً: أين السلطات التونسية من مراقبة عمل هذه المكاتب التي تتاجر بأحلام الشباب وآمالهم؟ وهل توجد قوانين تحكم عمل هذه المكاتب وتضمن للمتعاملين/ ات معها حقوقهم وتحميهم من الاستنزاف المادي والابتزاز بأوراقهم وملفاتهم؟
وجوه أخرى للخيبات ذاتها
نور… باحثة وجدت نفسها في برنامج لا تعرفه
كانت نور تستعدّ للتخرّج من كلية العلوم عام 2023، في تونس العاصمة حينما لفت أستاذها المشرف انتباهها إلى أنّ مشروع تخرّجها يمكن متابعته في جامعة إيطالية، ما دفعها إلى التفكير في استكمال دراستها هناك. تقول لرصيف22: "في مكتبه في الكلية، قال لي الأستاذ المشرف: هذا المشروع قد يفتح لك باب مواصلة البحث العلمي في إيطاليا، فبدأت البحث عن مكتب يساعدني في الحصول على منحة دراسية هناك".
زارت نور مكتبَين في العاصمة ولكنها صُدمت من المبالغ التي طُلبت منها حيث طلب كل مكتب مقابل دروس اللغة وتجهيز الملف 6 آلاف دينار (نحو 2،000 دولار) قبل أن يقودها البحث أخيراً إلى مكتب صغير في مدنين (جنوب شرقي البلاد). لا مقر رسمياً ولا لافتة أو حسابات افتراضية. استقبلتها امرأة خمسينية بابتسامة شعرت أنها "مطمئنة". جلست نور في غرفة ضيقة تملؤها ملفات الطلبة. تقول: "شعرت بالثقة حين أخبرتني بأنّ لديها علاقات مباشرةً مع جامعات إيطالية. قالت لي بالحرف: 'لن نتركك وحدك، ستدرسين وتحصلين على منحة سكن'".
يتحدّث الكرباعي عن أنّ بعض المكاتب يديرها أجانب استثماراً لما يسمّيه "عقدة الأجنبي" لدى بعض الأشخاص الذين يرون في المدير الأجنبي ضمانةً للثقة بهذه المكاتب.
ارتاحت نور لخطاب السيدة التي كانت الوحيدة التي لم تسألها عن راتب والدها ومستواها الاجتماعي عكس المكتبين السابقين، كما أن عرضها كان أقل من العروض الأخرى مادياً.
دفعت نور المبلغ كاملاً مقدّماً (1،500 دينار: نحو 500 دولار)، قبل أن تحصل على أي شيء. كانت تتعامل بـ"ثقة عمياء"، على حد قولها. وانطلقت في بقية الإجراءات لتجهيز الأوراق وشهادة اللغة للحصول على التأشيرة.
لكن المكتب عاملها ببرود بعد الحصول على الأموال، وتناقَضت وعوده. "تشعر أنك مجرد رقم، لا يجيبونك إلا في اللحظة الأخيرة، وفي كل مرة قصة جديدة. حتى أنا لم أكن أعرف في أي جامعة سأدرس إلا عندما وصلت إلى هناك".
في إيطاليا، وجدت نور نفسها وحيدةً. أزمة سكن خانقة، وأسعار باهظة، خاصةً أنها وصلت متأخرةً، في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد أن أغلقت معظم مراكز اللغة أبوابها. "صحيح أنه ليس من الضروري دراسة جميع مستويات اللغة في تونس، لكن العثور على مركز لغة في إيطاليا ليس أمراً سهلاً، وإذا جئت متأخراً تجد أن كل شيء قد أُغلق"، تعقّب.
الصدمة لم تكن في الجانب الإداري فحسب، بل في الجوهر. تشرح نور: "لم أجئ للعمل أو للتنقّل بين الأماكن، بل جئت للدراسة. أردت أن أطوِّر نفسي في مجالي، لكنني وجدت نفسي في اختصاص لا أعرفه... ندم القدوم إلى هنا شعور يومي يتكرّر في كل صباح"، مستدركةً بأنّ السلبيات والإيجابيات موجودة في كل مكان.
من تخصّصها في دراسة الجيولوجيا في كلية العلوم للرياضيات والفيزياء والطبيعيات، في جامعة تونس المنار، وجدت نفسها في إيطاليا مسجَّلة في اختصاص "هندسة مدنية". اختصاصان مختلفان تماماً.
بعد سنة ونصف من المحاولات لإصلاح ما تصفه بأنه "خطأ بسيط في التسجيل"، ترى نور أنّ مكاتب الوساطة لا تقوم بجهد حقيقي لخدمة المتعاملين معها، وتضيف أن كل ما تقوم به لا يعدو كونه "إجراءات روتينيةً يمكن التعرف عليها بالبحث عبر الإنترنت، وهي ليست كافيةً دائماً لضمان التسجيل في جامعة موثوقة أو الحصول على تأشيرة للتعلّم…".
وتزيد على ما سبق أنّ العملية لا تتطلّب وجود مكاتب وسيطة، خصوصاً في مدن مثل بيزا التي تفتح أبوابها للطلاب، مبرزةً: "بيزا لديها قدرة على استقطاب الطلبة، حيث تُقدَّم الأوراق بسهولة، والمكاتب تدرك ذلك وتستغلّه". عملياً، بيزا من المدن الإيطالية الجاذبة للطلاب إذ تُعدّ جامعة بيزا واحدةً من الجامعات الكبرى في إيطاليا، ويبلغ عدد طلابها نحو 46،000 في مدينة تعداد سكانها نحو 90،000، ما يجعلها مدينةً جامعيةً بكل المعايير.
لؤي وحلم الطفولة
ينحدر لؤي (26 عاماً)، من مدينة تالة في ولاية القصرين ويعيش في نابل. بعد حصوله على شهادة البكالوريا، التحق بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف في نابل، لكنه لم يتأقلم مع هذا المسار الدراسي، فانقطع عن الدراسة فترةً، ولم تغِب فكرة الهجرة عن ذهنه قطّ، خاصةً أنّ لديه أقارب في الخارج وأخاً هاجر إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية. يستحضر لؤي تلك المرحلة قائلاً لرصيف22: "كنت أحلم بطريقة للسفر والالتحاق بأخي، لأعيش معه وأبدأ من جديد في بلد أحببته منذ طفولتي".
طريق لؤي نحو مكاتب الوساطة بدأ عبر صديق يدرس في إيطاليا، عرّفه على مكتب في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة، وأخبره بأنّ صاحبه شخص يمكن الوثوق به. غير أنّ المفارقة، كما يقول لؤي، أنه لم يرَ صاحب المكتب أبداً. "المضحك أنني لم ألتقِ به قط. المكتب أشبه بشبكة تديرها مجموعة، كل شيء يتم عبر وسطاء، وكأنها عصابة"، يروي.
برغم أن المكتب ينشط وينشر بانتظام على السوشال ميديا، ويقع مقره في الشارع الأشهر في تونس العاصمة، إلا أنه ليس معتمداً وفق قائمة المكاتب المعتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والتي شاركتها الوزارة مع رصيف22. لم يكن لؤي يعرف ذلك في البداية، حسب ما يقول، ولم يكن ملمّاً أصلاً بالإطار المنظّم لعمل مكاتب الوساطة.
 
  
  
  
 يقول لؤي، إنّ عرض المكتب آنذاك بدا له مثالياً: تأشيرة مضمونة، تسجيل جامعي، إقامة في الحي الجامعي، وحتى منحة مالية. لكن الواقع كان مغايراً. فبعد دفعه 500 دينار (170 دولاراً) كرسوم أولية لفتح ملفه، وجد نفسه مطالباً بتسديد مبالغ إضافية في كل مرحلة. حتى دروس اللغة الإيطالية التي وفّرها المكتب كانت باهظة الثمن: 500 دينار للمستوى الواحد، في حين أنّ السعر المعتاد لا يتجاوز 300 دينار (100 دولار)، علماً أنّ الأسعار تتفاوت بين مكتب وآخر. يصف لؤي هذه التجربة: "الأستاذة لم تكن كفؤة، عدد الطلبة كان كبيراً جداً، وواضح أنها لا تتقاضى أجراً جيداً. كل شيء كان مرتبطاً بالعدد، يقبلون المئات دفعةً واحدةً، والمهم أن يجمعوا المال".
وذات مرة، حضر لؤي لقاءً في المكتب، فاكتشف مشهداً صادماً: "عشرات الملفات مكدسة تتقاذفها أيدي العاملين"، يقول إنه أجرى حسبةً آنذاك في ذهنه: "تخيّل، لو دفع كل طالب/ ة 500 دينار مضروبة في وليكن 200 ملف، أي ما قد يعادل 100 ألف دينار (نحو 34 ألف دولار). أموال بملايين الدينارات تدخل دون أن تشمّ الدولة حتى رائحتها"، حسب اعتقاده. وبرغم أنه كان يستلم إيصالات عند الدفع، إلا أنّ المكتب يظلّ غير مدرج في قائمة المكاتب المعتمدة، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى التزام المكتب بقوانين التصريح الضريبي.
بمرور الوقت، بدأت شكوك لؤي تتعزّز. يشرح: "كلما ذهبت لأسأل عن الملف، أجد مكتب المسؤول مغلقاً، ويطلب الموظفون مني العودة لاحقاً. لكن حين يحين موعد الدفع، يحضر المسؤول ويفتح مكتبه ثم يغلقونه من جديد مباشرةً بعد استلام المال". حينها قرّر أن يوقف التعامل مع المكتب في ما يخص ملف السفر، مكتفياً بمتابعة دروس اللغة معهم فقط.
فضلاً عمّا سبق، أغلب زملائه الذين درسوا معه ودفعوا الأموال لم يتحصّلوا على تأشيرات، باستثناء قلة قليلة لا تُذكر مقارنةً بحجم الملفات. "أعرف أشخاصاً دفعوا سبعة آلاف دينار مع مكتب آخر، وتمكّنوا من السفر، لكن مع هذا المكتب أعتقد أن الحظوظ شبه منعدمة". هذه الشكوى تتسق مع ما لاحظه رصيف22 من شكاوى متعلّقة بعمل المكتب نفسه على مجموعة خاصة عبر فيسبوك يتشارك فيها الطلاب تجاربهم.
 
  
  
  
 وعندما سألناه عن اعتقاده في ما إذا كان هذا المكتب يتمتّع بنفوذ أو بعلاقات مع مسؤولين، يقول لؤي: "ليست علاقات كما قد يتصوّر الناس، بل نفوذهم في التزوير. إذا لم يكن لديك حساب بنكي مغلق، يمكنك أن تدفع ألف دينار (أكثر من 300 دولار) إضافية، وهم يزوّرونه لك. يغيّرون اسم الكشوفات ويعطونك ورقةً مزوّرةً تثبت أنك فتحت حساباً مجمّداً في البنك". يبدو أنّ هذه الممارسات رائجة، حيث رصدنا في مجموعات خاصة بالطلبة على فيسبوك، منشورات لأشخاص يعرضون تزوير وثائق الحساب البنكي المجمد وآخرين يسألون عمن يساعدهم في ذلك.
تتم هذه العملية عبر فتح حساب بنكي باسم الطالب/ ة في بنك أوروبي أو بنك شريك، ويُودَع فيه مبلغ مالي محدّد سلفاً. هذا الحساب يكون "مجمّداً"، بمعنى أن الطالب لا يستطيع سحب المبلغ كاملاً دفعةً واحدة، بل يُفرج عنه شهرياً (مثلاً حساب 992 يورو شهرياً في ألمانيا في 2025).
يتنهّد لؤي وهو يسترجع التجربة التي سلبته حلمه: "ما آلمني فعلاً هو أنني أحببت إيطاليا منذ صغري. لم أكن أحلم بجنّة، بل فقط أن أذهب للعمل والدراسة والعيش، وأن ألتقي أخي وأعيش في بلد تمنيت الوصول إليه طوال حياتي".
ويختم: "أنصح أي شاب بأن يعتمد على نفسه ويبحث بنفسه. كل شيء متاح على الإنترنت، يمكن البحث عبر الإنترنت عن بعض النصائح والخطوات الأساسية لـ‘الدراسة في إيطاليا’ لتجد الشرح كاملاً. هذه المكاتب تستغلّ جهل الناس وخوفهم من الإجراءات، وتبيعهم الأوهام".
هوس مهدي بألمانيا ينتهي بخذلان
لم يكن مهدي إبراهيم (23 عاماً)، من مدينة الصمعة في ولاية نابل، أحسن حالاً في تجربته الأولى مع مكاتب الوساطة التعليمية. كان شغفه بالموسيقى هو الشرارة الأولى التي أيقظت حلم الدراسة في ألمانيا. يروي لرصيف22، كيف بدأت القصة عندما شاهد ذات مرة وهو في سن الـ16 مقابلةً مع فنان ألماني يسأله أحد المتابعين ممازحاً إن كان جميع الألمان يستمعون إلى فرقة "رامشتاين" كل صباح، فدفعه الفضول إلى البحث عن هذه الفرقة الشهيرة، ليجد في موسيقاها عالماً مختلفاً جعله يختار اللغة الألمانية كمادة اختيارية في دراسته الثانوية، لتتحوّل الموسيقى إلى دافع حقيقي له للهجرة إلى هذا البلد الأوروبي.
أولى محاولات مهدي كانت عبر العائلة، إذ كان ابن عمه قد سافر إلى ألمانيا قبل سنوات، دون اللجوء إلى مكاتب وساطة. دُعي ابن العم هذا ذات مرة إلى المعهد الذي يدرس فيه مهدي ليشجّع التلاميذ على اتخاذ خطوة السفر، لكن كما يقول مهدي ضاحكاً: "كنت حينها ساذجاً ولم أقدّر الموقف فأضعت الفرصة على نفسي".
أين السلطات التونسية من مراقبة عمل مكاتب الوساطة التعليمية التي تتاجر بأحلام الشباب وآمالهم؟ وهل توجد قوانين تحكم عمل هذه المكاتب وتضمن للمتعاملين/ ات معها حقوقهم وتحميهم من الاستنزاف المادي والابتزاز بأوراقهم وملفاتهم؟
لاحقاً، اختار مهدي وكالةً شهيرةً، لكن تجربته معها كانت مليئةً بالغموض. فبعدما دفع نحو 1،350 ديناراً تونسياً (نحو 460 دولاراً) من أصل 2،300 (نحو 800 دولار)، وطُلب منه استكمال بقية المبلغ، بدا له كل شيء -على الورق- مرتباً، لكن كما يقول: "عندما بدأت أطرح الأسئلة، لاحظت غموضاً في الأجوبة. كانوا يردّون عليّ بطريقة سطحية، يماطلون، ويقدّمون وعوداً عامة دون وضوح". ربما يعكس هذا جانباً من الغموض الذي تعتمده مكاتب الوساطة لإغراء الشباب.
ويستدرك بأنّ هناك من سافروا عبر الوكالة نفسها بالفعل معرباً عن اعتقاده بأنها "لا تتلاعب بالناس". لكن في تجربته، شعر بأنّ الوكالة تركز فقط على الجانب المالي، وتُخفي عنه تفاصيل مهمةً تخصّ الإجراءات، لذا فقد الثقة بها.
لذا، تواصل مع مكتب آخر معتمد من الوزارة، وحينما أخبر المسؤولين عنه بأن لديه ملفاً مفتوحاً مع مكتب وساطة آخر ينتظر منه سداد 950 ديناراً (نحو 300 دولار) كقسط ثانٍ، اقترحوا عليه أن يدفع لهم الـ950 ديناراً لقاء ملف كامل من جديد معهم.
يقول مهدي إنه لمس فرقاً واضحاً في التعامل مع المكتب الجديد حيث استقبلته الموظفة بـ"شرح واضح وشفاف"، وطمأنته بأنه حتى بعد الرفض الأول من السفارة لملفه مع المكتب السابق، يمكن إعادة بناء ملف جديد وتقديم اعتراض رسمي، وهو ما حدث فعلاً. "الشعور بالخوف والقلق الذي كان يرافقني في البداية زال تماماً. كانوا يتابعون معي كل التفاصيل، أي ورقة ناقصة أو وثيقة إضافية يطلبونها مباشرةً ويحرصون على إتمام كل شيء في وقته". بالفعل، قُبل الاعتراض وعاد الأمل من جديد"، يؤكد.
كما يوضح مهدي أنّ المبلغ الذي كان هذا المكتب يطلبه عادةً كان 1،550 ديناراً تونسياً (أكثر من 500 دولار)، ثم خُفّض إلى 1،250 (نحو 400 دولار)، وعندما علمت الموظفة أنه يفكر في وكالة أخرى، خفّضت السعر مجدداً إلى 950، مشدّداً على أن هذا المكتب كان "في منتهى الحرفية" وساعده إلى النهاية. كما يلفت إلى أن ما يُسمّى "قبولاً جامعياً" ليس بالضرورة التزاماً بالدراسة في الجامعة نفسها، بل غالباً يُستعمل فقط لتسهيل الحصول على تأشيرة تعليمية، فيما يكون الطالب بعد السفر حرّاً في اختيار أي جامعة أو تخصّص دراسي يناسبه.
وبرغم الخسائر المادية التي تكبّدها في البداية، لا يرى مهدي أنّ وقته قد ضاع. فقد استغل ذلك في تعلّم اللغة والبرمجة ومساعدة شقيقه في العمل على المشروع الذي كان يديره. ويقول: "عائلتي دعمتني بشكل كبير، وأنا ممتن لها. هذه التجربة كشفت لي الكثير من الحقائق، وعلّمتني ألا أثق بالوعود الزائفة بسهولة". لذلك ينصح الشباب التونسي، تحديداً "من يملك القدرة المادية والنفسية، بأن يخوض التجربة، لكن عليه أن يتحرّى جيداً ولا يثق بكل من يعده بـ'الجنة'".
في المقابل، يُلقي مهدي باللوم على "الأشخاص الفاسدين، سواء في الإدارة أو بين عامة الناس. هناك حاجة إلى رقابة صارمة على مكاتب الوساطة التي تستغل الشباب". ويختم: "القانون لا يحمي المغفّلين، والاحتيال موجود في كل مجال، حتى مع وجود الرقابة، لذلك يجب على الشباب أن يكونوا أكثر وعياً ودقةً في اختياراتهم".
إيطاليا وجهة لشباب تونسي بلا أفق
مع تجاوز عدد الطلبة التونسيين في الخارج حاجز الـ76،000 في عام 2022، تظل فرنسا الخيار الأكاديمي الأول (57.9%)، تليها ألمانيا (11%)، فيما تأتي دول مثل إسبانيا وإيطاليا في مراتب خلفية دون توافر أرقام رسمية دقيقة عن حصة كل منها من الطلاب التونسيين. وبرغم ذلك، فإنّ إيطاليا تظل وجهةً بارزةً للتصدير، نظراً إلى قربها الجغرافي، وتعدّد الكليات التي تضمها، وسوق المكاتب المؤطرة للدراسة في الخارج التي تقول إنها تسهّل السفر إليها.
في هذا الصدد، يرى الناشط الحقوقي التونسي المختص بقضايا الهجرة، مجدي الكرباعي، في حديثه إلى رصيف22، من روما، أنّ الهجرة الدراسية إلى إيطاليا شهدت ارتفاعاً ملحوظاً بين عامَي 2022 و2025. ويحيل هجرة التونسيين إلى إيطاليا إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية المتواصلة في تونس، قائلاً: "عائلات بأكملها أصبحت تلجأ إلى الاقتراض لإرسال أبنائها إلى إيطاليا بحثاً عن مستقبل أفضل، وهذه الظاهرة شملت مختلف الفئات الاجتماعية".
ويؤكد الكرباعي أنّ دوافع هذه الموجة واضحة: انسداد الأفق حيث وصلت نسبة البطالة بين الشباب (من 15 إلى 24 عاماً) إلى 40.5% في الثلث الثالث من 2024، فضلاً عن نقص الفرص التعليمية محلياً. بالنسبة لآلاف الطلبة، لا تمثّل الدراسة في إيطاليا مجرد شهادة جامعية، بل مساراً للهجرة القانونية وتحسين المهارات والحصول على عمل لاحقاً، وفق الكرباعي الذي يستشهد بتقارير منظمة الهجرة الدولية (IOM)، التي تشير إلى أنّ عدد التونسيين المقيمين بصفة قانونية في إيطاليا ارتفع إلى نحو 102 ألف شخص.
أما المدن الأكثر استقطاباً للطلبة التونسيين، بحسب الكرباعي، فهي روما (لوجود جامعتَي La Sapienza وRoma Tre)، وميلانو وتورينو في البرامج المهنية، بالإضافة إلى جامعات توسكانا مثل فلورنسا وبيزا المعروفة ببرامج الطب والعلوم الإنسانية. أما قنوات الوصول إلى هذا البلد القريب، فتتنوع بين التأشيرة الدراسية (Tipo D)، وبرامج التبادل مثل Erasmus Mundus، أو عبر مكاتب الوساطة التي تقدم "عروضاً شاملةً" للتسجيل الجامعي، والترجمة، والتأشيرة.
لكن الكرباعي يشير إلى أنّ هذه المكاتب باتت مصدراً متكرراً للأزمات. فقد تعرّض مئات الطلبة التونسيين في السنوات الأخيرة إلى الاحتيال من مكاتب غير معتمدة، وفق تجربته، تقدّم وعوداً بمقاعد في جامعات مرموقة، ومنح كاملة، أو سكن بأسعار زهيدة.
"الطالب يدفع ما بين 2،000 و5،000 دينار، ثم يكتشف عند وصوله أنّ السكن غير موجود، والمنحة وهمية، وأنه غير مسجّل أصلاً"، يوضح الكرباعي، مضيفاً أن هذه المكاتب تروّج لـ"نجاحاتها" عبر مقاطع مصورة على "تيك توك" وفيسبوك وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تُظهر بعض الطلبة الذين حصلوا على تأشيرة بالفعل، لتوهم الآخرين بأنّ النجاح مضمون للجميع. جدير بالذكر أننا، في هذا التحقيق، وثّقنا ممارسات مشابهةً تقوم بها مكاتب معتمدة، في ظل غياب الرقابة الرسمية والمساءلة.
بالعودة إلى الكرباعي، فهو يتحدّث عن أنّ بعض المكاتب يديرها أجانب استثماراً لما يسمّيه "عقدة الأجنبي" لدى بعض الأشخاص الذين يرون في المدير الأجنبي ضمانةً للثقة بهذه المكاتب.
برغم أن المكتب ينشط وينشر بانتظام على السوشال ميديا، ويقع مقره في الشارع الأشهر في تونس العاصمة، إلا أنه ليس معتمداً وفق قائمة المكاتب المعتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والتي شاركتها الوزارة مع رصيف22.
ويضيف الكرباعي، أنّ السياسة القنصلية الإيطالية تتضمّن تشديداً أكبر على ملفات التأشيرة، وتقوم برفض مئات المطالب، وقد نُفّذت وقفات احتجاجية أمام السفارة الإيطالية في تونس عام 2023، لهذا السبب. أما الطلبة الذين ينجحون في السفر بمساعدة هذه المكاتب، فيواجهون تحديات كبيرةً منها السكن حيث تتراوح أسعاره بين 600 و800 يورو شهرياً في روما وميلانو، وبزيادة مستمرة. وكذلك اللغة إذ إنّ أغلب البرامج تتطلّب إجادة الإيطالية، بينما الطلبة يتوقعون الدراسة بالإنكليزية، فضلاً عن المصاريف وكلفة المعيشة التي تتراوح بين 800 و1200 يورو شهرياً، مع ندرة فرص العمل الجزئي. وهناك الإقامة حيث التأخير المتكرّر في تجديد تصاريح الإقامة (Permesso di Soggiorno)، ما يهدّد الوضع القانوني للطلبة، وفق ما يؤكد الكرباعي.
الوزارة تعلم وتصمت
على الضفة الأخرى من المتوسط، حيث تُصاغ السياسات التعليمية وتُمنح التراخيص، تبدو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس على علم بالظاهرة، لكنها تفضّل الصمت وتكتفي بدور "الناصح". ففي 27 حزيران/ يونيو 2025، أصدرت الوزارة بلاغاً حذّرت فيه الطلبة من التعامل مع مكاتب وساطة غير معتمدة، ودعتهم إلى مراجعة القوائم الرسمية المنشورة على موقعها مع استعراض قائمة بالمؤسسات والمكاتب التي يمكن التعامل معها.
غير أنّ البلاغ لم يتضمّن أي معطيات دقيقة: لا عدد المكاتب غير المعتمدة، أو التي تعمل بصورة غير قانونية، ولا نتائج مراقبة السلطات لعمل المكاتب المعتمدة، ولا قرارات سحب تراخيص بناءً على المخالفات. بهذا البلاغ، ألقت الوزارة عبء مواجهة خروقات هذه المكاتب على الطلاب وذويهم، وكأنّ الرقابة على عمل هذه المكاتب ليست مسؤوليتها.
خلال العمل على هذا التحقيق، تقدّم رصيف22 بطلب رسمي في إطار قانون النفاذ إلى المعلومة (القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016)، طالب فيه الوزارة بالكشف عن عدد المكاتب المرخصة، وعدد محاضر التفقّد منذ 2020، والعقوبات أو قرارات سحب التراخيص. لكن الوزارة اكتفت بالإشارة إلى أن "القوائم منشورة على الموقع الإلكتروني"، مشيرةً إلى أنه تتم مراقبة المكاتب التي تعمل بشكل غير قانوني دون تقديم تقارير رقابية أو إحصائيات في هذا الخصوص.
 
  
 راسلنا الوزارة مجدداً لطلب إجراء حوار صحافي مباشر معها، من أجل منحها حق الرد على شهادات الطلبة والممارسات غير القانونية التي وثّقناها، لكن الطلب قوبل بالتجاهل التام: لا قبول ولا رفض. صمت فحسب.

قانون غائب وسوق تحايل ممنهج
في أحد مكاتب المحكمة الابتدائية في نابل، جلسنا مع المحامية انتظار السنوسي، وأطلعناها على نسخة من العقد الذي أمضته الطالبة رقية مع أحد مكاتب الوساطة بجانب كرّاس الشروط المنظم لخدمات الوساطة التعليمية (الأمر عدد 888 لسنة 2006)، والذي تلقينا نسخةً منه من الوزارة عن طريق مطلب النفاذ إلى المعلومة.
قرأت المحامية الوثائق بعناية ثم علّقت بصرامة: "ما هو مكتوب في كرّاس الشروط أو في القانون يبدو لا يُنفّذ على أرض الواقع. ليست هناك زيارات ميدانية ولا رقابة بعدية. المكاتب، سواء المعتمدة من الوزارة أو غير المعتمدة، تملك الوسائل للوصول إلى الطلبة واستلام الأموال منهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي فضاءات لا قدرة للوزارة على ضبطها. الوزارة نفسها فاقدة الوسائل والمعرفة والتدريب للتصدّي لهذه الظاهرة، والإطار القانوني ناقص، وغالباً ما يحدث تداخل بين عمل المكاتب ومصالح موظفين في الوزارة".
 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 عقود إذعان وضبابية متعمدة
عند قراءتها عقد رقية السابق استعراضه أعلاه، وصفت السنوسي الوثيقة بأنها عقد إذعان حيث "لا يوجد فيه أي تنصيص واضح على نوع الخدمة أو طبيعتها"، بل هي تصف العقد بأنه "ضبابي، والمسيطر فيه هو المكتب لا الطالب. حتى إذا أرادت رقية أن تشتكي، لن تجد ما يحميها". أوضحنا للسنوسي الوعود التي تلقتها رقية، فعقّبت: "لكن العقد لم ينص على شيء من ذلك، ما يضعف موقفها أمام القضاء. الاتفاق الشفهي غير موثّق وبالتالي غير ملزم، هذا يضعف موقفها حال رغبت في شكوى المكتب".
كما تلفت إلى أنّ "هذه العقود تجعل من التقاضي المدني أو الجزائي أمراً صعباً. المكتب يقول إنه قدّم استشارةً، وهي خدمة غير محدّدة، وبذلك يخرج من دائرة المسؤولية".
كرّاس الشروط… نصوص مثالية وواقع غائب
تشرح السنوسي، أنّ ما هو مكتوب في كرّاس الشروط لا يطبّق على أرض الواقع. فعقد رقية مثلاً صيغ بما يحمي المكتب أكثر مما يضمن حقوق الطالب/ ة المتعامل/ ة معه، حيث حمّل العقد رقية التزامات إضافيةً دون ضمان أي استرجاع المبالغ المدفوعة في حالة عدم قيام المكتب بالدور المنوط به.
مكاتب أخرى لا توقّع عقداً أبداً مع الطلبة، أو تبقي جزءاً من الاتفاقات والوعود خارج العقد مثل السكن. و"هذا يعكس خللاً جوهرياً في مبدأ التوازن بين الطرفين الذي يشترطه القانون"، بحسب المحامية السنوسي.
من أولى النقاط الملحوظة عند مراجعة كراس الشروط، مسألة الشفافية في ما يتعلق بالجامعات المزمع التسجيل فيها. يُلزم الكراس الوسيط بتوجيه الطالب المنتفع بالخدمة المسداة وبإعلامه بكل الإجراءات ذات العلاقة بالدراسة والإقامة في البلد الذي يتم تسجيله وإيواؤه فيه. ولهذا الغرض يتعين عليه التنصيص صراحةً ضمن عقد إسداء الخدمة المبرم بين الطرفين على الالتزامات والواجبات المفروضة على كليهما، وهو ما لم يحدث مع الأشخاص الذين تحدثنا إليهم.
زيارات ميدانية تحت غطاء "طلبة محتملين"
لم نكتفِ بجمع الشهادات أو الإطلاع على بعض الوصولات والعقود. دخل معدّا التحقيق إلى عالم مكاتب الوساطة،. وتظاهرا بأنهما يبحثان عن فرصة لزميلة مجازة في القانون لمواصلة دراستها في الخارج. هذا الغطاء مكّن معدّا التحقيق من التحدّث مباشرةً مع المسؤولين والموظفين، ومعاينة طريقة تعاملهم مع من يُفترض أنهم "حرفاؤهم".
في أحد المكاتب التي تلقّينا شهادةً بشأنها، استقبلنا موظفون صغار في السن، يبدون غير مختصين. طرحنا أسئلةً عن الجامعات والاختصاصات، لكن الأجوبة كانت متضاربةً، وانتهت بعبارة: "انتظروا أحمد هو يعرف أكثر ولكننا لا نستطيع مدّكم برقمه".
الخدمات عُرضت في قائمة فضفاضة: الترجمة، التسجيل، المنح، السكن، والتأشيرة. السعر الإجمالي نحو 3،000 دينار (نحو 1،000 دولار) موزّعة على أقساط: 500 دينار عند فتح الملف، 750 (نحو 260 دولاراً) عند الحصول على التسجيل، 750 عند المنحة والسكن، و1،000 عند التأشيرة. الوعد الأساسي كان مطلقاً: "التأشيرة والقبول مضمونان، والكل يتحصّل على منحة". لكن خلف هذه الطمأنة، غابت أي تفاصيل عن الجامعات أو فرص الدراسة الحقيقية.
في المكتب الثاني، والذي رصدنا شكاوى منه، وجدنا موظفة ودودة مكلَّفة بملفات ألمانيا. تحدّثت بثقة عن أن "جميع الملفات (التي تقدّمها) تتحصّل على التأشيرة"، مؤكدةً أن المكتب يوفر دراسة تحضيرية لمدة عام للغة (B1 أو B2) مقابل نحو 3000 دينار، بينما يبلغ السعر لسويسرا 4000 دينار (نحو 1400 دولار). لكن عند الاستفسار عن تفاصيل أكثر، تبيّن أن التسجيل الجامعي الفعلي في الكليات يقوم به الطالب بنفسه بعد الوصول، أي أنّ ما يضمنه المكتب هو "تأشيرة لمدة عام لدراسة اللغة" فقط. في بهو المكتب، عُلّقت صور جوازات سفر كثيرة كدعاية بصرية لإقناع الزبائن. وُعدنا أيضاً بوجهات بديلة مثل مولدافيا وصربيا -لزميلتنا- لكن بالصيغة نفسها: تكلفة محددة، وعود مطلقة، وتفاصيل غائبة.
زيارة المكتب الثالث، الخاص بالسفر إلى إيطاليا، كانت الأكثر رمزيةً. عند دخولنا الفيلا البيضاء، كان البهو مكتظاً بالطلبة. أرقام انتظار صغيرة توزّع على الحاضرين، وبعد ساعتين ونصف، حان دورنا. استقبلنا المدير بابتسامة عريضة وثقة مفرطة. قدّم نفسه كخبير يعرف السوق جيداً، وقال لزميلتنا: "سنجري اختبار لغة إنكليزية، ثم نصعد لنرى الجامعات المتاحة الآن". لكن لم يذكر أي جامعة أو تخصّص.
حين سألناه عن الكلفة (7،000 دينار)، أجاب بابتسامة: "نحن في سوق مفتوحة، لكن خدماتنا شاملة وأفضل من بقية المكاتب"، مستشهداً بأنه يعمل حالياً على "ملفات 1،200 طالب/ ة"، و"نتابعكم حتى بعد وصولكم إلى إيطاليا". على مكتبه كدّس عشرات الملفات بالفعل، وقائمةً طويلةً من الأسماء التي قال إنها لطلبة "عادوا إليه بعد السفر"، ما بدا وكأنه متابعة ذكّرنا بما تحدّثت به إلينا رقية عن احتجاز المكتب بعض أوراقها حتى تعود إليه في السنة القادمة عندما يحين موعد تجديد الإقامة.
فيسبوك… سوق موازية
وتضيف المحامية السنوسي، أنّ هذه المكاتب التي تبتز الطلاب وتخالف وعودها وتستنزفهم مادياً، تستغل حضورها الافتراضي حيث "تنشط عبر مواقع التواصل الاجتماعي حيث لا يمكن ضبطها، فتستدرج الطلبة بصور وفيديوهات لطلاب آخرين ساعدتهم على السفر بالفعل".
ما رصدناه عبر فيسبوك يؤكد ذلك. منشورات مثل هذه المكاتب مليئة بصور طلبة مبتسمين أمام جوازات سفر مختومة، لكن في التعليقات في إحدى المجموعات تنتشر تعليقات "مجهولة الهوية" تُظهِر الوجه الآخر، على غرار:
"دفعت خمسة آلاف دينار (نحو 1،700 دولار) وما سجّلوني حتى في جامعة".
" الغلاء والخدمات السيئة".
"دفعت ألفَي دينار (نحو 700 دولار أمريكي) للتسجيل، ومن وقتها ما سمعت كان الأخبار الخايبة".
وفي مجموعات مغلقة للطلبة التونسيين في إيطاليا أيضاً، عثرنا على شهادات أخرى تنتقد مكاتب الوساطة واستغلالهم الطلبة وسط دعوات إلى ضرورة الاشتغال على الملفات دون الاستعانة بها.
شبكة محمية بالقانون؟
وتستخلص السنوسي، من متابعتها لهذا الملف، أنّ "بعض هذه المكاتب تتصرّف بحنكة قانونية حيث إنّ لديه معرّفاً جبائياً، وتراخيص، ووصولات خلاص، وكل شيء يبدو سليماً. لكن خلف هذه الواجهة، هناك تحيّل ممنهج"، مبرزةً أن "الوثائق ناقصة، والقانون نفسه غامض: أي وزارة تحمي الطلبة؟ التربية؟ التعليم العالي؟ الخارجية؟ الرقابة غائبة، وعملياً مستحيلة على من ينشط افتراضياً".
وتضيف: "التحيّل هنا أن يسلبك المكتب أموالك تحت غطاء القانون. أن يبتزك ويوقع بك بالقانون. هذه المكاتب تظهر بواجهة فخمة، لديها محامون ومستشارون، يعرفون كيف يحمونها. وفي النهاية، الضحية شاب (أو شابة) في بداية حياته العملية يكتشف أنه أنفق مدخراته على وعود فارغة".
سلوك ممنهج لا حالات فردية؟
بين شهادة المحامية، وعقود إذعان ضبابية حصلنا عليها، ونصوص قانونية غير مطبّقة، وزيارات ميدانية لمكاتب تعِد بـ"الوهم"، وتعليقات افتراضية من طلبة غاضبين تحاول إنقاذ أقرانهم قبل الوقوع في "الفخ" نفسه، يتضح أن ما يحدث ليس خطأً فردياً، بل سلوك متكرّر حيث إن المكاتب تتحرّك في "سوق مفتوحة"، تصوغ العقود بما يحميها، وتستغل غياب الرقابة لتعيد إنتاج السيناريو نفسه مع العديد من الطلبة. القانون موجود لكنه يبقى حبراً على ورق، وتطبيقه على ما يبدو غائب أو غامض على أحسن تقدير. والوزارة، بدلاً من أن تحمي الطلاب، اكتفت بالاعتماد الوزاري والبلاغات العامة. والنتيجة: سوق للأحلام المكسورة، حيث يتحوّل الطالب إلى زبون رهينة عقد إذعان ووعود جوفاء.
لكن هذا لا يُلغي أن العديد من الطلاب بمن فيهم من تحدثنا إليهم سافروا أيضاً بمساعدة مكاتب وساطة، وأنّ بعض مكاتب التي رصدنا تجارب سلبيةً لطلاب معها، كانت تجارب آخرين معها إيجابيةً، ما يعني غياب المعيار وعدم وضوح المشهد، وأنه لا يمكن تعميم هذه الممارسات على جميع المكاتب، وأن الأمر لا يتعلّق دائماً بزيف الوعود، بل أحياناً بالاستغلال والاستنزاف المادي فقط والتأخر في مواعيد السفر والقبول وما إلى ذلك.
دورة أموال بلا رقابة
عند النظر في شهادات رقية ونور ولؤي ومهدي، تتضح الخيوط: مكاتب مختلفة، واجهات متباينة، لكن الأسلوب واحد. وعود فضفاضة، إجراءات معقدة، وأموال تتدفّق من العائلات نحو حسابات لا يُعرف مصيرها. المبالغ تتراوح من بضع مئات الدنانير كـ"مصاريف فتح ملف"، إلى آلاف الدنانير كأقساط للّغة أو وعود بالسكن والمنح. هنا يصبح السؤال الملح: كم تجني هذه المكاتب فعلاً من "الاتجار بالأمل"؟
أرقام بالملايين وصمت محاسبي
عند مراجعة السجل الوطني لأحد هذه المكاتب، وهو معتمد من وزارة التعليم العالي، أودع عام 2020 كشف حسابه المالي، نجد أنّ رقم معاملاته بلغ 92.5 ملايين دينار، مع أرباح صافية تزيد عن 10 ملايين دينار، وسيولة متاحة بـ32.6 ملايي دينار، مقابل ديون قصيرة الأجل تبلغ ـ25 مليون دينار.
لكن منذ ذلك التاريخ، توقّف المكتب عن الإيداع والتصريح المالي، بحسب ما أظهرت متابعتنا للموقع الرسمي للسجل الوطني للمؤسسات (RNE). وهنا يعلّق خبير في مكافحة الفساد، فضّل عدم ذكر اسمه، بعدما استشرناه لتفسير هذه الأرقام: "هناك خطايا مالية واجبة عن كل تصريح غير مودع، مع إمكانية تجميد المؤسسة (وفق قانون عدد 52 لسنة 2018، الفصل 41)، وتالياً لا يمكن لهذه المكاتب إصدار فواتير في المستقبل، بالإضافة إلى إمكانية إجراء مراجعة جبائية معمّقة وإمكانية التقدير الجزافي (taxation d’office) لرقم المعاملات والأرباح قياساً على آخر تصريح مودع".
هذا الانقطاع عن التصريح المالي يتقاطع مع ما عاشته الطالبة رقية حين دفعت آلاف الدنانير مقابل وعود بقبول مضمون في جامعة سويسرية ومنحة وسكن، لتحصل فقط على "قبول مشروط غامض". وعندما طالبت بحقها، تعنّت المكتب، وهدّدها بحجز أوراقها ما لم تدفع 1،500 دينار (نحو 500 دولار) أخرى.
ويوضح الخبير مسار الأموال في مثل هذه العمليات: "في تونس، أي تحويل بالعملة الصعبة (devise) إلى الخارج يخضع- وفق مجلة الصرف- لترخيص البنك المركزي ويتم عبر البنوك التجارية أو مكاتب الصرف المرخّص لها ويتطلب وثائق أساسيةً: وثيقة صادرة عن الجامعة الأجنبية فيها المبلغ، شهادة التسجيل في الجامعة وغيرها". وعليه، أيّ تحويل مباشر عن طريق مكتبٍ خاص يبدو عمليةً غير قانونية.
كيف يُراقب هذا المال؟
يشدّد الخبير في مكافحة الفساد أيضاً على أهمية الفحص المحاسبي، من حيث "مقارنة الرصيد النظري كما يظهر في المحاسبة مع الرصيد الفعلي في الجرد الميداني من خلال عيّنة من الفواتير، ومقارنة الفواتير الصادرة مع المداخيل النقدية المسجلة والقيام بمطابقتها بالإيداعات البنكية مع ما صُرّح به كمداخيل نقدية. ويستوجب ذلك الحصول على فواتير وكذلك كشوفات بنكية. في الصحافة الاستقصائية يبدو الحصول على مثل هذه الوثائق صعباً. فحص تصريحات TVA (ضريبة القيمة المضافة)، ضروري: إذا كان حجم النشاط اليومي كبيراً بينما TVA ضعيفة، فهذا مؤشر على إخفاء مداخيل".
هذه الملاحظات تكشف التناقض، فحجم المكتب الذي رصدنا كشف حسابه المالي لا تقدّم المبالغ المذكورة صورةً واضحةً عن مداخيله ولا عن وجهة الأموال التي يجمعها. الترخيص القانوني موجود، لكن ليس واضحاً لنا إن كانت الرقابة المالية على هذا المكتب أو غيره قائمةً أو لا.
مكتب آخر بواجهة فاخرة وأرقام هزيلة
المكتب الآخر الذي يملأ صفحاته على فيسبوك بصور طلبة مبتسمين حاملين جوازات مختومةً، صرّح في السجل الوطني للمؤسسات عام 2023، برقم معاملات لم يتجاوز 140،642 ديناراً (نحو 50 ألف دولار)، وأرباح صافية في حدود 25،450 ديناراً، بعد أن كان قد أعلن عام 2022 عن أرباح بقيمة 35،255 ديناراً. الأرقام الرسمية تبدو ضئيلةً إذا ما قورنت بنشاط مكتظ: عشرات الطلبة يتعاملون معه كل شهر، كلٌّ منهم يدفع أكثر من 7،000 دينار. المفارقة الأوضح في كتلة الأجور: 779 ديناراً فقط في 2023، و546 ديناراً في 2022، أي ما يعادل راتب موظف واحد أو أقل.
ويعلّق الخبير، ردّاً عن سؤال حول حالة المؤسسات التي لا يرد في سجلها في السجل الوطني للمؤسسات صراحةً نشاط "الوساطة الدراسية"، برغم ممارستها فعلياً خدمات وساطة أو استشارات دراسية، بأنّ الأمر يصنَّف عدم تطابق بين النشاط المصرّح به والنشاط الفعلي. الإدارة الجبائية تعتمد على النشاط الحقيقي ورقم المعاملات الفعلي لتطبيق الأداءات، ما قد يؤدّي إلى توجيه تهمة التهرّب الضريبي باعتبار أن الغاية من إخفاء النشاط الحقيقي هي إخفاء المداخيل، مع إمكانية تسليط خطايا مالية في هذا الإطار.
أما من الناحية الإدارية، فيؤكد الخبير ضرورة تصحيح الوضعية القانونية (mise en conformité obligatoire) لدى السجل الوطني للمؤسسات حتى تتطابق بيانات السجل مع النشاط الممارس فعلياً.
وحتى المقرّ نفسه يثير التساؤل: المكتب يتمركز في حي راقٍ في العاصمة حيث الإيجار يناهز 48 ألف دينار (نحو 17،000 دولار) سنوياً، بناءً على استفسارات ميدانية أجريناها، أي أكثر من 30% من رقم المعاملات المصرّح به. فكيف يمكن لمؤسسة تصرّح بـ140 ألف دينار (نحو 48 ألف دولار) فقط أن تغطي الإيجار، رواتب الموظفين، والحملات الإعلانية المكثّفة؟
الأخطر أن المكتب يواصل نشاطه دون اعتماد من وزارة التعليم العالي، مستقطباً الطلبة بواجهة فاخرة وحملات دعائية، فيما سجلاته المالية تكشف أرقاماً غير متسقة مع نشاطه الفعلي.
مكتب ثالث… "تاجر" بلا شفافية
في المكتب الثالث، ظهر لنا في السجل الوطني للمؤسسات بصفة "تاجر" فردي يحمل اسم مالكه ومديره. لا توجد أي إشارة إلى نشاط "وساطة تعليمية" ولا تتوافر تقارير مالية منشورة. ثمة غياب كامل للشفافية.
مكتب رابع يعمل علناً لكن مع أسئلة معلّقة
على عكس مكاتب أخرى تنشط في المنطقة الرمادية، ظهر لنا أحد المكاتب بوصفه أكثر حرصاً على تقديم تقاريره المالية بانتظام منذ عام 2016 وإلى حدود 2023. هذه الاستمرارية تمنحه صورة "المؤسسة المنضبطة"، لكنها لا تخفي تناقضات جوهريةً. ففي سنة 2023، سجّل المكتب رقم معاملات بلغ 604.7 آلاف دينار (نحو 200 ألف دولار)، وأرباحاً صافيةً قاربت 162،3 آلاف دينار (نحو 55 ألف دولار)، أي ما يقارب أربعة أضعاف أرباحه في 2022. هذا النمو السريع يثير التساؤل حول مصادر الإيرادات وكيفية توزيعها، خاصةً أنّ رأس المال الاجتماعي لا يتجاوز 5،000 دينار فقط، ما يعكس فجوةً بين الحجم القانوني للشركة وحجم الأموال التي تديرها.
مكتب خامس بواجهة مهنية ونشاط خارج المظلة الرسمية
عند العودة إلى السجل الوطني للمؤسسات، ظهر لنا المكتب الخامس الذي وصلتنا شهادات عنه تتضمّن ممارسات تنتهك حقوق الطلاب، معتمداً منذ آذار/ مارس 2020، بصفة سجلّ مهني، ونشاطه المصرّح به هو "الاستشارات في الأعمال والتصرف". لا وجود لأي ذكر للوساطة التعليمية أو خدمات التسجيل الجامعي، ولا أثر لترخيص من وزارة التعليم العالي يجيز له العمل في هذا المجال. على الورق، يبدو المكتب مجرد وحدة صغيرة في قطاع الاستشارات. لكن في الواقع، يعرض خدمات شاملةً للطلبة: فتح ملفات، تسجيل جامعي، ترجمة، وعود بالمنح والسكن والتأشيرات.
هذا التناقض يكشف أننا أمام نشاط غير مصرّح به، يمارَس في منطقة رمادية: غطاء قانوني عام يتيح له الاستمرار في العمل، مقابل واقع فعلي مختلف تماماً. الأخطر أن المكتب لم ينشر أي تقارير مالية منذ تأسيسه وفق السجل الوطني للمؤسسات، ما يعني أنه لم يلتزم بتقديم تصاريح أو دفع مستحقات لفترات طويلة. عملياً، لا توجد أي بيانات رسمية تسمح بتقدير رقم معاملاته أو حجم الأرباح التي يحققها من تجارة الأمل.
صمت وزاري وفراغ تنظيمي
كل هذه الوقائع تكشف أن المسألة لم تعد مرتبطةً بكم تجني هذه المكاتب فقط، بل بالمنظومة التي تسمح لها بالازدهار. وزارة التعليم العالي اكتفت بمشاركتنا كرّاس الشروط، ولم تردّ على طلبنا مقابلةً رسميةً. مطلب النفاذ إلى المعلومة الذي قدمناه لم يزد سوى نسخة من القانون، بلا أي إشارة إلى نتائج المراقبة أو آليات المحاسبة على المخالفات.
القصور لا يتوقّف عند وزارة التعليم العالي، فالموضوع متداخل بين وزارة المالية (المعنية بالتحويلات الخارجية والجباية)، ووزارة الخارجية (المسؤولة عن الاعتمادات القنصلية)، ووزارة التربية (المعنية بمصلحة التلاميذ). غياب التنسيق جعل المكاتب تعمل في فراغ تنظيمي، محصّنةً بما يكفي لتفادي أي محاسبة.
الأرقام الرسمية في التصاريح الجبائية تكشف تناقضاً صارخاً بين الواقع المحاسبي والواقع الميداني: مكاتب تدرّ ملايين الدنانير من تجارة الأمل، لكنها تصرّح بأرقام هزيلة أو تتوقف عن التصريح كلياً. كلام الخبير في مكافحة الفساد يوضح كيف قد يوفّر غياب الرقابة حمايةً غير معلنة لهذه المؤسسات. هكذا، يصبح السؤال أكبر من "كم تجني المكاتب؟"، فالمسألة الحقيقية هي من يحمي هذا السوق؟
خاطبنا المكاتب كافة التي وردتنا شهادات بشأنها. ردّ مكتب واحد مشيراً إلى اعتزامه متابعة التحقيق لحفظ حقوقه القانونية. صمت المكاتب عن الرد على ما لدينا من اتهامات لها له مغزى: هذه المكاتب لا تشعر بأنها معنية بالشفافية أو مساءلة الرأي العام
حقّ الردّ… صمت يكشف الكثير
قمنا بمراسلة جميع مكاتب الوساطة التعليمية التي وردتنا شهادات بشأنها، والتي قمنا بزيارتها وتحقّقنا من صدق الشهادات عبر زيارة معدّي التحقيق الميدانية، ومنحناها حق الرد عبر أسئلة دقيقة حول ما وردنا من شهادات ومعطيات مالية وقانونية، لكنها آثرت الصمت ولم تقدّم أي توضيحات، برغم تذكيرنا أكثر من مرة باقتراب موعد النشر. مكتب وحيد رد علينا بأنه سيتابع التحقيق بعد النشر وسيتابعه المحامي الخاص به لضمان حقوقه. ولم يقدّم أجوبةً تفصيليةً حول النقاط المثارة. هذا الصمت الجماعي يظلّ معبّراً: فهذه المكاتب لا تشعر بأنها معنية بالشفافية أو مساءلة الرأي العام.
وفي ختام حديثه، يوضي الكرباعي الطلبة وأولياءهم، بـ"القيام بالإجراءات مباشرةً عبر الجامعات دون المرور بالمكاتب"، فيما يحثّ السلطات التونسية على تشديد الرقابة، توحيد العقود، وتسهيل التحويلات البنكية المباشرة للجامعات، آملاً أن تظهر الجامعات الأجنبية تعاوناً أكبر مع الطلاب الحالمين بالدراسة في الخارج عبر تبسيط الإجراءات كي لا يبقى هؤلاء الطلاب رهائن لمكاتب وكيانات وسيطة. "التأشيرة ليست غايةً، بل بداية لمسار طويل. النجاح الحقيقي ليس في الوصول، بل في الاستمرار والتخرج. والاستعداد النفسي والمالي ضروري قبل أي خطوة"، يختم الكرباعي مخاطباً الشباب التونسيين.
أما نحن، فلا يقف سؤالنا، في نهاية هذا التحقيق، عند تقاعس السلطات عن مراقبة هذه المكاتب، ومدى عملها على حماية الطلبة والشباب التونسي وذويهم من الاستغلال بل يتجاوزه إلى السؤال عن حجم الأموال التي تجنيها المكاتب من "الاتجار بالأمل"، مستفيدةً من غياب الرقابة الناجزة ووجود آليات واضحة للمساءلة والمحاسبة… تجارب رقية ونور ولؤي ومهدي -وتجاربنا في عدد من هذه المكاتب- تكشف بوضوح كيف تتكرّر الحلقة نفسها: وعود فضفاضة، عقود غامضة، ابتزاز مباشر أو مقنّع، ووزارات غائبة لا تتحمل مسؤولية حماية الطلبة.
*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر تفادياً للملاحقة القانونية الانتقامية.
أُنتج هذا التحقيق بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
 
 




