بين أروقة قصر قرطاج، وتحديداً في غرفة اللقاءات الحصرية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد، حيث تنبعث رائحة ضميرٍ سياسيٍّ متعالٍ على الجميع، وتنساب من أركانها قدسية السلطة المطلقة، وتهلّ على المواطنين طقوس أخلاقية حول الذات الحاكمة، هناك حيث تتشابك الأخلاق مع نزعة نرجسية متغطرسة، تتقهقر المؤسسات وتنصهر في جلباب القائد الأسمى.
لم يعد المكتب مكاناً للتشاور والتداول واتخاذ القرار، بل أصبح معبداً يُمارَس فيه طقسٌ مقدّس، يهزّ فيه الوزراء رؤوسهم لا موافقةً، بل تمجيداً لأسطورةٍ لا تقبل طمساً في هويتها.
كلّ صورة، كلّ لقاء، وكلّ ذهابٍ وإيابٍ، تتحوّل إلى صورةٍ واحدة، صورة تبتلع كلّ شيء، ولا تعترف إلا بنفسها.
فالسلطة في تونس ليست فعلاً، بل رؤية تُنحت في الصورة التي تطلّ علينا بين الفينة والأخرى، في ساعة متأخرة من الليل أو في جولة قصيرة في ربوع البلاد.
كلّ كلمةٍ تُقال، كلّ مشروعٍ يُعرض، وكلّ قرارٍ يُتخذ، تُقاس بمدى غضب الرئيس، واكفهرار وجهه، وجمود ملامحه، وقسوة عباراته، حتى باتت المؤسسات -صمّام الأمان- مسرحاً لرئيسٍ أحبّ الدور حتى أتقنه، فتحوّل الوزراء والزائرون والمواطنون على حدٍّ سواء إلى مشاهدين محايدين، يراقبون في صمتٍ مدقع كيف تنقلب العدالة والقانون والرقابة إلى تفاصيل ثانوية في سينما الرئيس.
من المؤسّساتية إلى لاهوت الفرد
السلطة المؤسساتية، في أبهى تجلياتها، تشبه أعمدة صرح متين، تقوم على التوازن والضوابط، على الفصل بين السلطات، وعلى رقابة دقيقة تمنع الدولة من الانحدار إلى هاوية الاستبداد. نبض حي للعدالة، وشبكة تحمي من طغيان الفرد على الجماعة.
لم يعد مكتب الرئيس سعيّد في قصر قرطاج مكاناً للتشاور والتداول واتخاذ القرار، بل أصبح معبداً يُمارَس فيه طقسٌ مقدّس، يهزّ فيه الوزراء رؤوسهم تمجيداً لأسطورةٍ لا تقبل طمساً في هويتها، وهذا ليس مجرّد تغيّرٍ في أسلوب الإدارة، بل انقلاب على روح الدولة نفسها… فكيف حصل ما حصل ووصلنا إلى هذا الدرك؟
لكنّ الانتقال من السلطة المؤسساتية إلى الهيمنة الشخصية للرئيس قيس سعيّد، لم يكن مجرّد تغيّرٍ في أسلوب الإدارة، بل انقلاب على روح الدولة نفسها، حيث باتت الإدارة آلةً لتكريس صورة "حامي الحمى والدين"، وتحولت المؤسسات إلى تماثيل تُحدث جعجعةً ولا يُرى لها طحين.
أضحى المواطن عنصراً في مشهدٍ، يُلقَّن ما يراه ويعيد إنتاج الصورة ذاتها، في دائرةٍ مغلقةٍ لا مجال فيها للحرية ولا للحق ولا لأي صوتٍ غير صوت "ترديد شعار الحزب" والمغادرة.
من الثورة إلى الفراغ الرمزي
ما سبق كان كله تسلسلاً تاريخياً لما عايشه المواطن التونسي منذ الثورة إلى اليوم، بكلّ ما يحمله الحاضر من ضبابيةٍ وعبثية.
فحين انهارت الهياكل القديمة للسلطة في تونس واهتزّ الشعور الجمعيّ بالثبات، وجد التونسي نفسه أمام فراغٍ رمزيٍّ هائل. لم يكن سقوط بن علي، حدثاً سياسياً فحسب، بل كان بمثابة موت الأب وانهيار عمود القانون، برغم نزعاته الاستبدادية وقدرته الهائلة على خلق نظام قمعي بوليسي.
ومع هذا السقوط، تفتّتت صورة الدولة في المخيال الجماعي، حتى صار الجميع أطفالاً يتنازعون حول لعبة القانون؛ تارةً يكسرونها وتارةً يلهون بها.
عودة الأب الغائب
في ظلّ هذا الفراغ الرمزي، جاء التصويت لقيس سعيّد لا لصالح برنامجٍ سياسيٍّ أو رؤى مستقبليةٍ قابلةٍ للتنفيذ، بل لصورةٍ، ولرغبةٍ جماعيةٍ في استعادة الأب، ولو على هيئة شبحٍ جامد.
"رجلٌ يتحرك ببطء، يجرّ كلماته كما تُجرّ موادّ القانون، بوجهٍ خالٍ من الأحاسيس وجسدٍ متخشّب، ليشكّل تمثيلاً بدائياً ومريحاً للسلطة الغائبة". إنها العودة الطيفية للأب الميت، الذي يتكلّم بلسانٍ قديمٍ لا يُصغي إليه أحد.
لم يكن سقوط بن علي، حدثاً سياسياً فحسب، بل كان بمثابة موت الأب وانهيار عمود القانون، برغم نزعاته الاستبدادية وقدرته الهائلة على خلق نظام قمعي بوليسي
"فالظاهرة السعيّدية تعبّر، في جوهرها، عن رغبةٍ جماعيةٍ في استعادة الأب بعد قتله، وعن حاجةٍ إلى سلطةٍ متعاليةٍ تعيد الوضوح إلى عالمٍ غارقٍ في الفوضى".
مأساة الدولة والمواطن في الزمن السعيّدي
يمكن اختزال مأساة الدولة والمواطن في أنّ الدولة باتت صدى لذاتٍ واحدةٍ تنبض من أعماق قرطاج.
فالسلطة ليست مجرّد حكمٍ، بل فنٌّ للاستحواذ على الواقع والذاكرة والحاضر والمستقبل القريب والبعيد، حتى تصبح كلّ لحظةٍ وكلّ فعلٍ محتجزين ضمن دائرة سيطرتها الرمزية.
لقد تجاوزت السلطة حدودها التقليدية، فلم تعد حكماً فحسب، بل صارت استيلاء شاملاً على الزمن والفضاء والمجتمع، وتحوّل كلّ شيءٍ إلى امتداد لذاتها، وإعادة كتابة التاريخ بطريقةٍ تجعل الدولة جسداً واحداً نابضاً باسم الرئيس، جسداً متعالياً مطلقاً:
زعيمٌ تمجّده الجماعة باسم القانون، وتخشاه باسم الله والبوليس...
هكذا اختار سعيّد أن يكون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



