شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لماذا تُنجب النساءُ أطفالًا؟

لماذا تُنجب النساءُ أطفالًا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 12 مارس 201901:03 م

إنّها مسرحية واحدة تعيد تكرار نفسها مع اختلاف الشخصيات. الأشياء وإن بانت في بادئ الأمر جميلة ومدهشة، علينا أن نبذل ما بوسعنا كي نرى جوهرها الحقيقي. الحياة تشبه عرضاً للدمى المتحركة، لكن لنا الحق في تغيير مجريات الأحداث.

كنت دائماً أسأل نفسي، إذا كنّا نستطيع تغيير أقدارنا والتراجع عن الكثير من الخيارات، هل كنّا فعلاً سنغيّر شيئاً أم سنعيد تكرارها مع تفادي حدوث الأخطاء فيها؟ يمكننا أن نقنع أنفسنا أنّ الأضرار ستكون أخف. جميعنا يعلم أن الضربة الأولى هي الأكثر إيلاماً، من ثم يصبح الضرب شيئاً عادياً.

بدت الأمور هادئة نسبياً، الجوّ لطيف، وأوجاع معدتي اليوم لا تُذكر. رأسي يؤلمني قليلاً إلا أنّني اعتدت التفكير الزائد والتأقلم مع الوجع. وقفت طويلاً أتأمل تلك المرأة التي تحضن ابنها الرضيع وتجلس على الرصيف تنتظر أحد المارة ليعطيها شيئاً من المال لكي تشتري علبة حليب. لم أستطع أن أكمل سيري من دون أن أسألها سؤالاً واضحاً ومختصراً. أنا لا أريد منها جواباً إلا أنّني أريد أن أخرج من رأسي سؤالاً يكاد يقتلني من شدة التفكير به. أكملت سيري نحوها ثم وقفت أمامها وسألتها: "لماذا؟".

لم تكن هذه الـ "لماذا" واضحة بالشكل الكافي لآخذ منها جواباً. بدت الدهشة على وجهها وعلامات الصدمة، إذ إنّها حين رأتني أقترب منها علا صوتها بالدعاء لي ثم ما لبث أن ضاع كلامها مع سؤالي.

اعتقدت للحظة أنها قادرة على انتقاء جواب واضح، وأنها ربما سمعت باقي السؤال الذي احتفظت به من دون أن أكمله. شيء في داخلي أخرسني. لا يمكنني أن أخمن ما هو هذا الشيء لكنّها لم تكن أفضل شخص لأسأله وأنتظر منه جواباً. أكملت سيري من دون أن ألتفت إليها، كانت علامات الاستفهام تظهر كفقاعات داخل رأسي تجبرني أن أفكّر كثيراً وأسأل من دون أن أجد إجابة. ثم تذكّرت، عليّ أن أسرع خطواتي قليلاً.

في آخر هذا الشارع تسكن امرأة، تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً. لا أزال أذكر ذلك اليوم التي زارتني به في عملي، كانت تحدّق بي وتقرأ تفاصيل وجهي، تفسّر حركة يديّ. كانت عيناها تفيضان بالدموع وهي تنتظر منّي أن أقول لها كلمة واحدة تهدأ من روعها وتطمئنها، عيناها كانتا تحدقان فيّ، تقاضياني.

رتبت كلامي داخل رأسي قبل أن أنطق، هذه المرأة التي تقف أمامي تنتظر خبر حملها منذ عشر سنوات.

كانت تتحسس طفلها بحركات لا إرادية، تحاول أن تلتقط نبضه وهي تضع يديها على بطنها وتحركهما بحركات دائرية لا معنى لها. لم تكن تدري حتى تلك اللحظة إذا كان الله قد نفخ فعلاً روحاً بداخلها أم أن أحلام الأمومة لديها جعلتها تشعر بأن شيئاً ما يتحرّك في رحمها.

حاولت أن أهدئها، قرأت تحليل الدم أكثر من مرة، ابتسمت قليلاً كي أريحها ثم قلت لها "مبروك". انفجرتْ بالبكاء، كانت تشكر الله كثيراً لأنّه نظر الى عينيها الدامعتين وقرر أن يساعدها. رغم أن تلك المساعدة كانت تقتصر فقط على أنّه وضع نطفة طفل في داخلها، كانت سعيدة بأن تأتي كل يوم لتأخذ حقنة تثبيت للحمل وأخرى مسيّلة للدم. كانت هذه السيدة صديقتي طوال فترة حملها.

بعد مرور أقل من أسبوعين على ولادتها، جاءت تطلب منّي دواءً وتشكو قلّة النوم، والصراخ المتواصل، كانت مستاءة ومرهقة من كل التعب التي شعرت به بعد الولادة. عاد السؤال نفسه يدور في ذهني، حاولت أن لا أقول شيئاً، نصحتها أن لا تعطي مولودها دواءً وأن تتحمل قليلاً، ذكّرتها بالعشر سنوات انتظار وكمية الحقن التي أخذتها كي تراه أمامها، لكنني لم أستطع أن أتمالك نفسي فصحت بها "لماذا؟".

في مشهد آخر، امرأة تقف بجانب باب الصيدلية لا تقوى أن تخطو الى الأمام، عرضت عليها المساعدة، تقدّمت نحوي بإرتباك. عيناها ترمشان كثيراً، صوتها لا أستطيع سماعه، طلبت منها أن تعيد قول ما تريد وأن ترفع صوتها قليلاً. هذه المرأة لديها خمسة أطفال، سادسهم رضيع لم يبلغ السنة من عمره، اكتشفت مؤخراً أنها حامل. جاءت تطلب منّي المساعدة لأن وضعها المادي لا يسمح لها بإنجاب المزيد من ألأطفال. كانت تبكي وهي تشرح لي مدى خطورة معرفة زوجها بهذا الخبر. رفضت أن أعطيها شيئاً، حاولت أن أغيّر رأيها من دون أن أفقد أعصابي. بعد محاولاتٍ عدّة نهرتها وسألتها السؤال نفسه "لماذا؟".

كنت دائماً أسأل نفسي، إذا كنّا نستطيع تغيير أقدارنا والتراجع عن الكثير من الخيارات، هل كنّا فعلاً سنغيّر شيئاً أم سنعيد تكرارها مع تفادي حدوث الأخطاء فيها؟ يمكننا أن نقنع أنفسنا أنّ الأضرار ستكون أخف. جميعنا يعلم أن الضربة الأولى هي الأكثر إيلاماً، من ثم يصبح الضرب شيئاً عادياً.
لا أريد أن أكون تلك الأم التي تنجب الأطفال فقط ولا تملك القدرة الماديّة على تربيتهم. " الولد بيجي وبتيجي رزقته معه" لا يا عزيزي، إذا كنّا لم ننتبه إلى تربيته ودراسته ومتطلباته، فعلينا أن نعيد التفكير في الإنجاب لحين قدرتنا على توفير كل ما تحتاجه هذه الروح.
لا أريد أن أكون أماً يصبح أطفالها ضحية عدم وجود الأمان هنا، لا أريد أن أخسر ابني برصاصة طائشة، أو بجرعة مخدرات زائدة، لا أريده أن يكون في حزب معين ولا مؤيداً لأحد.

الإنجاب في ظلّ الخراب السائد

الإنجاز لا يكمن في إنجاب طفلٍ أراد الله له أن يكون، لكنّ تربية هذا الطفل في ظلّ الخراب السائد هو الإنجاز بعينه.

لا أريد أن أكون تلك الأم التي تنجب الأطفال فقط ولا تملك القدرة الماديّة على تربيتهم. " الولد بيجي وبتيجي رزقته معه" لا يا عزيزي، هذا " الولد" يحتاج أن يكون فرداً ناجحاً وأن نوفر له جميع ما يحتاج كي ينمو بطريقة سليمة. لذلك، إذا كنّا لم ننتبه إلى تربيته ودراسته ومتطلباته، فعلينا أن نعيد التفكير في الإنجاب لحين قدرتنا على توفير كل ما تحتاجه هذه الروح.

ولماذا علينا أن نغض البصر وننسى أوضاعنا السياسية السيئة؟ أنا لاجئة وغيري نازح وأولاد هذه البلد يبحثون عن الأمان والاستقرار.. ماذا يعني العيش في أمن وطمأنينة في بلادنا العربية؟ هذه المسألة تجعلني دائماً أحارُ في أمري، الكثير مِمَن أعرفهم يريدون الهجرة، والكثير منهم هاجر بالفعل وينتظر الإقامة وجميعهم يقولون شيئاً واحداً، أريد تأمين عيشة كريمة لأطفالي. ومن قال إن أوروبا وبلاد الغرب مكانٌ آمن لنربي أولادنا هناك؟

لا أريد أن أكون أماً يصبح أطفالها ضحية عدم وجود الأمان هنا، لا أريد أن أخسر ابني برصاصة طائشة، أو بجرعة مخدرات زائدة، لا أريده أن يكون في حزب معين ولا مؤيداً لأحد.

لا أريد أن أكون تلك الأم التي تشكو صراخ رضيعها، رغم أن الله قد منّ عليها أخيراً بنعمة حرمت منها فترة طويلة. أريد أن أسبّح كرم الله في وجه طفلي وأن لا أعترض على بكائه وسهره ولا حتّى على أفعاله الشيطانيّة.

لا أريد أن أكون مثل القطة التي تخاف على أبنائها فتأكلهم، لا اريد ان آكل أبنائي.

أفكّر في الأمومة، أسأل نفسي هذا السؤال كثيراً وأعيد طرحه عندما لا أجد إجابة، هل هذا العالم جدير بأن أنجب طفلة وأربيها هنا؟ هل أستطيع أن أتحمّل مسؤولية طفلٍ جئت به الى هذه الحياة؟ أجوبتي كانت دائماً تنبع من عقلي وتتعارض مع عاطفتي، إلاّ أنّني متحيزة جداً في هذا الموضوع إلى عقلي. في نهاية الأمر نحن سنسأل يوماً عن أبنائنا، عن حياتهم وإنجازاتهم، عن أمراضهم النفسيّة نتيجة مشاكلنا، عن حرمانهم من أشياء كثيرة نتيجة أوضاعنا الاقتصادية. سنسأل أمام الله عن هذه النعمة.

نحن النساء أمّهات بالفطرة، لكنّني لا أريد أن أنجب روحاً تقف يوماً أمامي لتسألني: "لماذا جئتِ بي إلى هذه الحياة يا أُمّي؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image