في حرب أكثر شراسة وعلى جبهة أخرى من جبهات المواجهة، تعلن إسرائيل الحرب على الآثار الفلسطينية والتي تعبر عن حضارة جذورها ضاربة في أعماق التاريخ. فالمواقع الأثرية الفلسطينية ليست مجرد شواهد أثرية وتاريخية فقط، بل هي مرآة لروح المكان والإنسان الفلسطيني الذي قاوم وبقي عصياً على الخضوع والاقتلاع من أرضه، محتفظاً بالذاكرة المتمردة على النسيان والاندثار.
فبعدما أمعن الاحتلال في الإبادة الثقافية والحضارية في قطاع غزة، عمد إلى مصادرة المواقع الأثرية الفلسطينية في الضفة الغربية في محاولة لإعادة إنتاج التاريخ ومحو الارتباط الفلسطيني العريق المتجذر في هذه الأرض، فتلك الآثار تشكل شاهداً حياً على الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني وتعبر عن عراقة هذا الشعب وأصالته وجذوره الممتدة في العصور الغابرة.
ففي 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أعلنت الإدارة المدنية الإسرائيلية عن مصادرة 1800 دونم من أراضي بلدتي سبسطية وبرقة، بزعم الحفاظ على موقع سبسطية الأثري وتطويره، مضيفة أن "عملية المصادرة ستُنفذ في مناطق من الموقع الأثري تقع في المنطقة (ج)" مما يعرف بـ "يهودا والسامرة"، الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية بموجب اتفاقيات أوسلو.
وأشارت الإدارة المدنية إلى أن قرار المصادرة اتُخذ بسبب "إهمال متعمد" من أصحاب الأراضي والسلطة الفلسطينية، مؤكدة أن مسؤولين إسرائيليين أبلغوا أصحاب الأراضي ببدء العملية ونقل ملكية الأراضي المحيطة بسبسطية إلى إدارة وحدة الآثار التابعة للإدارة المدنية. وإلى أنّ تنفيذ هذه الخطوة جاء "وفقًا للقانون، كجزء من مشروع أوسع تقوده وزارة التراث، والذي يتضمن استثماراً يبلغ نحو 32 مليون شيكل لتحسين الموقع، وتحسين وصول الزوار، وتطوير المنطقة الأثرية"، وأن الاستيلاء على الأرض يساعد في تمكين "تطوير البنية التحتية للموقع، وتوسيع الحفريات الأثرية، والكشف عن نتائج تاريخية إضافية".

الاستهداف المنهجي للآثار الفلسطينية
وفقاً لمنظمة السلام الآن الإسرائيلية "بيتسيلم": فإن "مساعي الحكومة الإسرائيلية لمصادرة الأراضي وضمها لا حدود لها، وهذا جزء من جهد أوسع للسيطرة على الأرض وتوسيع المستوطنات في شمال الضفة، وموقع سبسطية هو موقع تراثي يقع داخل بلدة فلسطينية، وجزء من تاريخها وجزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية"، مؤكدة على أن "الجشع الإسرائيلي لا يضر بملاك الأراضي فحسب، بل يضر أيضاً بآفاق حل سلمي يحفظ حقوق الشعبين وتراثهما".
1800 دونم من أراضي بلدتي سبسطية وبرقة تمت مصادرتها مؤخراً من قبل الإدارة المدنية الإسرائيلية. وذلك بحجة الحفاظ على الموقع الأثري من الإهمال. رئيس البلدية يصف هذه الخطوة بأنها اعتداء على خمسة آلاف عام من التسلسل التاريخي والحضاري والديني للبلدة
وأكدت "بيتسيلم" أن الحكومات الإسرائيلية نفذت عمليات مصادرة أراض في الضفة الغربية لتطوير الآثار خمس مرات منذ عام 1967، الأولى في العام 1982 حيث صودر دونمان من الكنيسة القديمة في أريحا، والثانية في العام 1985 حين صودر 286 دونماً من قرية سوسيا في جنوب جبل الخليل، وطُرد سكانها، ووُضع الموقع لاحقًا تحت سيطرة المجلس الإقليمي لما يعرف بمستوطنات جبل الخليل، والثالثة في العام 2020 حين صودر نحو 24 دونماً من موقعي دير قلعة ودير سمعان التابعين لبلدة كفر الديك غربي سلفيت، وأصبح الموقعان الآن داخل مستوطنتي عالي زهاف وبيدوئيل.
أما الرابعة ففي العام 2023 حين صودر 139 دونماً من موقع أرخليس في غور الأردن، والخامسة في سبسطية في أكبر عملية مصادرة للمواقع الأثرية الفلسطينية منذ العام 1967، وُتعدّ هذه المصادرة استثنائية لأنها تستهدف موقعاً أثرياً لطالما شكّل مركزاً اقتصادياً وثقافياً وسياحياً لسكان سبسطية والمناطق المحيطة بها، وكان مفتوحًا للجمهور.
وتدعي إسرائيل بأن موقع سبسطية هو عاصمة مملكة إسرائيل التوراتية، المعروفة باسم السامرة، ويحتوي على بقايا المدينة التي بناها هيرودس في القرن الأول قبل الميلاد تكريماً لأغسطس، الذي سماها سبسطية على اسمه، مستخدماً الكلمة اليونانية "سيباستوس"، التي تعني "المبجل"، ويضم الموقع آثاراً بارزة من مملكة إسرائيل ومن العصور الرومانية والبيزنطية .

احتلال متعدد الوجه
يقول رئيس بلدية سبسطية محمد عازم في حديثه لرصيف22، إن قرار قوات الاحتلال الإسرا ئيلية السيطرة على الموقع الأثري في البلدة ومصادرة 1800 دونم من أراضي بلدتي سبسطية وبرقة المحيطة بالموقع، هو اعتداء على موروث ثقافي وحضاري للشعب الفلسطيني، وهو قرار إجرامي يعتدي على خمسة آلاف عام من التسلسل التاريخي والحضاري والديني للبلدة، ويعبر عن الوجه القبيح للاحتلال والذي يسعى إلى تزوير الماضي وتشويه الحاضر وتدمير المستقبل الفلسطيني.
تسعى إسرائيل إلى تحويل الآثار إلى أداة سياسية مركزية لتثبيت سرديتها، معتمدة على مقاربة أيديولوجية تُعرف باسم الآثار التوراتية، حيث يتم إخضاع المادة الأثرية للنص الديني!
وشكل هذا القرار حالة من الصدمة لدى المواطنين في البلدة، وبخاصة أنه لا يستهدف آثار سبسطية وتاريخها فقط، بل يمس بملكيات خاصة بالمواطنين، وهذه الملكيات مثبتة بالوثائق الرسمية لدى المؤسسات الرسمية، لذا فللقرار تبعات اقتصادية كبيرة على الأراضي الزراعية والقطاع السياحي الذي تعتاش منه عائلات في البلدة.
ويضيف: "بلدة سبسطية تميزت بمكانتها التاريخية والحضارية، إذ تقع على مسار الحج المسيحي من القدس إلى الناصرة، وعلى مسار سكة حديد الحجاز التي تمر من منطقة المسعودية على مشارف البلدة، والتي اكتسبت أهمية كبيرة عبر 5000 عام من الحضارات والتراث إذ نشأ في البلدة الفن المعماري الذي تمثل في العشرات من المواقع الأثرية مثل المدرج الروماني، وشارع الأعمدة الروماني، وقلعة هيلاني، ومعبد أغسطس، وساحة البازليكا الفورم، وملعب سباق الخيل الروماني، والسور الروماني الذي يدور حول البلدة بطول 4 كم، وأكثر من عشر بوابات من القلاع الرومانية، وقناة المياه الرومانية، وقصر كايد العثماني، إضافة الى المكانة الدينية، إذ تحتضن كنيسة سيدنا يحيى في أعلى التلة الأثرية، ومقام سيدنا يحيى في مسجد سبسطية القديم، وكذلك المقبرة الملكية الرومانية، والكنيسة الرومانية، والمسجد العمري".
ويردف: "يأتي الاحتلال اليوم لمصادرة هذا الإرث الحضاري الكبير لينسبه لنفسه، في محاولة لإعادة صياغة التاريخ بما يخدم الرواية الإسرائيلية وإثبات الحق التاريخي المزعوم له في هذه الأرض، من خلال السيطرة على المواقع الأثرية وتزييف دلالاتها الرمزية بحكم القوة وشرعنة قانون الغاب".

خدمة الرواية التوراتية
تسعى إسرائيل منذ تأسيسها إلى تحويل علم الآثار إلى أداة سياسية مركزية لتثبيت سرديتها التوراتية، وتبرير مشروعها الاستيطاني في فلسطين، معتمدة على مقاربة أيديولوجية تُعرف في الأدبيات النقدية باسم الآثار التوراتية، وهي منهج يقوم على إخضاع المادة الأثرية للنص الديني.
ومن خلال تلك المقاربة تركّز إسرائيل حفرياتها على المواقع المذكورة في الكتب الدينية، وبخاصة في القدس والخليل وسبسطية وأريحا ونابلس، بهدف انتقاء الشواهد التي يُمكن تأويلها على أنها دلائل على وجود "دولة إسرائيل القديمة"، ويجري التعامل مع الطبقات الأثرية بطريقة انتقائية تبرز الرواية التوراتية، فيما تُهمّش أو تُطمَس الطبقات الكنعانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية، باعتبارها طبقات لا تخدم السردية الاسرائيلية.
ومن هنا تصبح الآثار ساحة مواجهة بين خطابين: خطاب فلسطيني يسعى لاستعادة سردية الأرض والهوية والتاريخ عبر المادة الأثرية، وخطاب إسرائيلي يهدف إلى احتكار الماضي وإعادة صياغته وفق منظور استيطاني-توراتي، وبهذا يتحول علم الآثار إلى رافعة سياسية مركزية في الصراع، ليس فقط لتفسير الماضي، بل لتحديد من يملك الحق في الحاضر ومن يحق له أن يكتب رواية المكان، يقول مدير دائرة العلوم الاجتماعية ورئيس قسم الآثار في جامعة النجاح الوطنية البروفسور لؤي أبو السعود في حديثه لرصيف22.
تعتمد إسرائيل على منهج "انتقاء الشواهد" التي يُمكن تأويلها على أنها دلائل على وجود "دولة إسرائيل القديمة"، فيما تُهمّش أو تُطمَس الطبقات الكنعانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية، باعتبارها طبقات لا تخدم السردية الاسرائيلية
ويضيف، الحكومة الإسرائيلية تبذل جهوداً دبلوماسية وإعلامية دولية تهدف إلى تقديم إسرائيل كحارسة لـ "التراث اليهودي" في مواجهة ما يدعى "الإهمال الفلسطيني"، من أجل احتكار السرد الأثري عالمياً، وهكذا تتحول المواقع الأثرية إلى رأس حربة في الصراع السردي: فهي لا تُستخدم لإعادة بناء الماضي، بل لإعادة تشكيله بما يخدم مشروعاً استعمارياً يسعى إلى نزع الشرعية عن الوجود الفلسطيني، وإعادة كتابة الجغرافيا والتاريخ معاً بما ينسجم مع رواية توراتية تُقدَّم باعتبارها حقيقة تاريخية، بهذه الطريقة، يصبح علم الآثار لدى إسرائيل جزءاً من منظومة السيطرة الاستعمارية التي لا تكتفي بالسيطرة على الأرض فحسب، بل تعمل أيضاً على السيطرة على ذاكرة المكان وتاريخه المادي ورموزه الثقافية.
ويستطرد "يقوم النظام الاستعماري الاستيطاني على فكرة أن الأرض يمكن السيطرة عليها مادياً فقط إذا أُعيدت كتابتها رمزيًا، وهذا ما تقوم به إسرائيل لذلك تُوظَّف الآثار لإثبات سردية توراتية، بينما تُزال أو تُهمَّش الشواهد التي تؤكد استمرارية الوجود العربي والفلسطيني عبر آلاف السنين، ومن خلال هذه الممارسة، يتحول الماضي إلى حقل معركة تُنتزع فيه شرعية الوجود السياسي من خلال إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية وإعادة توزيع الرموز المكانية، وهكذا يُفهم الارتباط بين السيطرة على الأرض والسيطرة على التاريخ المادي باعتباره جوهر المشروع الاستعماري: فامتلاك الأرض يشترط أولًا امتلاك قصتها، وامتلاك القصة يقتضي إعادة هندسة الذاكرة من أجل إلغاء وتشويه حضور السكان الأصليين، ويمنح المستعمِر حقاً ادعائياً يتجاوز حدود الواقع المادي ليصل إلى مستوى الهيمنة الرمزية والمعرفية".
صراع حقيقة وتاريخ في آن واحد
يقول المؤرخ الفلسطيني ومدير عام دائرة الرواية والمحتوى الرقمي في وزارة الثقافة الفلسطينية حسام أبو النصر في حديثه لرصيف22: "الصراع مع الاحتلال ليس مجرد مواجهة على الأرض أو السيادة، فهو صراع حقيقة وصراع تاريخ في آن واحد، وهنا تبرز معركة الحقيقة حيث لا تُسرق الأرض، بل تُسرق معها رواية الوجود الفلسطيني من أجل تثبيت الرواية الإسرائيلية المزيفة التي تحاول نفي أي وجود فلسطيني على هذه الأرض، وبالتالي فإن أهمية هذه الآثار تتأتى من كونها دليلاً مادياً على هذا الوجود وامتداده الكنعاني المسيحي الإسلامي الفلسطيني، وتدميرها والاستيلاء عليها. وهي محاولة لطمس الحقيقة وإعادة تفسير المكتشفات القديمة وفق منظور توراتي، وقد بدأ ذلك مبكراً منذ إنشاء صندوق استكشاف فلسطين عام 1865م حيث بدأت البعثات الأثرية التي أطلقتها بريطانيا محاولات البحث والتنقيب في محاولة لإسقاط أي مكتشفات أثرية على الرواية التوراتية".

الاستيلاء على الآثار وتدميرها لن يوجد تاريخاً للعابرين
ويشير أبو النصر إلى أن إسرائيل عملت منذ بداية الاحتلال على سياسة منظمة لتغيير أسماء المناطق والبلدات من أسماء عربية فلسطينية إلى أسماء عبرية توراتية في محاولة لإعطاء بعد ديني أسطوري توراتي للاستيلاء على الذاكرة الفلسطينية، كما استولت على الجغرافيا الفلسطينية من أجل الفكرة التوراتية "أرض الميعاد"، وحتى الحضارات التي قامت في هذه الأرض تحاول إسرائيل أن تنسبها إلى إسرائيل القديمة وليس إلى فلسطين.
ومن هنا تسعى لمصادرة وتهويد أية آثار كنعانية فلسطينية، في محاولة لإعادة كتابة التاريخ من أجل شرعنة الحالة الاستعمارية الكولنيالية تاريخياً ودينياً، لكن الاستيلاء على الآثار وتدميرها لا يوجد تاريخاً للعابرين، فتلك الآثار ما زالت تنبض بروح الإنسان الفلسطيني وثقافته الحية.
لقد منح القانون الدولي الإنساني حماية خاصة للمواقع الأثرية وللتراث المادي، وقد أقرت هذه الحماية مجموعة من المعاهدات الدولية، والتي تضمن حماية الممتلكات الثقافية منها اتفاقية لاهاي لسنة 1954، التي أقرت حماية الممتلكات الثقافية من الأضرار التي قد تنجم عن أي نزاع مسلح واتخاذ كامل الإجراءات والتدابير اللازمة لحمايتها.
وكذلك "ميثاق روريخ "1935، وميثاق اليونسكو 1945 ومعاهدتا اليونسكو لعامي 1970 و1972، والبروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربعة 1977؛ والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 1998، والبروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي 1999، والإعلان العالمي لحماية التراث الثقافي من التدمير المتعمد 2003.
فهل يصبح للقانون الدولي قوة تنفيذية على الأرض؟ أم إن الاحتلال سيظل فوق القانون؟

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



