في أوائل عام 2025، وجد نديم وهو اسم مستعار لرجل يبلغ من العمر 60 عاماً وأبٌ لأربعة أطفال، نفسه مضطراً إلى الفرار من مخيم طولكرم للاجئين في الضفة الغربية المحتلة، عندما اقتحمت القوات العسكرية الإسرائيلية المخيم ودهمت منزله.
يقول نديم لـ"هيومن رايتس ووتش" إن الجنود الإسرائيليين كبّلوه بـ"أصفاد بلاستيكية"، وفتشوا ممتلكاته، ثم أمروه هو وعائلته بالمغادرة، محذرين من أنه إذا اتجهوا يميناً أو يساراً فسيكونون هدفاً لقناصة إسرائيليين متمركزين في مواقع مرتفعة قريبة.
وبدون وجهة واضحة أو أي معلومات عن الملاجئ المتاحة أو المساعدات الإنسانية، لم يجد نديم وعائلته ملاذاً سوى مسجد محلي فتح أبوابه للنازحين من المخيم. وحتى اليوم، لم يتمكنوا من العودة إلى منزلهم، ويكافحون للعيش في مكان آخر داخل الضفة الغربية.
قصة نديم هي واحدة من آلاف، بحسب التقرير الجديد الصادم الذي نشرته "هيومن رايتس ووتش" اليوم الخميس 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 من القدس، والذي تشير فيه إلى أن التهجير القسري الذي نفذته السلطات الإسرائيلية في ثلاثة مخيمات للاجئين في الضفة الغربية في كانون الثاني/ يناير، وشباط/فبراير 2025 يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

عملية السور الحديدي
التقرير الصادر في 105 صفحات، بعنوان "’ضاعت كل أحلامي‘: تهجير إسرائيل القسري للفلسطينيين في الضفة الغربية"، يرصد الأثر الكارثي الإنساني لعملية "السور الحديدي"، وهي العملية العسكرية الإسرائيلية التي شملت مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس للاجئين، بدأت في 21 يناير/كانون الثاني 2025، بعد أيام من إعلان وقف موقت لإطلاق النار في غزة.
هذه العملية الواسعة جاءت بعد أشهر من اشتباكات محدودة بين القوات الإسرائيلية ومقاتلين فلسطينيين في المخيمات الثلاثة، إضافة إلى اشتباكات صغيرة النطاق في الأيام التي سبقت العملية وخلالها.
تقول "هيومن رايتس ووتش" إن هذه العملية أفرغت المخيمات الثلاثة من معظم سكانها، في أكبر عملية تهجير للفلسطينيين في الضفة الغربية في عملية واحدة منذ حرب عام 1967. وبعد عشرة أشهر على العملية، لا تزال المخيمات شبه خالية، مع بقاء نحو 32 ألف شخص في حالة نزوح مستمر.
فهؤلاء الذين نزحوا قسراً لا يزالون ممنوعين من العودة، رغم توقف العمليات العسكرية في محيطهم. وبرغم حجم المأساة لم يتصدروا عناوين الأخبار، أو حتى هوامشها، ولم يجذبوا الاهتمام العالمي.
التقرير الصادر عن "هيومان رايتس ووتش" اليوم الخميس بعنوان "’ضاعت كل أحلامي‘: تهجير إسرائيل القسري للفلسطينيين في الضفة الغربية"، يرصد الأثر الكارثي لعملية "السور الحديدي" الإسرائيلية التي شملت مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس للاجئين
وبحسب التقرير فقد أصدرت القوات الإسرائيلية أوامر مفاجئة للمدنيين بمغادرة منازلهم، بسبل شملت استخدام مكبرات الصوت المثبتة على مسيّرات. وقال شهود عيان إن الجنود تحركوا بشكل ممنهج في أنحاء المخيمات، واقتحموا المنازل، ونهبوا الممتلكات، واستجوبوا السكان، وأجبروا في النهاية جميع العائلات على الخروج.
تقول الباحثة الأولى في حقوق اللاجئين والمهاجرين في "هيومن رايتس ووتش"، نادية هاردمان: "في أوائل 2025، أجلت السلطات الإسرائيلية 32 ألف فلسطيني قسراً من منازلهم في مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية من دون مراعاة للحماية القانونية الدولية، ولم تسمح لهم بالعودة. مع انصباب الاهتمام العالمي على غزة، ارتكبت القوات الإسرائيلية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً في الضفة الغربية، وهي جرائم ينبغي التحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها".
التقرير حلّل صور أقمار صناعية وأوامر هدم عسكرية. تُظهر الصور بوضوح تدميراً واسع المدى بعد ستة أشهر من الهجمات، حيث دُمّر أكثر من 850 منزلاً أو لحقت بها أضرار جسيمة، إلا أن تقييم "يونوسات" التابع للأمم المتحدة، قدّر لاحقاً عدد المباني المتضررة بـ 1,460 مبنى.
ولم توفر القوات الإسرائيلية أي مأوى أو مساعدات إنسانية للمهجّرين، الذين لجأ كثيرون منهم إلى مساكن مكتظة، أو إلى المدارس والمساجد والجمعيات. وأفاد شهود بأن الجنود أطلقوا النار على أشخاص حاولوا الوصول إلى منازلهم لجمع متعلقاتهم، فيما أغلق الجيش جميع مداخل المخيمات ووسّع الطرق الداخلية بجرافات ثقيلة.
وقالت امرأة (54 عاماً): "كان الجنود يصرخون ويرمون الأشياء في كل مكان… كان الأمر يبدو كمشهد من فيلم. قال أحدهم: ’لم يعد لديكم منزل هنا. عليكم المغادرة‘".

النفي الإسرائيلي "اللفظي" لا ينفي الواقع
تقول المنظمة إن التهجير القسري في هذه الحالات يرقى إلى "تطهير عرقي"، وهو مصطلح وصفي –غير مصنّف كجريمة محددة – لكنه يشير إلى طرد مجموعة إثنية أو دينية من منطقة ما.
بحسب مسؤولين إسرائيليين فقد جاءت عملية "السور الحديدي" بسبب ما أسموه "التهديدات الأمنية" و"وجود عناصر إرهابية" داخل المخيمات. لكن "هيومن رايتس ووتش" تؤكد أن إسرائيل لم تقدّم أي دليل على أن تهجير السكان بالكامل كان الخيار العسكري الوحيد، أو سبب استمرار منعهم من العودة بعد توقف العمليات.
تقول المنظمة إن ثلاثة مخيمات لاجئين أفرغت من معظم سكانها (32 ألف شخص)، في أكبر عملية تهجير للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ حرب عام 1967.
ورفضت السلطات الإسرائيلية الرد على أسئلة المنظمة حول موعد السماح للمدنيين بالعودة، أو ما إذا كان ذلك سيتم أصلاً. وفي شباط/ فبراير، هدّد وزير المال ووزير الدفاع المناوب بتسلئيل سموتريتش بأن المخيمات قد تُترك "أطلالاً غير صالحة للسكن"، وأن سكانها "سيُجبرون على الهجرة".

سياق أوسع من الانتهاكات في الضفة
تشدد "هيومن رايتس ووتش" على أن التهجير القسري هو جزء من منظومة أوسع من القمع الإسرائيلي في الضفة الغربية، تشمل:
الاعتقالات الإدارية دون تهمة
زيادة وتيرة هدم المنازل
توسّع المستوطنات
تعذيب المعتقلين الفلسطينيين
عنف المستوطنين المدعومين من الدولة
خلال موجات التهجير في غزة أنشأت إسرائيل منظومة إخلاء معقدة وحددت ما سمّته "مناطق آمنة" للمدنيين. وبالطبع فهذه الترتيبات الشكلية لم تحمي المدنيين، أما في مخيمات الضفة الغربية فلم تُبذل حتى محاولات شكلية؛ فلم تكن هناك "مناطق آمنة"، ولا مسارات إجلاء منظمة، ولا ضمانات قانونية أو عملية لسلامة النازحين
وتضيف المنظمة أن هذه السياسات تشكل جزءاً من جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد اللتين ترتكبهما السلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. كما تطالب بالتحقيق مع كبار المسؤولين الإسرائيليين على أساس مسؤولية القيادة، ومنهم:
بنيامين نتنياهو
يسرائيل كاتس
بتسلئيل سموتريتش
اللواء آفي بلوط
اللواء هرتسي هاليفي
اللواء إيال زامير
وتدعو إلى عقوبات محددة الهدف بحقهم، بالإضافة إلى حظر السلاح، وتعليق الاتفاقيات التجارية التفضيلية، وحظر التعامل مع منتجات المستوطنات، وتنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. تقول هاردمان: "على الحكومات التحرّك فوراً لمنع تصعيد القمع في الضفة الغربية، وفرض عقوبات على نتنياهو وكاتس والمسؤولين الضالعين في الجرائم الخطيرة ضد الفلسطينيين".

غزة في الواجهة… والضفة في الظل
تشير "هيومن رايتس ووتش" إلى أن عمليات دهم المخيمات وعمليات التهجير في الضفة الغربية جرت بينما كان الاهتمام العالمي منصبّاً على الأعمال القتالية المدمرة في غزة، حيث تتهم المنظمة السلطات الإسرائيلية بارتكاب تطهير عرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك التهجير القسري والإبادة، إضافة إلى أفعال ترقى إلى الإبادة الجماعية.
وفي المقابل، حظيت الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي في الضفة الغربية باهتمام أقل بكثير من الحكومات ووسائل الإعلام.
ومع دخول وقف إطلاق نار جديد في غزة حيز التنفيذ، وتركيز المجتمع الدولي على منع تجدد القتال هناك، تحذر المنظمة من خطر حقيقي يتمثل في منح السلطات الإسرائيلية مساحة أوسع في الضفة الغربية لاستهداف مخيمات اللاجئين وتصعيد الجرائم الجسيمة ضد الفلسطينيين هناك.
تذكر "هيومن رايتس ووتش" أنه خلال موجات التهجير المتكررة وغير القانونية للفلسطينيين من منازلهم وملاجئهم في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أنشأت السلطات الإسرائيلية منظومة إخلاء معقدة وحددت ما سمّته "مناطق آمنة" للمدنيين.
ورغم هذه الترتيبات الشكلية، تعرّض المهجرون في غزة لخطر جسيم بلا ضرورة على أيدي القوات الإسرائيلية، في أفعال ترقى إلى جريمة التهجير القسري وجرائم ضد الإنسانية.
وتلفت المنظمة إلى أن القوات الإسرائيلية التي أفرغت مخيمات الضفة الغربية الثلاثة مطلع عام 2025 لم تبذل حتى هذه المحاولات الشكلية؛ فلم تكن هناك "مناطق آمنة"، ولا مسارات إجلاء منظمة، ولا ضمانات قانونية أو عملية لسلامة النازحين.
يقول التقرير بأن عمليات دهم المخيمات والتهجير في الضفة الغربية جرت بينما كان الاهتمام العالمي منصبّاً على الأعمال القتالية المدمرة في غزة.
فالجيش الإسرائيلي لم يوفّر أي مأوى أو مساعدات إنسانية لسكان المخيمات المهجّرين.
بعد طردهم من منازلهم، تُرك الناس ليواجهوا مصيرهم وحدهم. لجأ كثيرون إلى منازل أقاربهم أو أصدقائهم المكتظّة، بينما توجه آخرون إلى المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية بحثاً عن سقف يحميهم.
يستشهد التقرير بتقرير صادر عن منظمة أطباء بلا حدود في تموز/يوليو 2025 بشأن الضفة الغربية، خلص إلى أن المجتمعات المتأثرة بالتهجير تواجه تزايداً في انعدام الاستقرار واحتياجات غير ملبّاة، خصوصاً في ما يتعلق بـ الرعاية الصحية والغذاء والمياه المنتظمة.
أما الأشخاص من ذوي الإعاقة، فتقول المنظمة إن السلطات الإسرائيلية لم تأخذ احتياجاتهم بالحسبان؛ إذ عجز كثير منهم عن المغادرة من دون مساعدة، وواجهوا صعوبات في التنقل على الطرق التي جرى تجريفها بالجرافات، وفي العثور على ملاجئ.
ماذا عن القانون الدولي؟
وجدت المنظمة أن القوات الإسرائيلية ارتكبت النقل القسري للسكان وأعمالاً لا إنسانية أخرى في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد سكان مدنيين، وهي أفعال تشكل جرائم ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وإلى جانب ذلك، تقول المنظمة إن إسرائيل انتهكت القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي يبقى سارياً في الضفة الغربية إلى جانب القانون الإنساني الدولي.
تستشهد المنظمة كذلك بما جاء في الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2025 حول التزامات إسرائيل في ما يتعلق بالأرض الفلسطينية المحتلة، حيث قالت المحكمة إنها: "لا يمكنها أن تغفل ملاحظة أن سلوك إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة يثير مخاوف جدية في ضوء التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان… وبالتالي تؤكد المحكمة أن إسرائيل لا تزال ملزمة بهذه الالتزامات ويتعين عليها احترامها".
كما تشير إلى الرأي الاستشاري المفصلي الصادر في تموز/يوليو 2024 حول احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، الذي خلص إلى أن الاحتلال الممتد منذ عقود غير قانوني وينتهك حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وأن إسرائيل مسؤولة عن نظام فصل عنصري وانتهاكات جسيمة أخرى، وأن المستوطنات غير قانونية ويجب تفكيكها، وأن للفلسطينيين حقاً في التعويضات.
وبيّنت المحكمة حينها أن على الدول الأخرى عدم الاعتراف بأي تغييرات في الطابع الجغرافي أو التركيبة السكانية للأراضي المحتلة، وأن على الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة التعاون مع الأمم المتحدة لإنهاء "الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة".
بهذا، تضع "هيومن رايتس ووتش" عملية "السور الحديدي" وما رافقها من تهجير وتدمير في قلب ملف أوسع عن شرعية استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ونظام القمع الواقع على الفلسطينيين، ومسؤولية المجتمع الدولي عن عدم الاكتفاء بالمراقبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



