يُدرك الفلسطيني اليوم، وهو يعبر شوارع الضفة الغربية وطرقاتها بسيارته أو على قدميه، كيف تتغير الأرض من حوله بسرعة وبصورة لم يعتدها سابقاً، فيرى من خلف الزجاج وعلى امتداد نظره تلالاً كانت خضراء بالأمس وقد غطّتها مبانٍ وكرفانات وخيم وحتى مستوطنات. كما يرى طرقاً من الإسفلت تخترق السهول والجبال والأغوار وهي مزيّنة بأعلام الاحتلال لتربط بين مستوطنات لم تكن موجودةً قبل أشهر قليلة، وكأنّ الخرسانة نفسها والإسفلت ذاته يعيدان رسم الخريطة، حيث تُقتلع الأشجار وتُصادر الأراضي وتفرض الحواجز والبوابات قيوداً على حرية الحركة والتنقل، بينما تتقاطع الحياة اليومية للفلسطينيين مع حقائق الاستيطان الصارخة.
في هذا التقرير، يأخذ رصيف22، القارئ في رحلة على الأرض نفسها ليعاين كيف تسارعت مشاريع الاستيطان التي تشهدها الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، وكيف تتبدل حياة الفلسطينيين تحت وطأة السيطرة الإسرائيلية الجديدة.

"طوفان الأقصى" لم يكن البداية
منذ أن شنّت المقاومة الفلسطينية هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والذي أطلقت عليه عملية "طوفان الأقصى"، وحتى قبل ذلك، أي منذ أن نجح ائتلاف اليمين الإسرائيلي بزعامة بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، في الوصول إلى الحكم في أواخر عام 2022، والوقائع على الأرض في الضفة الغربية أو ما يُطلق عليها إسرائيلياً "يهودا والسامرة" تُشير إلى تغيّر دراماتيكي ولافت في البنى الاستيطانية هناك، والتي قامت لأول مرة بعد احتلالها من قبل إسرائيل في نكسة حزيران من العام 1967. وبطبيعة الحال، فالنشاط الاستيطاني في عموم الضفة الغربية لم يتوقف يوماً، وإنما كان يخضع لمعادلات سياسية وتدخلات دولية، فيما شهد تسارعاً وتباطؤاً على مدار الأعوام التي سبقت وصول الحكومة الحالية إلى مقاليد الحكم.
اندفاعة استيطانية متسارعة
تتلخص أولى هذه التغيّرات في ما أورده تقرير نشره مؤخراً موقع حزب الصهيونية الدينية الذي يقوده المتطرف بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية في الحكومة الإسرائيلية والوزير في الإدارة المدنية، ذراع إسرائيل الضاربة في الضفة الغربية.
اقتلاع أشجار ومصادرة أراضٍ وحواجز وبوابات وقيود على حرية الحركة والتنقل… هكذا تبدّل مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية حياة الفلسطينيين تحت وطأة السيطرة الإسرائيلية الجديدة
بحسب التقرير، تمكنت سلطات الاحتلال من إقامة وتثبيت الاعتراف بـ50 مستوطنةً جديدةً حتى خريف 2025، وفي الوقت ذاته، وثّقت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إقامة 114 بؤرةً استيطانيةً جديدةً، و22 مستوطنةً جديدةً منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وهو ما يعكس تضاعف الوتيرة مقارنةً بالسنوات السابقة وتحولها إلى اندفاعة واسعة تُنفّذ ميدانياً عبر المستوطنين قبل أن تُشرعَن رسمياً.
إلى ذلك، تُظهر معطيات تقرير الهيئة لشهر تشرين الأول/ أكتوبر 2025، استمرار هذا التصعيد بصورة حادة، إذ حاول المستوطنون إقامة 7 بؤر استعمارية جديدة في هذا الشهر وحده، ثلاث منها في الخليل وأربع في نابلس، ويشير التقرير إلى أنّ هذا التوسع يجري بتوجيهات سياسية واضحة، حيث يُستخدم إنشاء البؤر الرعوية والزراعية كمدخل للسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، قبل أن يجري لاحقاً تحويل هذه البؤر إلى مواقع استيطانية معترف بها ضمن الخريطة الرسمية بعد توفير الخدمات والبنى اللازمة لها.

وجه آخر للتوسع والهيمنة
يقاس التوسع الاستيطاني عادةً، بالإضافة إلى إقامة المستوطنات الجديدة، عند الحديث عن خطط حكومية لبناء وحدات جديدة أو توسيع مستوطنات قائمة. يشير تقرير حزب الصهيونية الدينية في هذا الصدد، إلى نجاح الحكومة الإسرائيلية في المصادقة على ما مجموعه 46،495 وحدةً سكنيةً جديدةً في عموم مستوطنات الضفة الغربية، منذ أواخر العام 2022، أي قبل الحرب على قطاع غزة بنحو عام، كما تمت دراسة 355 مخططاً هيكلياً منذ بداية الحرب.
في حين يفيد تقرير شهر تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، والصادر عن هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إلى أنّ الجهات التخطيطية الإسرائيلية درست خلاله 19 مخططاً هيكلياً في الضفة الغربية وداخل حدود بلدية الاحتلال في القدس، كما صادقت على 8 مخططات في الضفة الغربية بما فيها مشاريع ضمن نطاق E1، وأودعت 4 مخططات أخرى مصادقةً بذلك على إقامة 3،524 وحدةً استيطانيةً جديدةً ضمن مساحة تُقدَّر بـ2،233.138 دونماً، وبالإضافة إلى ذلك، فقد صادقت بلدية الاحتلال في القدس على مخططين وأودعت خمسة أخرى، ما يتيح بناء 1،205 وحدات إضافية.

إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية
اعتمدت سلطات الاحتلال خلال العامين الأخيرين سياسةً مكثفةً لمصادرة الأراضي باعتبارها الركيزة الأساسية لإعادة تشكيل الجغرافيا في الضفة الغربية. فمنذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، صادرت نحو 55 ألف دونم عبر تصنيفات جديدة لأراضي الدولة والمحميات الطبيعية والأغراض الأمنية، وفي السياق نفسه، كشف تقرير الهيئة لشهر تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أنّ سلطات الاحتلال استولت خلال ذلك الشهر وحده على ما يزيد عن 244 دونماً عبر ثلاثة عشر أمراً عسكرياً، استُخدمت لإنشاء مناطق عازلة حول المستوطنات وشق طرق جديدة وتعديل أوامر صادرة في عامي 2005 و2006، في محاولة لإحكام السيطرة على محيط التجمعات الاستيطانية، وهكذا تتكامل المصادرات الواسعة مع المصادرات الشهرية المتواصلة لتحويل القرى الفلسطينية إلى جيوب محاصرة تفقد تواصلها الجغرافي الطبيعي.
الخرسانة التي تمتد فوق التلال لم تعد مجرد بناء بل تحولت إلى أداة سياسية وأمنية لإعادة إنتاج السيطرة، فيما يحاول الفلسطيني مواجهة واقع يتقلص فيه فضاؤه الجغرافي وتتراجع فيه قدرته على الحركة.
البنية التحتية لتعزيز السيطرة وترسيخ الاستيطان
رافقت عمليات المصادرة والاستيطان موجة ضخمة من مشاريع البنية التحتية، حيث ضخّت حكومة الاحتلال عبر وزارة المالية برئاسة سموتريتش، ومن خلال الإدارة المدنية، ما يقارب 7 مليارات شيقل في مشاريع داخل الضفة الغربية، وشملت هذه المشاريع شقّ طرق جديدة وتوسيع طرق قائمة وربطها بالمفارق والإنارة، بما يسهل حركة المستوطنين ويعزز الترابط بين التجمعات الاستيطانية، ويتوافق ذلك مع ما كشفه تقرير تشرين الأول/ أكتوبر 2025، بشأن إصدار أوامر عسكرية لشقّ طرق استعمارية جديدة تهدف إلى تعزيز السيطرة على محيط المستوطنات.
والحقيقة أنّ هذه الطرق تتحول إلى أدوات إستراتيجية تُعيد رسم الحدود السياسية والديمغرافية للضفة، في حين يواجه الفلسطينيون مزيداً من الحواجز والبوابات التي تعيق تنقلهم، ومزيداً من العوائق التي غُذّيت من قبل المستوطنات والمستوطنين في سبيل دفعهم عن أراضيهم وصولاً إلى حثّهم بالقوة على هجرة الأرض والوطن، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى وجود أكثر من 916 حاجزاً وبوابةً عسكريةً في عموم الضفة.

عنف يُعيد إنتاج السيطرة
يتوازى التوسع الاستيطاني مع موجة غير مسبوقة من اعتداءات المستوطنين والجيش، إذ وثّقت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أكثر من 38 ألف انتهاك شملت الاعتداء الجسدي والاقتحامات وتخريب الممتلكات وإحراق المنازل والمركبات وقطع الأشجار، كما تشير تقارير سابقة للهيئة إلى وقوع أكثر 7،154 اعتداءً عنيفاً من قبل المستوطنين، أسفرت عن استشهاد 33 مواطناً في أنحاء متفرقة من الضفة الغربية، بالإضافة إلى اقتلاع 48،728 شجرةً منها 37،237 شجرة زيتون، في حين يحتفي المستوطنون بنجاحهم في رفع نسبة هدم المنازل والمنشآت الفلسطينية حيث وصلت إلى 70%.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2025، بلغ العنف ذروته، حيث سجّلت الهيئة 2،350 اعتداءً خلال شهر واحد، بينها 766 اعتداءً نفّذها مستوطنون، وأسفرت هذه الاعتداءات عن استشهاد الشاب جهاد محمد عجاج من بلدة دير جرير، واقتلاع أو تخريب ما يقارب 1،200 شجرة زيتون، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات تخريب وسرقة لممتلكات الفلسطينيين وهدم 28 منشأةً سكنيةً وزراعيةً وتوزيع 30 إخطار هدم جديداً، وتركزت هذه الاعتداءات في محافظات رام الله ونابلس والخليل، وهي المناطق التي تشهد أعلى ضغط استيطاني، كما وثّقت الهيئة 340 اعتداءً إضافياً نفذها مستوطنون وجيش الاحتلال ضد قاطفي الزيتون منذ الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم وحتى اللحظة.
استهداف البنية الاقتصادية الفلسطينية... مصنع الجنيدي نموذجاً
لم تقتصر الاعتداءات على استهداف المزارعين أو المنازل والممتلكات الفردية، بل امتدت خلال الأسابيع الأخيرة إلى استهداف البنى الاقتصادية الفلسطينية، ويبرز الهجوم الذي تعرّض له مقرّ المستودعات التابعة لشركة الجنيدي لصناعة الألبان في المنطقة الصناعية في بيت ليد شمال غربي نابلس، حيث هاجم أكثر من 100 مستوطن المصنع، وأضرموا النار في عدد من السيارات والشاحنات، كما ألحقوا أضراراً جسيمةً بالموقع من خلال تكسير الزجاج والثلاجات والمعدات قبل أن يلوذوا بالفرار، وهو ما يشكّل مثالاً صارخاً على اتساع دائرة الاستهداف الاقتصادي، ومحاولة ضرب ركائز الصمود الفلسطيني عبر الاعتداء على المنشآت الإنتاجية الحيوية.
بينما يشقّ الاحتلال الطرق وينفّذ مشاريع بنى تحتية لوصل المستوطنات ببعضها بعضاً، يقيم الحواجز والبوابات ويقطع حتى الممرات الزراعية القديمة لتتحول القرى والبلدات الفلسطينية إلى جيوب معزولة ومطوّقة بالعسكر والمستوطنين… كيف؟

جغرافيا تُعاد صياغتها بالقوة
بين المستوطنات الجديدة والبؤر الاستيطانية والمصادرات ومشاريع الطرق والاعتداءات اليومية، تتعرض الضفة الغربية لعملية إعادة صياغة شاملة تعيد رسم حدودها وواقعها الديموغرافي، فالخرسانة التي تمتد فوق التلال لم تعد مجرد بناء بل تحولت إلى أداة سياسية وأمنية لإعادة إنتاج السيطرة، فيما يحاول الفلسطيني مواجهة واقع يتقلص فيه فضاؤه الجغرافي وتتراجع فيه قدرته على الحركة، وتتبدل فيه معالم أرضه يوماً بعد يوم، ومع هذا التوسع المتسارع، تبدو الضفة الغربية وكأنها تدخل مرحلةً جديدةً يتغير فيها معنى الأرض ومفهوم المكان، فالممرات الزراعية القديمة تُغلَق، والسهول التي كانت تشكل امتداداً طبيعياً للقرى تتحول إلى مناطق محظورة، والجبال التي كانت تحرس القرى الفلسطينية تُثقب باحتياجات المستوطنات الجديدة من طرق وخدمات وبؤر رعوية، وتتعزز هذه التحولات عبر بنى تحتية ضخمة تشطر القرى وتقطع أوصال المدن، لتخلق جيوباً فلسطينيةً معزولةً ومحاطةً بممرات إسرائيلية عسكرية واستيطانية.
وفي ظل هذا الواقع، لا يعود الفلسطيني يواجه مجرد توسع عمراني طارئ بل مشروعاً سياسياً كاملاً يعيد إنتاج الجغرافيا بما يخدم تثبيت السيطرة الإسرائيلية وتوسيعها؛ فالتغيّرات على الأرض لا تتعلق فقط بمشهد بصري جديد، وإنما بخرائط تُعاد صياغتها بطريقة تُضعف قدرة الفلسطيني على الوصول إلى أرضه وزراعته وتنقله، وتحوّل حياته اليومية إلى سلسلة من القيود والمرور عبر الطرق الالتفافية والحواجز والبوابات الحديدية، وما يتشكل اليوم لا يعيد رسم المكان فحسب وإنما يصوغ واقعاً سياسياً جديداً تسعى إسرائيل إلى تكريسه كأمر واقع نهائي، تُحسم فيه مسألة السيطرة وتُقزّم فيه إمكانيات أيّ حلّ سياسي قائم على الانسحاب أو إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة. وهكذا، تتغير الضفة الغربية من خلال إعادة تعريف علاقتها بسكانها الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم كل يوم أمام أرض تتبدل، وهوية مكانية يُعاد تشكيلها قسراً وبصورة متسارعة.
- الإنفوغرافيك الواردة في التقرير مصدرها هيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



