تبدو الحياة في مدينة اللاذقية هادئةً على السطح: المحالّ مفتوحة، الشوارع مزدحمة، والمقاهي تستعدّ لاستقبال زوّارها كأنَّ شيئاً لم يتغيَّر. لكن، خلف هذا المشهد اليومي، تظهر عادات اجتماعية جديدة يحكمها الانتماء الطائفي والديني، ويُشكّلها الخوف من الآخر الذي أصبح عنواناً للتعامل اليومي معه.
في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، استيقظت اللاذقية على خبر إسقاط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وسيطرة "هيئة تحرير الشام" على البلاد. لم يكن وَقْع الخبر عادياً على جميع السوريين، لكنه كان أكثر وطأةً على أهالي هذه المدينة الساحلية التي لطالما اتّهمتها المعارضة السورية بدعم آل الأسد منذ اندلاع الثورة السورية، التي استحالت حرباً أهلية لاحقاً، عام 2011.
خلال التحضير لهذا التقرير، تواصلت مُعدّته مع مصادر عدّة في المدينة، وأول ردّ تتلقّاه دائماً: "أي طائفة تريدين؟". كان وَقْع السؤال عليها غريباً، خصوصاً أنها لم تعتد تصنيف المصادر بمثل هذه التصنيفات خلال تناول قضايا المجتمع السوري. لكن هذا الردّ كان مؤشّراً لا ينبغي تجاهله على ما آل إليه الوضع في المحافظة وفي "سوريا الجديدة".
"عادة الجلوس على الشاطئ المفتوح بدأت تتلاشى"... كيف طبع الخوف الحياة في اللاذقية في سوريا الجديدة؟ وإلى أي مدى خيَّمت الطائفية بظلالها على مفاصل المدينة ومظاهر الحياة فيها؟
عند الوصول إليها، يلوح في الأفق مبنى "جامعة تشرين"، تحيط به مناطق شعبية ذات أغلبية علويّة مختلطة مثل المشروع السابع قرب دوار الزراعة. ومع الاقتراب من وسطها، تبدأ ملامح اجتماعية مختلفة بالظهور: المركز الثقافي، كورنيش المحكمة، ثم الأحياء ذات الأغلبية المسيحية مثل الكورنيش الغربي وحي الأميركان. في نهاية هذا الامتداد، تظهر الأحياء ذات الأغلبية السنيّة مثل الشيخ ضاهر والصليبة. هذا التوزيع المكاني لا يعكس فقط تنوّعاً ديموغرافياً، بل يشير أيضاً إلى تباينات في التجربة اليومية في ظلّ السلطة الجديدة.
عودة إلى العصبية؟
في حيّ سقوبين، أحد الأحياء السكنية الواقعة على أطراف مدينة اللاذقية الشمالية، تعيش السيدة عليا سليمان*، وهي موظّفة في البريد، في عزلة شبه كاملة عن المدينة. تقول إنها منذ الثامن من آذار/ مارس 2025، الذي شهد مجازر وعنفاً طائفيَّيْن في منطقة الساحل السوري، لم تغادر حدود الحيّ. تُخبر عليا "رصيف22": "بعد المجازر، أصبح الخوف سيّد الموقف. الناس أغلقت أبوابها على نفسها كأن المدينة كلها دخلت في حالة سبات".
ابنتا أختها اللتان تعيشان معها في المبنى عينه لم تعودا تسمحان لأبنائهما بالذهاب لتلقّي دروس الرياضيات في حيّ الصليبة القريب. وأصبحت حركتهم لا تتجاوز البيت والمدرسة، إذ ترى ابنتا أختها أنّ كلّ شيء خارج الحيّ بات محفوفاً بالقلق، خصوصاً بعد حالات اختفاء واختطاف النساء والفتيات التي تكرَّرت في المدينة ومناطق أخرى.
تضيف عليا: "سابقاً لم يكن أحد يسأل عن طائفة المُدرّس. أما الآن، فحتى المُدرّسون أنفسهم يُفضّلون عدم القدوم إلى حي بعيد عن المدينة تسكنه أكثرية مُغايرة لطائفتهم، كأنّ الناس عادت إلى عصبيتها الأولى وأصبح السؤال عن الطائفة هو أول ما يُطرح في أي حديث أو لقاء".
"زمن الطائفية"
في كتابه "الهويات القاتلة"، يقول أمين معلوف إنه عندما يشعر الإنسان بأن هويته مُهدّدة، يتمسّك بأضيق تعريف لها، وحين تهتزّ الأرض تحت الأقدام يتشبّث بهويّته الأكثر بدائية؛ تلك التي تمنحه شعوراً بالأمان حتى لو كانت سبباً في عزله عن الآخرين. يظهر هذا بوضوح في قصة عليا، كما يتجلّى أيضاً في حكاية محمود علي* المتقاعد الذي يعيش على راتب عمله السابق في مديرية البيئة في اللاذقية ويسكن في حيّ المشروع العاشر في المدينة.
يحبّ محمود -أبو أوس- طاولة الزهر. يقول لـ"رصيف22": "لدى صديقي أبو يوسف مكتب عقاري بقربه شجرة توت كبيرة كنا نجلس تحتها ونلعب طاولة الزهر حتى منتصف الليل. الآن تغيَّرت الأحوال. في صيف العام الحالي، نقلنا موقعنا من تحت التوتة إلى فوق السطح. لم يزعجنا أحد، لكنه الخوف الذي سيطر علينا، إضافة إلى أنّ حالة انقطاع الكهرباء مع انخفاض نسبة الأمان وانتشار العصابات المُسلّحة جعلت من الجلوس تحت الشجرة في زاوية مُظلمة ضرباً من الجنون".
محمود ذاته كان قد قرَّر قبل أشهر تركيب باب حديد لبيته. وعن ذلك، يوضح: "عندما جاء النجّار سألني: (أين الباب القديم؟)، ضحكت وأجبته: (هاي أول مرة بركّب باب حديدي، حتى الباب الخشبي بحياتي ما قفلته). فابتسم ابتسامة لا تخلو من الحزن، وقال: (معك حق، نحن أبناء الصليبة نتبرّأ منهم ومن أفعالهم)"، في إشارة إلى مرتكبي مجازر 8 آذار/ مارس 2025.
في تلك اللحظة، لم يكن الحديث يدور حول باب حديد، بل عن انهيار الثقة؛ فالحوار الذي دار بين رجلَيْن من طائفتَيْن مختلفتَيْن يكشف عن سمة عصر جديد تُقفل فيه الأبواب وتُفتح فيه الأسئلة عن الهوية والانتماء والخوف.
ويضيف محمود: "أصبحت العلاقة بين الطائفتَيْن السنّية والعلويّة مرتبطة بموقف كلّ فرد من أبناء الطائفة السنّية بمجازر 8 آذار في حق أبناء الطائفة العلويّة، التي وُثّقت ونُشرت بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبمدى استخدامه لمصطلح 'فلول النظام'. مثلاً، النجّار رجل طيّب أعرفه منذ سنوات وهو من أوائل الرافضين للقتل على الهوية".
تكتّلات طائفية
الوضع لم يتغيّر على الصعيد الاجتماعي فقط. تروي المحامية الشابة ديما عيسى* لـ"رصيف22"، تفاصيل لافتة عمّا تشاهده في عملها. تقول إنّ القاضي الشرعي الأول لم يعد إلا ظلاً لا يمكنه اتخاذ قرار إلا بعد الرجوع إلى رئيس عدلية المحكمة والمسؤول الجديد عن كلّ القضايا، ويُدعى "أبو عبد الله" ويُلقّب بـ"الشيخ". في حين بات شباب صغار ومراهقون يدخلون المحكمة بالبواريد بلا احترام للمكان ولا خوف من مساءلة.
في اللاذقية، "أصبحت العلاقة بين الطائفتَيْن السنّية والعلويّة مرتبطة بموقف كلّ فرد من أبناء الطائفة السنّية بمجازر 8 آذار في حق أبناء الطائفة العلويّة، التي وُثّقت ونُشرت بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبمدى استخدامه لمصطلح 'فلول النظام'"
حتى المحامون، تقول ديما إنهم باتوا يتجمّعون في "تكتلات طائفية واضحة" داخل المحكمة "كأنّ الخوف أعاد رسم خطوط الانتماء داخل جدران العدلية". وتروي: «أحاول أن أتجنّب الأحاديث الطائفية، لكنها تفرض نفسها في المحكمة بين المحامين والمحاميات من أبناء المدينة. الغريب أنها غائبة عن التوكيلات الرسمية؛ إذ إنني لا أزال أتابع قضايا موكّليّ من حلب وحماة. في المقابل، اتصلت جارتنا لتسألني إن كان توكيلي في قضية طلاق ابنتها قد يؤدّي إلى تعقيدها أو إطالة أمدها لأنني (من الطائفة العلويّة). عبَّرت عن اعتذارها عن السؤال وحيرتها في الوقت ذاته".
تُعقّب ديما بأنها حاولت طمأنة جارتها وتفهَّمت مخاوفها: "قلتُ لها أستطيع أن أطلب من زميلي، وهو من طائفتها، أن يكتب اسمه كموكّل أول وأنا كموكّل ثانٍ. الأمر قانوني 100%. لكنه فقط محاولة للالتفاف على العصبية التي أصبحت تحكم العلاقات حتى داخل قاعات العدالة".
"وداعاً يا بحر"
على شاطئ البحر، تستقر "سفينة نوح"، وهي مقهى صغير تفوح منه رائحة السمك المشوي فتُغري الزائرين بالاقتراب. بجواره مقام ديني محلّي، فيما على الجانب الآخر يتردّد صوت المياه وهي تغلي في إبريق القهوة التي يبيعها أبو محمد* للزوّار.
تشير ديما إلى أنّ عادة الجلوس على الشاطئ المفتوح "بدأت تتلاشى"، إذ أصبح الذهاب إلى هناك "مخاطرة"، خصوصاً بعد غروب الشمس. وتتابع: "حتى التنزّه في المناطق الجبلية مثل رأس شمرا وصلنفة وكسب، وتناول المناقيش على الطريق، كلّها تلاشت، إلا إذا ذهب العلويّون إليها برفقة أصدقاء من طوائف مختلفة. حينها قد يكون الأمر أسهل".
حديث ديما عن حرمانها من البحر، يعانيه أيضاً حمزة حسين* الذي كان يعمل مهندساً ميكانيكياً في إحدى الشركات البحريّة. يحكي لـ"رصيف22" أنه "بعد مجازر آذار، ومع تصاعُد الخطاب الطائفي، رمى بي أحد زملائي في البحر خلال رحلة عمل. لذلك قرّرتُ إنهاء عملي رغم أنّ راتبي كان يعادل 1200 دولار شهرياً. وأنا الآن أعمل نادلاً في أحد المقاهي. ولأنّ دوامي مسائي، أخشى العودة بعد غروب الشمس فأنام في المقهى".
ويُكمل حمزة: "جميع أصدقائي الذين امتلكوا أكشاكاً على الكورنيش البحريّ لبيع المشروبات الباردة والساخنة والكحولية خسروا أرزاقهم، لأن السلطات الجديدة أقفلتها جميعها وباعتها لمستثمرين. هذا الأمر طُبِّق على جميع أبناء الطوائف». ولم يتسنَّ لـ"رصيف22" التحقّق من هذا الادعاء بشكل منفصل.
المقهى ذاته الذي يعمل فيه حمزة يمتلكه صديقه عامر ثائر* الذي جاء من حلب إلى اللاذقية واستقرّ فيها منذ عام 2014. يقول لـ"رصيف22": "أتعامل مع الجميع بحيادية. لكنني ألاحظ أحياناً أنّ بعض الناس يُذكرونني بأصولي في تعاملاتهم، كأنهم يفترضون أنّ لديّ علاقات خاصة مع الجهات الرسمية. فيطلبون مني المساعدة في تسهيل معاملاتهم، لكن الحقيقة أنني أشعر بالخوف مثلهم تماماً. حتى التنقّل ليلاً إلى أماكن بعيدة مثل الشاطئ الغربي أو المدينة الرياضية يثير قلقي، لذلك أفضّل البقاء في المناطق المزدحمة".
ويلفت عامر إلى أنّ الازدحام ليلاً تغيَّر نوعاً ما بين منطقة وأخرى. فالمناطق المعروفة بالازدحام سابقاً تراجعت الحركة فيها، في المقابل انتعشت الأسواق ليلاً في وسط المدينة. كما أنّ كثيراً من المحال الصغيرة افتُتحت في الأحياء الشعبية لتلبية حاجة السكان الذين اختصروا تسوّقهم في أسواق وسط المدينة لقُربها، بينما افتُتحت محال جديدة معظمها لسوريين كانوا في تركيا ثم نقلوا تجارتهم إلى اللاذقية بعد إسقاط النظام السابق.
"أحبُّ الكحل في عيني"
بالعودة إلى السيدة عليا، تذكُر أنها لم تضطر إلى تغيير طريقة لباسها لأنها لا تخرج من المدينة. لكنها تشير إلى أنّ عدداً من الشابات والسيدات لجأن إلى ارتداء الحجاب بكونه وسيلةً لتسهيل حركتهنّ وحياتهنّ اليومية في الأماكن العامة. وفيما توضح أن صديقةً لها اضطرّت وبناتها إلى ارتدائه، تُنبّه إلى أنّ الحجاب ربما يحمي بعض العلويات بشكل ظاهري، لكن إنْ تحدّثن أو اضطررن إلى إظهار هوياتهن، فستنكشف طائفتهنّ، معتبرةً أن هذا التغيير الشكلي القسري غير مجدٍ.
ذهبت ميادة لتقديم شكوى بعد سرقة مصاغٍ ذهبي منها. عند باب المخفر، نصحها شاب بأن تزيل الكحل من عينيها، قائلاً إنّ "الشيخ في الداخل لا يحبّ هذا المظهر"...
في هذه "الدوامة"، تعيش ميادة علي*، وهي سيدة مُحجّبة، ترتدي الجينز وتضع حجاباً ملوّناً، ولا تخرج من منزلها من دون لمسة بسيطة من المكياج. كانت لميادة تجربة مؤلمة في أحد مخافر المدينة، حين ذهبت لتقديم شكوى بعد سرقة مصاغٍ ذهبي منها. عند باب المخفر، نصحها شاب بأن تزيل الكحل من عينيها، قائلاً إنّ "الشيخ في الداخل لا يحبّ هذا المظهر".
تقول ميادة: "دخلتُ إلى المخفر فوجدت سيدة محجّبة ذات وجه أبيض تجلس بجانب رجل مسنّ. طلبت منها منديلاً لأزيل الكحل. لكنها انزعجت وقالت لي بصرامة: (لن تزيليه، ولن تمسحي شيئاً عن وجهكِ لإرضاء أحد)". مع ذلك، أصرّت ميادة على إزالة الكحل، لأنها لم تُرد تعقيد الأمور أكثر.
تختم ميادة حديثها: "السيدة المُحجبة ذات الوجه الناصع البياض، كانت مع عمّها في المخفر لاستخراج هوية جديدة لأنّ هويته مكسورة. بدلاً من مساعدتها، طلبوا منها أن تكون (أكثر حشمة) في حديثها. فملأ صوتها المخفر. كان ذلك لحظة وصولي تماماً، لتتقاطع قصّتانا مع بعضهما البعض في رحلة يومية لا نعرف كيف ستنتهي وأين ستُلقي بنا".
*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر لحساسية الموضوع واعتبارات السلامة الشخصية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



