يعيش الرعاة الفلسطينيون في المنطقة الممتدة بين العوجا والمعرجات شرقي محافظة أريحا، على تماس مباشر مع أشدّ أشكال السيطرة الإسرائيلية على الأرض. هنا، حيث تتداخل مناطق الرعي التقليدية مع مناطق التدريب العسكري الإسرائيلي والبؤر الرعوية الاستيطانية، تتحول حياة البدو الرُحّل إلى صراع يومي للبقاء على أرضهم.
بين هدير الجرّافات وصرخات الأغنام، تتقاطع الحكايات عن الهدم والتهجير والمقاومة الصامتة، لتكشف صموداً متواصلاً في وجه السياسات الإسرائيلية.
الأغوار الشمالية… المعرجات وشلال العوجا
يقول الراعي عبد الحفيظ عواد فزّاع الكعابنة (53 عاماً)، من البدو الرُحّل: "قبل حرب غزة عام 2023، أنشئت بؤر استيطانية رعوية في وسط المعرجات، ما أدى إلى هدم منازل السكان ومصادرة بركساتهم وخلاياهم الشمسية، واستيلاء المستوطنين على المكان لاستخدامه لرعي أبقارهم وأغنامهم. نتيجةً لذلك، اضطر أغلب السكان إلى النزوح، حيث فقد تجمّع المعرجات الذي كان يضم 50-60 عائلةً معظم أهله، وحلّت مكانهم أربع بؤر رعوية جديدة، مع استمرار تقييد وصول السكان إلى ممتلكاتهم وخطر الاعتداء عليهم عند محاولة العودة".
أما الراعي عطا داود طريف زايد (54 عاماً)، من شلال العوجا، فيقول: "المستوطنون في البؤر الرعوية الاستيطانية يعتدون علينا عبر نصب خيام وبركسات ووضع أغنام قرب مساكننا، ما يعرّضنا للتهديد المتكرر، فيما تكتفي الشرطة الإسرائيلية بالحضور دون منع الانتهاكات، ويحضر المتضامنون الأجانب لتوثيق ما يجري".
18% من مساحة الضفة الغربية تمّ إعلانها كمناطق إطلاق نار للاستخدام العسكري الإسرائيلي، أي ما يعادل تقريباً 30% من مساحة المنطقة (C)، و38 تجمّعاً رعوياً فلسطينياً تضمّ أكثر من 6،200 شخص يعيشون داخلها
يستذكر زايد، حادثة آذار/ مارس 2024، حين سرق المستوطنون وتحت حماية قوات الاحتلال نحو 170 رأساً من أغنامه، فيما بلغ عدد الأغنام المسروقة من التجمع وعدد من العائلات البدوية الأخرى نحو 1،500 رأس. ويضيف: "نُمنع من الوصول إلى مصادر الحياة مثل الماء والرعي، وتُكسّر سياراتنا، وبرغم ذلك لا تزال العائلات متمسكةً بمواقعها، مع دعم الجهات الرسمية الفلسطينية عبر إنشاء مدرسة للأطفال وسط التجمعات، بينما اضطرت تجمعات بدوية أخرى في المعرجات إلى النزوح بسبب الهجمات المستمرة".
جنوب الخليل… مسافر يطا
يعيش صهيب إسماعيل أبو عرام، مع عائلته في خربة الحلاوة في مسافر يطا جنوب شرقي محافظة الخليل، داخل منطقة مصنّفة "منطقة إطلاق نار 918"، تُستخدم للتدريبات العسكرية الإسرائيلية. يقول: "الهدف من هذا التصنيف هو تهجير السكان لصالح توسيع البؤر الاستيطانية. المستوطنون وقوات الاحتلال يضيّقون علينا بشكل مستمر، ويمنعوننا من البناء أو إدخال المركبات، بينما يُسمح بذلك للمستوطنين في مستوطنتَي أفيجايل ومتسبي يائير، بالإضافة إلى بؤرة رعوية جديدة تُعرف باسم حافات حاييم أُقيمت قبل نحو تسعة أشهر على بُعد كيلومتر ونصف من منزلنا".
ويضيف أبو عرام: "تتضمن الاعتداءات سرقة المواشي وتخريب المزروعات وتكسير الأشجار ومصادرة الأسيجة. نضطر في أثناء الهجمات إلى إدخال الأطفال وكبار السنّ إلى الكهوف لحمايتهم، ناهيك عن التفتيش الدائم والغرامات والمضايقات حتى للأطفال في طريقهم إلى المدرسة".
ويختم قائلاً: "عائلتنا متجذرة في الأرض منذ عام 1913، ولدينا وثائق أردنية تثبت وجودنا قبل الاحتلال، ورثنا الأرض عن أجدادنا ولن نتركها للمستوطنين. هم يهدمون ونحن نعيد البناء، هذه أرضنا، إما نحيا فيها أو نموت عليها".
لا تختلف الحال في خربة إصفي الفوقا جنوب شرقي الخليل،عن خربة الحلاوة، حيث يقول المزارع يوسف محمد عوض (32 سنةً): "نتلقّى باستمرار إخطارات بالهدم بحجج واهية، ونُمنع من رعي الأغنام أو الوصول إلى مصادر المياه باعتبارها مناطق تدريب عسكري. العيش هنا بين الجيش والمستوطنين، يعني لقمةً مغمسةً بالدم، برغم كل ذلك لن نغادر، وهذا ما كتبته على منزلي: 'هذا منزلنا، لن نغادر'".
في أثناء محاولتنا إجراء مقابلة، مع مواطن يسكن في منطقة مسافر يطا، ردّ بأنّ الوضع لا يُطاق في تلك اللحظة، لأنّ المستوطنين كانوا يسرقون أغنامه، ملخصاً بكلماته المعدودة هذه حجم المعاناة اليومية التي يواجهها الفلسطينيون في المنطقة.
رصد الناشطين ومتابعتهم
يشير الناشط أسامة مخامرة، من مسافر يطا، إلى أنه وعلى الرغم من أنّ منطقة المسافر مأهولة منذ مئات السنين، إلا أنّ الاحتلال الإسرائيلي أعلن أجزاء واسعةً منها كمناطق 'إطلاق نار' للتدريب العسكري، بهدف تهجير السكان وتهيئة الأرض للتوسع الاستيطاني. يضيف: "تُهدم منازل الفلسطينيين وخيامهم بينما يُسمح للمستوطنين ببناء بؤر جديدة ومدّ الطرق والكهرباء والمياه في المواقع نفسها! وعلى الرغم من الهدم والملاحقات، إلا أنّ الأهالي يواصلون الصمود ويعيدون نصب خيامهم بعد كل عملية هدم، متحدّين سياسة التطهير العرقي المقنّعة بغطاء عسكري".
من ضمن الاعتداءات سرقة المواشي وتخريب المزروعات وتكسير الأشجار ومصادرة الأسيجة… العيش بين الجيش والمستوطنين، يعني لقمةً مغمّسةً بالدم.
ويستطرد مخامرة: "البؤر الاستيطانية الرعوية أصبحت أداةً للسيطرة على الأراضي، حيث يستولي المستوطنون على مساحات رعوية واسعة ويمنعون الفلسطينيين من الوصول إلى المراعي ومصادر المياه ويخرّبون المزروعات والأشجار".
من جهته، يؤكد مسؤول ملف الاستيطان في محافظة طوباس، معتز بشارات، أنّ تجمع الفارسية-احمير في الأغوار الشمالية كمثال، يتعرض لهجمة استيطانية شرسة تهدف إلى تفريغ المنطقة من سكانها الأصليين. ويشير إلى أنّ المستوطنين، بدعم مباشر من مجلس المستوطنات والجيش الإسرائيلي، اقتحموا المنطقة خلال الأسبوع الماضي، وهدموا خيمةً سكنيةً تعود لأحد المواطنين، وأتلفوا محاصيل زراعيةً تعود لأحد المزارعين، كما سرقوا معدّات زراعيةً وحرثوا الأراضي في محاولة لفرض السيطرة عليها.
ويوضح بشارات، أنّ الاحتلال أعلن أجزاء واسعةً من أراضي الفارسية "مناطق عسكريةً مغلقةً" لاستخدامها في تدريبات قواته، في حين تُقام على التلال المحيطة بؤر استيطانية رعوية ينتشر فيها المستوطنون الذين يسيّجون الأراضي ويعتدون على المزارعين لإجبارهم على الرحيل.
ويضيف أنّ عدد العائلات المقيمة في التجمع تقلّص من 18 إلى 3 فقط بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نتيجة تصاعد اعتداءات المستوطنين وتدمير المزروعات وتكرار عمليات الهدم والمصادرة الممنهجة.
فيما يؤكد مدير دائرة الضغط والمناصرة في اتحاد لجان العمل الزراعي، مؤيد بشارات، أنّ الاستيطان الرعوي بات يُشكّل أحد أخطر أشكال التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، حيث يستخدم المستوطنون تربية المواشي ذريعةً للسيطرة على مساحات شاسعة، وخلال عامَي 2023 و2024 تمكّنت مجموعات "فتية التلال" المدعومة من منظمات استيطانية وصندوق قومي صهيوني من السيطرة على أكثر من 150 كيلومتراً مربعاً.
ويضيف مؤيد بشارات: "المستوطنون يمارسون العنف والتهجير القسري ضد الرعاة الفلسطينيين وسرقة المواشي ومنع الوصول إلى المراعي والمياه، مع غطاء قانوني وحماية عسكرية، ما أدى إلى تفريغ عشرات التجمعات البدوية، كما أنّ مناطق التدريب العسكري تُستغلّ لاحقاً لتسهيل التوسع الاستيطاني وتحويلها إلى مستوطنات دائمة".
الجانب القانوني والسياسي
ما سبق يتطابق مع ما يقوله خبير شؤون الاستيطان، سهيل خليلية: "يستخدم الاحتلال مناطق التدريب العسكري كأداة للسيطرة على الأرض، حيث يُصدر القائد العسكري للإدارة المدنية أوامر الإغلاق بموجب الأمر العسكري رقم 378 لعام 1970، لتصنيف ما لا يقلّ عن 11 منطقة تدريب بمساحة إجمالية تقارب مليون دونم، أي نحو 18% من مساحة الضفة الغربية".
ويوضح خبير شؤون الاستيطان، أنّ هذه المناطق تتقاطع مع البؤر الرعوية الاستيطانية وتُقام داخل أراضٍ مصنّفة "أراضي دولة" لتشكيل امتداد استيطاني متواصل، مشيراً إلى أنّ الاحتلال يحوّل أجزاء واسعةً من تلك المناطق بعد انتهاء صلاحية أوامرها إلى مناطق رعوية أو استيطانية جديدة.
ويبيّن خليلية، أنّ عدد البؤر الاستيطانية في الضفة يبلغ نحو 300 بؤرة، بينها ما لا يقلّ عن 180 بؤرةً رعويةً، تغطّي مساحةً تتراوح بين 750 و760 ألف دونم، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ونصف مساحة المستوطنات القائمة. وأشار إلى أنّ المستوطنين، خصوصاً في الأغوار ومسافر يطا، يقومون بتسييج مساحات تمتد كيلومترات عدة لعزل الأراضي الفلسطينية ومنع الرعاة من الوصول إليها، في إطار سياسة حكومية تهدف إلى عزل أكبر قدر من الأراضي ووضعها فعلياً تحت السيطرة الاستيطانية.
"المستوطنون يعتدون علينا عبر نصب خيام وبركسات ووضع أغنام قرب مساكننا، فيما تكتفي الشرطة الإسرائيلية بالحضور دون منع الانتهاكات، ويحضر المتضامنون الأجانب لتوثيق ما يجري"
ويضيف أنّ هذه البؤر، برغم أنها تُقام "بشكل غير قانوني"، تحظى بدعم لوجستي وعسكري ومالي مباشر، حيث تمت منذ تولّي سموتريتش، صلاحيات الإدارة المدنية، تسوية أوضاع أكثر من 70 بؤرةً رعويةً عبر تحديد مساحاتها ودمجها في الميزانيات الرسمية تمهيداً لتحويلها إلى مستوطنات قائمة. وأشار إلى أنّ مساحة البناء في المستوطنات القائمة تبلغ نحو 215 ألف كم²، بينما تمتد مناطق نفوذها الأمنية إلى أكثر من 545 كم²، ما ضاعف فعلياً من مساحة السيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية تحت ذرائع "الأمن" و"التخطيط".
من جانبه، يؤكد محافظ أريحا والأغوار، حسين حمايل، لرصيف22، أنّ "قوات الاحتلال تستغلّ كل أراضي المحافظة للتدريبات العسكرية، بما فيها أراضي فلسطينيةً مسجلةً وأراضي دولة وأوقافاً، مستخدمةً هذه الإجراءات لتهجير السكان وتهيئة الأرض للتوسع الاستيطاني، فيما يُسمح للمستوطنين ببناء 13 بؤرةً رعويةً تضمّ كل واحدة منها أقل من 10 مستوطنين، وتتلقّى الحماية من الاحتلال وتسيطر على الأغنام، وأنه تم تهجير 35 عائلةً من المعرجات، فيما تواجه 120 عائلةً في شلالات العوجا اعتداءات يوميةً تشمل حرق المنازل ونهب الممتلكات وكسر الأشجار والاعتداء على ينابيع المياه".
فيما يشدد مدير مؤسسة الحق (وهي منظمة فلسطينية غير حكومية مستقلة تُعنى بحقوق الإنسان)، شعوان جبّارين، على أنّ إعلان إسرائيل مناطق التدريب العسكري وإنشاء البؤر الاستيطانية الرعوية يشكّل انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني. "يُفترض بالقوة المحتلة حماية السكان وممتلكاتهم واستخدام الأراضي للأغراض العسكرية الملحة فقط بعيداً عن التجمعات والأراضي الخاصة. إسرائيل تحوّل هذه المناطق لاستيطان المستوطنين، وتهجير الفلسطينيين وهدم ممتلكاتهم، ما يُعدّ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بينما تسهم المحاكم الإسرائيلية في تثبيت هذه الانتهاكات بدلًا من توفير حماية عادلة للفلسطينيين"، يضيف.
وفي تقرير نُشر بتاريخ 4 تموز/ يوليو 2017، أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، بأنّ نحو 18% من مساحة الضفة الغربية تمّ إعلانها كمناطق إطلاق نار (Firing Zones) للاستخدام العسكري الإسرائيلي، أي ما يعادل تقريباً 30% من مساحة المنطقة (C)، وأنّ 38 تجمّعاً رعوياً فلسطينياً تضمّ أكثر من 6،200 شخص يعيشون داخل هذه المناطق برغم الحظر المفروض على التواجد فيها.
يبقى أن نشير إلى أنّ مجلس الاتحاد الأوروبي أدرج في نيسان/ أبريل 2024، جماعة "Hilltop Youth" (فتية التلال)، ضمن قائمة الكيانات المتطرفة، بسبب ما وصفه بـ"أعمال عنف استيطاني منهجية" ضد الفلسطينيين تشمل هجمات من ضرب وتخريب وهدم ممتلكات، ما يشكل انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان، مثل الحق في الملكية والحياة الخاصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



