عندما يغلب التوحّش على الإنسانية، وحين يُستخدم الجسد كأداة إذلال من الجلّاد، وتُغتال إنسانية المرء تحت قسوة القهر وذلّ الخضوع، وتُستباح كرامة الإنسان، ويصبح الصمت تعبيراً عن إخفاء الصدمة والعار، وصمت العالم أمام بشاعة المشهد، كلّ ذلك يتجلّى في ممارسات العنف الجنسي بحقّ الأسرى الفلسطينيين القابعين خلف القضبان في باستيلات الاحتلال الإسرائيلي.
في واحدة من أبشع الجرائم التي تهدّد الكرامة الإنسانية في العصر الحديث، كشف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن إفادات جديدة أدلى بها عدد من المعتقلين الفلسطينيين المفرج عنهم من سجون ومعسكرات الاحتلال بعد اعتقالهم في قطاع غزة. وتشير هذه الإفادات إلى ممارسات منظّمة وممنهجة من التعذيب الجنسي، شملت الاغتصاب، والتعرية القسرية، والتصوير الإجباري، والاعتداء الجنسي باستخدام الأدوات والكلاب، إلى جانب أساليب إذلال نفسي متعمّدة تهدف إلى سحق الكرامة الإنسانية ومحو الهوية الفردية بالكامل.
شجاعة الاعترافات
من بين هذه الحالات ن. أ.، وهي امرأة وأم فلسطينية بالغة من العمر 42 عاماً، إذ أفادت لمحامية المركز:
"في ساعات الفجر سمعتُ صوت الجنود وهم يصرخون ويقولون ممنوع الصلاة في الصباح، وأعتقد أنه كان رابع اليوم الرابع للاعتقال. نقلني الجنود إلى مكان لا أعرفه لأني معصوبة العينين، وطلبوا مني أن أخلع ملابسي، وبالفعل فعلت بذلك. وحينها وُضعت على طاولة حديد، ووضع صدري ورأسي على الطاولة، ويداي تم تقييدهما في طرف السرير، وتم شدّ قدمي بقوة وتفريقهما بالقوة عن بعض. وشعرتُ بإيلاج عضو ذكري في فتحة الشرج، وشعرت بجسم رجل يغتصبني. بدأتُ بالصراخ، وتم حينها ضربي على ظهري ورأسي، وكنت معصوبة العينين، وشعرت بقيام الرجل الذي يغتصبني بقذف السائل المنوي داخل فتحة الشرج. وكنت طوال الفترة أصرخ وأتعرّض للضرب، وكنت أسمع صوت الكاميرا وأعتقد أنهم كانوا يصورونني. استمرت عملية الاغتصاب نحو 10 دقائق، بعدها تركتُ ساعة على نفس الوضعية حيث يداي مقيدتان في طرفي السرير بواسطة كلبش حديد، ووجهي على السرير، وقدماي على الأرض، وكنت بدون ملابس نهائياً".
في شهادة شكلت صدمة لكل من قرأها، كشفت ن.أ (42 عاماً) وهي أم من غزة كيف تعرّضت لاعتداءات جنسية قاسية ومتتالية رافقها تعذيب وإذلال طوال التحقيق، وسط ضحكات الجنود الإسرائيليين وتصويرهم لها. لتصبح شهادتها الدليل الأوضح على العنف الجنسي تجاه الأسرى الفلسطينيين
وتضيف: "مرة أخرى وبعد ساعة تم اغتصابي بشكل كامل على نفس الوضعية، حيث تم إيلاج العضو الذكري داخل مهبلي، وكنتُ أتعرض للضرب وأنا أصرخ. وكان هناك عدد من الجنود حيث كنت أسمع صوتهم وهم يضحكون، وصوت الكاميرا وهي تلتقط الصور، وقد استمرت عملية الاغتصاب فترة قصيرة جداً لم يتم خلالها القذف. خلال عملية الاغتصاب كنتُ أتعرض للضرب بواسطة اليدين على رأسي وظهري".
يتجاوز العنف الجنسي الجسد إلى إنسانية الضحية، وفي الوقت عينه يعبر عن وحشية المجرم المفترس وحيوانيته، ويُعدّ من أخطر أشكال الانتهاكات التي تُرتكب بحقّ الأفراد في مختلف المجتمعات، إذ يتجاوز حدود الجسد ليطال الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية، ويشمل كلّ فعل ذي طابع جنسي يُفرض بالقوة أو الإكراه، سواء من خلال التهديد أو التخويف أو استغلال النفوذ والسلطة. وتتنوّع صور العنف الجنسي لتشمل الاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والإكراه على البغاء، والحمل القسري، والتعقيم القسري، وغيرها من الأفعال التي تُمارس في ظروف قسرية أو في بيئات تقيّد حرية الضحية وقدرتها على التعبير عن الرفض أو القبول.
السياق التاريخي للعنف الجنسي في السجون الإسرائيلية
ظاهرة الاعتداء الجنسي ليست جديدة، بل موجودة منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي. فمن يقرأ مذكّرات الأسرى وما كتبوه منذ البدايات في أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي يجد أنّ الاعتداء الجنسي والتهديد الجنسي والعنف الجنسي استخدمت خلال عمليات التحقيق والاستجواب للأسرى الفلسطينيين، كأداة ضغط من أجل انتزاع اعترافات، وثانياً من أجل إهانة الأسير الفلسطيني وإذلاله وتقويض نفسيته خلال التحقيق.
فعلى سبيل المثال، من يقرأ ما كتبته الأسيرة المحررة عائشة عودة في كتابها "أحلام بالحرية" يجد أنها تتطرّق إلى استخدام وسائل لا أخلاقية ولا إنسانية، خصوصاً مع النساء والشباب، كوسيلة ضغط وابتزاز خلال الاستجواب، وإلى أبعد من ذلك من خلال اعتقال عائلات المعتقلين للضغط عليهم، مثل اعتقال الأم أو الزوجة أو الأخت وتهديدها وإذلالها كوسيلة ضغط من أجل انتزاع الاعترافات، يقول عيسى قراقع رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين السابق في حديثه لرصيف22.
أكدت منظمة أطباء لحقوق الإنسان–إسرائيل أنّ العنف ضد الفلسطينيين تصاعد بشكل كبير منذ 7 أكتوبر، وأشارت إلى أن السلطات الإسرائيلية تجاهلت شكاوى العنف، بما فيها الاعتداءات الجنسية.
ويضيف: "بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تكشّفت هذه الأعمال والممارسات البشعة بشكل أوضح وعلني، من خلال الجرائم التي ارتكبت بحقّ المعتقلين في سجون الاحتلال، واستخدام وسائل وأساليب متنوعة في الاعتداءات الجنسية ضد الأسرى. ولكن هذه المرة لم تكن الاعتداءات كما في السابق من أجل انتزاع الاعترافات، وإنما من أجل القتل والانتقام والإذلال، إذ تجلت نزعة انتقامية متوحشة وهائجة في التعامل مع المعتقلين بهدف قتل الأسير جسدياً ونفسياً ومعنوياً".
ويردف: "هذا يشكّل تجلّياً لنزعة انتقامية عارمة اجتاحت المؤسسة الإسرائيلية بكل أشكالها، وما كُشف هو شيء بسيط. فبتقديري، عمليات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية كثيرة، وبخاصة مع أسرى قطاع غزة. وقد التقيت بالأسرى المحررين خلال زيارتي القاهرة، وتحدّثوا لي عن أشياء كثيرة، بمعنى أن كل أسير فلسطيني تقريباً تعرض لمحاولات اعتداءات جنسية بأشكال مختلفة، منها التعرية، والضرب على الأعضاء التناسلية، ومنها الاغتصاب بالعصي، ومنها الكلاب المدرّبة جنسياً".
من جانب آخر، أكدت منظمة أطباء لحقوق الإنسان–إسرائيل أنه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لاحظت تصاعداً وتفاقماً في العنف ضد الفلسطينيين، مع دعم شعبي ورسمي إسرائيلي يُضفي الشرعية على هذه الأفعال، وقد سبقت الحرب ثقافة سائدة من انعدام المساءلة، حيث لم تُعالج شكاوى العنف، بما في ذلك العنف الجنسي، بشكل كافٍ من سلطات الدولة والمحاكم الإسرائيلية، مما كشف عن إخفاقات منهجية.
ويتجذّر الاعتداء الجنسي في علاقات قوة غير متكافئة وقمعية، إذ يخلق الاستعمار والاحتلال العسكري والحرب والصراع المسلح نظاماً يسمح بالانتهاك، وتقع على عاتق القوة المحتلة مسؤولية منع الضرر، لكن من دون رقابة داخلية أو خارجية فعالة، من غير المرجّح أن تفي إسرائيل بهذه الالتزامات.
الاهتمام الحقوقي والنسوي الفلسطيني
الحقيقة أنّه كان هناك تركيز دائم على تلك الانتهاكات الجنسية بحق الأسرى الفلسطينيين من مؤسسات المرأة والمؤسسات الحقوقية، وأمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وجهات دولية أخرى، حول الاعتداءات الجنسية على النساء والرجال على حدّ سواء.
ولكن لم تُغطَّ هذه الجرائم كما ينبغي بسبب ازدواجية المعايير، حيث أشاع الاحتلال منذ اللحظة الأولى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أن هناك اعتداءات جنسية تعرض لها المحتجزون الإسرائيليون في قطاع غزة، فطغت على المشهد. بمعنى أنّ التركيز الدولي أصبح على الإسرائيليين وليس على الفلسطينيين.
إلا أن حجم الجرائم تجاوز أسوار السجون التي يُمارس عليها الإغلاق والعزل الشامل أمام المؤسسات الدولية والصليب الأحمر والمحامين، يقول حلمي الأعرج مدير مركز الدفاع عن الحريات في حديثه لرصيف22.
التقارير الحقوقية التي وثقت الاعتداءات الجنسية حاضرة منذ سنوات، ولم تغب عن المنظمات الحقوقية الأهلية الفلسطينية، ولا عن تقارير المقررين الخاصين للأمم المتحدة، وخاصة مقررة حقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيز، ولجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة التي نشرت تقريراً في آذار/ مارس 2025 وتحدثت فيه عن جرائم جنسية بحق الأسرى الفلسطينيين
ويضيف: "اليوم هناك من تجرّأ أكثر أن يقدّم إفادته، وخصوصاً النساء والشباب الذين تعرضوا لعمليات اغتصاب وجرائم جنسية. كما أسهم الاحتلال نفسه في نشر ذلك، لأن بعض الإسرائيليين الذين صحا ضميرهم لم يحتملوا حجم الجريمة وبشاعتها فوثقوا الجريمة ونشروها. واغتصاب المقاتل من حركة حماس الذي نُشر في شريط فيديو هزّ أركان دولة الاحتلال وأدى إلى استقالة المدعية العامة العسكرية، وهو إثبات دامغ على أن الإسرائيليين يمارسون الاعتداءات الجنسية المباشرة على النساء والرجال والأطفال".
ويقول قراقع: "الثقافة الشرقية تقيّد الأسير والأسيرة الناجين من الاعتداءات الجنسية في الحديث عمّا تعرضوا له في غرف التحقيق وأقبية الظلام على أيدي المحققين والسجانين. بمعنى أن الثقافة التقليدية الدينية السائدة في المجتمع الفلسطيني تضطلع بدور في الحدّ من الإدلاء بالشهادات في هذا الجانب، رغم أن بعض الأسيرات تحدّثن عن الاعتداءات الجنسية التي مورست بحقهن خلال التحقيق. ولكن، بشكل عام، فإن الثقافة السائدة تؤدي دوراً محورياً في الحد من كشف هذه الفظائع".
غليان في الشارع الفلسطيني
شهد الشارع الفلسطيني حالة من الصدمة والغضب والاستنكار الشديد بعد كشف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن إفادات الضحايا، والتي تؤكد تعرض عدد من الأسرى (إناث وذكور) الذين أفرج عنهم أخيراً من قطاع غزة لانتهاكات جنسية. فمنذ انتشار تلك الإفادات، عمّت وسائل التواصل الاجتماعي موجة من الغضب الشعبي، عبّر خلالها الناشطون عن غضبهم من تلك الممارسات واستخدام الاحتلال الإسرائيلي العنف الجنسي كسلاح ضد الأسرى داخل السجون ومراكز التوقيف والاحتجاز.
وأثارت هذه الممارسات موجة واسعة من الاستنكار من الفصائل الفلسطينية، إضافة إلى مؤسسات الأسرى (مؤسسة الضمير، نادي الأسير الفلسطيني، هيئة شؤون الأسرى والمحررين) التي اعتبرت أن ما يجري يشكل انتهاكاً خطيراً للكرامة الإنسانية، ويترك آثاراً مدمّرة على الأسرى وعائلاتهم.
فصرّح الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي بالقول: "ما سمعناه عن أسيرة فلسطينية تعرضت للاغتصاب على مدار أربعة أيام متتالية، دليل على تحوّل الصهيونية برمتها إلى الفاشية، وهذا جوّ فاشيّ يدل على مدى انحدار الاحتلال الإسرائيلي نحو الفاشية، والسؤال الكبير هو لماذا تصمت الحكومات الغربية عن هذا التحول؟ ولماذا يسكتون عن هذه الجرائم؟ لا بد من فرض عقوبات على إسرائيل".
ظاهرة الاعتداء الجنسي ليست جديدة، وأساليب التهديد والعنف الجنسي استخدمت خلال عمليات التحقيق والاستجواب لانتزاع الاعترافات من الأسرى الفلسطينيين منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي.
ويقول الأعرج: "إنها جرائم يندى لها الجبين، وهذا الاحتلال يعتقد أن العقلية الشرقية للعرب والمسلمين تمنعهم من الحديث عن هذه الجرائم خوفاً من العار. لكن هذه المرأة التي قدّمت شهادتها، والشاب الذي تحدث عن اعتداء جنسي تعرّض له بواسطة كلاب مدربة، وهذه التوثيقات الإسرائيلية، كلها تدفع اليوم نحو تسليط الضوء على المجرم وعلى الجريمة، وليس على الضحية. وهذا يشجع كل من تعرض لانتهاك جنسي أو اعتداء أن يعلن ذلك ويوثقه حتى يتم فضح وتعرية الاحتلال وملاحقة المسؤولين أمام المحاكم الدولية".
محاسبة المسؤولين عن الاعتداءات
يقول الأكاديمي والحقوقي الدكتور منير نسيبة في حديثه لرصيف22 إن التقارير الحقوقية التي وثقت الاعتداءات الجنسية بقيت حاضرة منذ سنوات، إذ رصدت الاعتداءات الجنسية ضمن أساليب أخرى لتعذيب المعتقلين. ولم تغب هذه الاعتداءات عن تقارير المنظمات الحقوقية الأهلية الفلسطينية، ولا عن تقارير المقررين الخاصين للأمم المتحدة، وخاصة مقررة حقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيز، ولجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة التي نشرت تقريراً في آذار/ مارس 2025 وتحدثت فيه عن جرائم جنسية بحق الأسرى الفلسطينيين.
ويضيف: "هذه التقارير والإفادات تشكل أدلة واضحة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، ويمكن استخدامها في تقديم شكاوى لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ولدى محاكم بعض الدول الأوروبية التي تسمح قوانينها بذلك وتمتلك الاختصاص العالمي".
ويؤكد أن جريمة العنف الجنسي بحق الأسرى تُعدّ أحد أشكال التعذيب والمعاملة الحاطة بالكرامة، وهي ترقى إلى أعلى مستويات الانتهاك. فالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) في المادة (7) يعتبر الاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكبت ضمن هجوم واسع النطاق أو منهجي، والمادة (8) تعتبرها جريمة حرب عند ارتكابها بحق أسرى أو أشخاص محميين. ودولة فلسطين عضو في المحكمة منذ 2015، ولها الحق في تقديم الملفات ضد المسؤولين الإسرائيليين، وفق اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 اللذين يحظران صراحة الاعتداء على الكرامة الشخصية بما في ذلك الاغتصاب والإكراه الجنسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



