هذا الملف يتضمّن مجموعةً متنوعةً من النصوص، مرفقةً بخمس صور، من إنتاج أعضاء “ناس رصيف”.
جاءت هذه الأعمال ضمن تمرين فوتو-ستوري أشرف عليه شربل كامل في جانب الكتابة الإبداعية والتحرير، ويوسف عيتاني في جانب التصوير.
غريبة علاقتي بهذه المدينة، تتبدّل مع كل نكبة نمرّ بها. أعود إليها بعد كل فرقة، كغريبٍ يحفظ تفاصيل بيت طفولته بينما تغيب عن ذهنه تفاصيل أخرى. أمشي في شوارعها، ألمس جدرانها، وأختبر ذاكرتي وذاكرتها.
المدينة لا تبتسم كثيراً هذه الأيام. هادئة كما عهدتها، لكن هدوءها مُثقل بغصّة. هي سعيدة بي لأنّي نجوت وبقيت أكتب عنها. نتشارك صوراً قديمةً، وأخرى لا تزال طازجةً في الذاكرة.
قبل أعوام، كنا جميعنا هنا نضحك، نثرثر حول كأس متة، ونرسم أحلاماً واسعةً تتّسع لنا جميعاً. لم يكن ثمة إنذار. لم يهاجر أحدهم بسبب حدث يعينه، بل فقط بسبب سلسلة تراجيديات متتالية. كلّما انتهت مأساة، بدأت أخرى أكبر. سنةً بعد سنة، تباعدنا، وتفرّقنا. لم يبقَ أحد.
قد يبدو هذا كلّه حزيناً، لكنه مُرضٍ بطريقة ما. بعضهم رحل قبل أن تصل المجزرة إلينا. قبل أن يُعلَن أن منطقتنا "غير صالحة" للانتصارات الجديدة. وكأنّ ناراً اندلعت فينا، وابتلعت ضحكاتنا، وأحلامنا.

ركضنا بعيداً، لم نجد حضناً سوى الطبيعة. صارت الجبال بيوتنا، والأحراش ملاجئنا، والدماء تطوف من تحتنا. كنا نصلّي من أعالي الجبال كي يعود القَتلة إلى بيوتهم، علّنا نعود نحن.
كثيرة هي الحكايات عن أقوام اتخذوا من الغابات مأوى، لكنني لم أتخيّل أن أعيشها يوماً. وحين عدنا، لم نجد سوى حجارة مكسورة وأعمارٍ منهوبة.
مشيت طويلاً على رماد الجثث ودماء الأصدقاء. كانت تزهر بجوارها ورودٌ حمراء، حتى كرهنا الأحمر من فرط ما رأينا. أصابتنا، أنا والمدينة، تخمة من الدماء.
ما نعرفه الآن؟ فقط دماء وتعازٍ. هذه ألوان علم البلاد.
"غريبة علاقتي بهذه المدينة… تتبدّل مع كل نكبة نمرّ بها. أعود إليها بعد كل فرقة، كغريبٍ يحفظ تفاصيل بيت طفولته بينما تغيب عن ذهنه تفاصيل أخرى."
أمشي، وفي كل خطوة أكبر عمراً. لا أستطيع الصراخ، كأنّ صوتي مقيّد بحبال خفيّة. أصل إلى البحر. يقال إنّ الوقوف أمامه يشفي، لكنني أقف مترددةً، كأنّ الموج يحمل ذاكرةً لا تطمئن. أخاف أن تُعيد لي المياه رفات صديقٍ ممن تم رميهم هناك... لا أجرؤ على البكاء. صمتي، مثلي، متعب.
أصادف عجوزاً يمشي بمحاذاة البحر بخطى بطيئة، كأنّه يحمل على ظهره أعماراً كاملةً. يضع يديه وراء ظهره، يحدّق في المدى، ولا يقول شيئاً. اقتربتُ منه دون أن أقصد. مشينا معاً، صامتَين. شعرتُ بأننا نبحث عن المدينة نفسها. المدينة التي حفظناها في الذاكرة، تلك التي لم تكن هكذا. كأننا نختبرها بأقدامنا، نخاف أن تذوب تحتنا، أن ننساها أو تنسانا.
لم يسألني من أين أنا، ولم أبادله الحديث. فقط مشينا، أنا والختيار، كأننا نبحث عن ضوء صغير في مدينة مطفأة.

أكمل سيري إلى كراج المدينة. المكان الذي كان يعجّ بالحياة، بالصراخ، بالشتائم، وبتذمّر الركّاب من غلاء النقل وأزمة البنزين، صار خالياً، كأنّ المدينة بلعت أنفاسه.
هل ما يزال الحداد قائماً؟ أو أنّ من كانوا يصرخون ويحتجون قد غادروا ورحلوا؟
"مشيت طويلاً على رماد الجثث ودماء الأصدقاء. كانت تزهر بجوارها ورودٌ حمراء، حتى كرهنا الأحمر من فرط ما رأينا. أصابتنا، أنا والمدينة، تخمة من الدماء."
تتزاحم الأرواح في رأسي. وجوه أعرفها، تمنّت فقط أن تكمل تعليمها، أن تجد مكاناً في هذا العالم قبل أن تُقتل أحلامها بطلقة بسبب انتمائها. كثيرون منهم دُفنوا في المقبرة القريبة من الكراج، رُصّوا صفوفاً كما كنا نصطف من أجل الخبز أو المازوت أو جرّة الغاز أو حتى أوراق الجامعة.
أتأمل المقاعد الفارغة… لقد كانوا هنا جميعاً يوماً ما...

تُعاود الشمس غروبها، كما في ذلك اليوم الأخير مع صديقتي قبل رحيلها. أسمع صوتاً وكأنّ المدينة تهمس لي:
"إذا غربت الشمس عن وطنك، فهي تشرق في وطن آخر. ما عليك إلا أن تبحث عن ذاك الوطن...". وطن خلف البحار لا يعرف تراكم الآلام ولا فقدان الأحباب.
ففي داخلي، أعرف أنّ الوطن الحقيقي…
هو ألا يحدث هذا كله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.