تأخذنا النهايات بشكل مستمر إلى منطقة أكثر دراميةً من البدايات. لا يبدو هذا تصنّعاً، لكنها طريقة القصة في صناعة نفسها وتحقيق وجودها. وهذا لا ينطبق على الخيال فحسب، لكن على الحقيقة أيضاً.
في غزة، هنالك دراما إجبارية في كل لحظة في حياتنا في ظلّ الحرب. الإبادة تتقدم إلى المكان، وأمامنا حلّان: إما البقاء والموت، أو الهرب على أمل النجاة.
عندما اقتربت دبابات الاحتلال من حي الشيخ رضوان شمال غربي مدينة غزة، تحولت النهاية إلى دراما بتلقائية، وكان علينا الهرب من نارها، للابتعاد عن الخطر.
المنزل الذي استأجرته بعد عودتي إلى شمال غزة، كان أكثر من مجرد سقف، إذ كان مرآةً صغيرةً لروتيني اليومي، لمشاعري الرقيقة، لأشغالٍ لم تكتمل، ولمتعبات تحوّلت إلى عادات متعبة.
وفي الليلة التي أُجبرت فيها على تركه، أحسست بأنّ النهاية الدرامية للأشياء تلاحقني، وانهارت سلسلة من تواريخ صغيرة جعلت مني إنساناً قابلاً للعدّ. خلال ساعات قليلة، تلاشت كل الفصول التي كُتبت عن حياتي الجديدة بعد الهدنة، وكأنني كلما حاولت بناء حجر على آخر، انهار البناء لأبدأ من جديد.
في لحظة صرت مهجّراً بلا وجهة، ومطارداً بأشباح جديدة، لا يمكنني استقبالها أو التعامل معها. صرت خائفاً من المستقبل، محاطاً بحزن لم أتعرف عليه سابقاً. لقد ساءت الحياة في نظري كأنني لم أعرفها من قبل.
إيقاع
للتهجير على هذه الشاكلة إيقاع خاص. هو ليس صوتاً فحسب، لكنه حروب متفاوتة الحجم داخل الجسد. صراعات وخطوات لا تنتهي. وكلما ارتفع صوت قنابل "الكواد كابتر" والمدافع، ارتفع صوت داخلي آخر، صوت الخسارة، الذي يهمس بلا توقّف: لقد خسرت أكثر مما تظن.
طريق النزوح هذه المرة بطعم أكثر مرارةً، فالشعور يزداد بأنني لن أعود إلى غزة هذه المرة. الهدم ينتظر مدينتي، كما حدث في رفح وخان يونس. كنت أركب في عربة السيارة الخلفية بين عفشي الصغير، وأتأمل المباني لآخر مرة، أسلّم على كل مبنى، وتنقطع يدي بعد كل سلام
نُزحتُ تحت هذا الحشد من الأصوات، حاملاً في داخلي ذكريات لا تتوقف عن نخزي. حملت أوراق العمر وضرباتها على رأسي. كان عليّ المضي مجدداً في طريق لا أحبّه. إنه طريق التهجير والتشرّد. مضيت وكأنّ النار تلحقني، حارقةً كل شيء خلفي.
حملت في يدي الألم أكثر مما حملت أغراضي. كنت أجري بأقدام تشعر بالخوف أكثر مما تشعر بالأرض. كنت أجري على الخوف ذاته، بلا وجهة أو مكان.
طريق النزوح هذه المرة بطعم أكثر مرارةً، فالشعور يزداد بأنني لن أعود إلى غزة هذه المرة. الهدم ينتظر مدينتي، كما حدث في رفح وخان يونس. كنت أركب في عربة السيارة الخلفية بين عفشي الصغير، وأتأمل المباني لآخر مرة، أسلّم على كل مبنى، وتنقطع يدي بعد كل سلام.
وصلتُ إلى دير البلح وفي فمي طعم من اللامكان. لم أجد منزلاً، لم أجد غرفةً، ولم أعد أجد مرآةً أرى فيها وجهي. سرت لساعات طويلة في شوارعٍ تبدو بلا أسماء، وارتكزت على أبواب محال تم تأجيرها للنازحين بأسعارٍ جعلت من الوصول إلى المأوى ضرباً من ضروب الخيال. أيام طويلة، وعشرات الكيلومترات، ومشاعر التيه تتكدس في صدري. أيقنت بعد اليوم الثالث للنزوح بأنني صرت مشرّداً، أمشي في الشوارع لأبحث عن ذات جديدة، مقهورة وحزينة، وغير معرّفة لدى الآخرين.
تجربة جديدة مع التيه. شعور غريب عرفت من خلاله أنّ المشرّد ليس فقط منزوع السكن، بل هو مشرّد من الحياة نفسها. الكلمات التي أستخدمها لرفض العالم أصبحت غير كافية. ألعن، أشتم، أصرخ، وأكفر بكل قناعاتي، حتى تهدأ ثورتي قليلاً. في لحظة صرت مشرّداً. صرت بلا مأوى أيها العالم.
تشكيل جديد
كان المشي في الشارع تمريناً على أشياء عديدة، كأن تحمل صوراً تخاف أن تضيع منك. كأن تحمل أباك على ظهرك محاولاً أن تنقذه من الموت. أذكر أنني أصبحت أستعيد تفاصيلٍ طفيفةً: رائحة الشاي عند الصباح، طقطقة باب كان قائماً، ضحك قصير سببته صورتي في الطفولة، حين كان الشغف طينةً أشكّلها بأصابعي كمن يعبث بـ"السلايم" (Slime).
وصلت إلى دير البلح منهكاً، وضعت مقتنياتي عند أقارب لي رحّبوا باستضافتي لوقت قصير، لكن عليً أن أبحث عن منزل أو غرفة في ذلك المربّع الذي يكاد ينفجر من كثرة النازحين. أقصد دير البلح.
وصلتُ إلى دير البلح، لم أجد منزلاً، لم أجد غرفةً، ولم أعد أجد مرآةً أرى فيها وجهي. أيام طويلة، وعشرات الكيلومترات، حتى أيقنت بعد اليوم الثالث للنزوح بأنني صرت مشرّداً.
لأشهر طويلة أنهكت المجاعة جسدي الذي صار مثل ورقة جافّة يترنح متفادياً السقوط، كي لا تدوسه الأقدام. الناس هنا لا ترى أمامها، ففي الداخل مشاهد أكثر بشاعةً من أن يلتفت الإنسان إلى من حوله، إنه التركيز في المأساة، يصنع لكل شخص في غزة سينماه الخاصة.
أغرق في ضعفي، بينما عليّ أن أتجول في الشوارع باحثاً عن مأوى يمنحني بعض الراحة. لم أحصل على راحتي أيها العالم منذ بدأت الحرب. لم أحصل على بيتي. شيء غريب أن تُنتزع الحياة مني، وتُنتهك كرامتي، وكأنّ شيئاً لم يحدث.
في الشارع أركّز في وجوه الناس، في حركاتهم، وفي إيقاع مشيهم. أتأمل عيونهم، جميعهم بلا قلوب، روبوتات تمضي نحو مصير غير معروف، وكأنّ ما يمرّون به على مدار سنتين من الإبادة، نزع من داخلهم الخطوة التالية في الحياة.
تجربة التشرد جديدة على ذهني، وعلى جسدي. المشرّد يمضي بحركة بطيئة خافتة تدلّل على الخذلان الذي يحمله داخله، كمن يمضي في طريق معتم، يخاف أن يرتطم بشيء يسقطه.
المُشرّد بلا وجهة، بلا أرض، وبلا منزل. يتسخ جسد المشرّد ويعلم بأنه لن يجد الماء ليغتسل. تتراكم التعاسة على جسده ولا يعرف كيف سيتخلص منها.
خلال رحلتي، شعرت بكلّ المشرّدين في الأرض. كنت أراهم وأشفق عليهم. أحياناً لا أكترث لهم، وأحياناً ألومهم على عدم قدرتهم على بناء حياة كريمة تقيهم حرارة الشارع الدائمة.
كنت أظنّ أنّ المشرّد يدفع ثمن استهتاره وجهله، لكن في غزة خلال الحرب، تشرّد أناس متعلّمون، وأكاديميون وأطباء ومدرّسون، وكتّاب وشعراء ومبرمجون. تم تهجيرهم من بيوتهم، وطردهم دون أي رحمة. إنهم يمتلكون المال ليعيشوا حياةً كريمةً، لكن لا منازل تستقبلهم، فجميع الخانات امتلأت أمام أعيننا. جميعها صارت صمّاء. إننا نخضع لتجربة التشرّد مرغمين. هكذا يريدنا الاحتلال: بلا بيت، بلا وطن، وبلا حياة.
العودة إلى جدار بيتي
وددت في لحظة ما أن ألغي رحلة البحث، وأمزّق صورتي الخاصة للأمان، وأعود إلى شمال غزة. جملٌ مثل "ما تحاول"، "صعب"، و"جاي متأخر"، ليست ردوداً، إنها طعنات في صدري، وصورة جديدة للواقع الذي أحياه بلا مأوى. لكن تلك العودة تعني تشرّداً آخر، فلا أستطيع ملامسة حائط منزلي المحاط بدبابات الاحتلال.
أدور والشمس تحرق وجهي كما تفعل كل الأشياء من حولي. يبدو أنها مرحلة سلخ جلدٍ لكل ما مضى من أشكال المتعة، وكسر لكل كلمة تحمل معنى في حياتي. لم أعد أنا صاحب التفاصيل ومتأمّل الجمال. لم تعد الحياة جميلةً في نظري. حتى الإنسان صار مقززاً إلى الحدّ الذي لا أطيق معه سماع حركة حذائه.
عبء
يعلّمك النزوح درساً وحيداً ومريراً: أنّ الأشياء الصغيرة هي كل ما يملكه المرء. لعبة صغيرة، قبعة قديمة، رسالة تحتفظ بها، وصورة من الطفولة، كلها تستحق التمزيق الآن، أو الحرق، فتشعر بخذلانها أيضاً وقد احتفظت بها طوال عمرك، ومن ثم تحولت إلى عبء كبير، مرهق أن تبقى مصاحباً إياه.
أريد غرفةً يا الله، لا أطيق الخيمة، غرفةً من أحجار تعدني بأنها لن تسقط على رأس أطفالي بعد قليل. لسنوات طويلة حاولت صيانة ما وهبتني. لكنني اكتشفت خلال الحرب أنّ ما نملكه مربوط بخيوط الماريونيت، يمكن سحبه من بين أيدينا في لحظة، وبغمضة عين نصبح مشرّدين
بوجه شاحب أسأل صاحب العقار: هل لديك شقة أو غرفة؟ يجيب "تم تأجيرها". بكم؟ يجيب: بـ4،000 شيكل (ألف وثلاثمئة دولار). أصمت: تييييت لكل وجودك، أقول في داخلي، وأهينه بنظرة لا أكثر، لأنه على استعداد لأن يقتلني في أي لحظة لو فعلتها لفظاً.
هذا يخبرك عن أنّ قيمة الإنسان في الحرب تتآكل مع الوقت. كل شيء يمكنه قذفك بصاروخ، لا الطائرة فحسب. كل ما حولك يبحث عن تفعيل جلطة دموية داخلك.
أريد غرفةً يا الله، لا أطيق الخيمة، ولم أصنع معها خيالاً من قبل. صرت مشرّداً بعدما كنت أعيش رفاهية الحياة. أريد غرفةً من أحجار تعدني بأنها لن تسقط على رأس أطفالي بعد قليل. لسنوات طويلة حاولت صيانة ما وهبتني. لكنني اكتشفت خلال الحرب أنّ ما نملكه مربوط بخيوط الماريونيت، يمكن سحبه من بين أيدينا في لحظة، وبغمضة عين نصبح مشرّدين.
أحياناً يتضح لي أنّ المحنة ليست في فقدان المادة فحسب، بل في فقدان الطقوس التي تربطنا بالعالم: تحضير القهوة، ترتيب السرير، وهمهمة صغيرة لا يسمعها أحد. حين تختفي هذه الطقوس، يصبح الزمن مُعتماً؛ لا تمييز بين يومٍ وليلة.
النزوح المتكرر لم يحرمني فقط من سقفٍ أو من امتلاكٍ؛ لقد غيّر طريقة رؤيتي للعالم. صار كل شيء هشّاً، كل شيء عرضةً لأن يُمحى. والوعي بهذه الهشاشة ليس نصيحةً للتشاؤم، بل دعوة للإنصات لآخرين مثلي.
أكتب هذا لأقول إنني كنتُ هنا، وإنّ لي قصةً، وإنّ من يسألني عن وجهي الآن، قد يجد فيه علامات لمأساة لا تُرى إلا عندما تختفي الأشياء المعتادة. حتى الكتابة، والبيت الدافئ، صرت أخاف في أي لحظة أن أفقدهما، وأصبح مشرّداً باحثاً عن لغة تشبهني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.