كان اليوم الأخير الذي أنام فيه داخل خيمة، صادفت صبيحة ذلك اليوم أغنيةً سقطتُ في داخلها، لم أتوقع سابقاً أنني سأسقط في بئر عميقة مثلها. عشقت أغنية أسمعها لأول مرة، لمغنيةٍ لم أعرفها قبل ذلك.
أصبحت الأغنية محفوظةً الآن في هاتفي، أسمعها كلما أردت شيئاً من الرقة، إنّ الحزن الذي تبثه الأغنية في قلبي بتمرّس وإتقان كبيرين، كفيلٌ ليجعلني أشعر بكل خلية في جسدي.
كنت مشتاقاً للبيت حينئذٍ، لشوارع حارتنا، ولأصدقائي الذين قُتلوا، إنّ هذا "أول حب" الذي كانت تقصده مها فتوني في أغنيتها بالنسبة إلي.
"أول حب عدّا علينا، صعب في يوم ننساه، يفضل واخد روحك منك، عايش على ذكراه"
أول حب... في الخيمة
أستمع لتلك الأغنية وأنا أتناول غدائي، أسمعها في الليل، في الصباح، كل مرةٍ أفهمها بشكل مختلف، أسمعها وأنا أتناول رغيفاً ساخناً، وطبقاً من الأرز، وأتذكر الشهور التي عشتها من دون ملعقة واحدة من الطحين النظيف، أتذكر كل الآباء الذين قُتلوا فوق شاحنات المساعدات، وأمام مراكز التوزيع، أتذكر اللحظة التي بكت فيها أمي في السوق لأن الأسواق فارغة، ولم نجد شيئاً نضعه على مائدة الغداء.
لقد اكتشفت من خلالها أنّ خساراتي كبيرة في هذه الدنيا، وأنني لست أعيش في الحاضر، قدر ما أعيش في ذاكرتي الأليمة، لقد كنت أحب غزة القديمة، أعني غزة التي كانت قبل الحرب، إنني أشتاق لأبو الفهد بائع الفلافل في حارتنا، وللحظة التي أشتري منه فيها أول سندويشة فلافل فــــ"يستفتح" على إثرها، وأشتاق لطلبة المدارس، لأزيائهم البراقة، وياقاتهم النظيفة، أشتاق أن أتأخر على محاضرتي، وأطلب من سائق السيارة أن يسرع قليلاً، أشتاق جامعتي، قاعة المحاضرات، وللعارض المرئي (projector) الذي يتلف عند كل محاضرة.
إنني لستُ بصحة جيدة، ولو أنني أظهرت لكم عكس ذلك، فمن سيصدق مريضاً كل ما يعاني منه أنه "فاكر كل حاجة بتفاصيلها" كما تقول مها؟
الحياة كمعادل للخسارة
صرت مقتنعاً أنني عشت لأخسر، وأن هذه الذراع التي أحملها كتب لها أن تودع، لا يقتصر ذلك على الأشخاص فحسب، أولئك الذين قبلت جباههم على النعوش، وحضرت جنائزهم ودخولهم القبر، أو أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة، ونأمل في ملاقاتهم مرةً أخرى، هذه الذراع خلقت لتودع، بينما تجيد العناق جيداً، وترغب فيه.
أستمع للأغنية طوال الوقت... وأنا أتناول رغيفاً ساخناً أو طبقاً من الأرز، وأتذكر الشهور التي عشتها من دون ملعقة واحدة من الطحين النظيف، أتذكر الآباء الذين قُتلوا فوق شاحنات المساعدات، وأمام مراكز التوزيع، واللحظة التي بكت فيها أمي في السوق لأن الأسواق فارغة، ولم نجد شيئاً نضعه على مائدة الغداء
أمتلك قلباً ملعوناً بالتفاصيل، يتعلق بها كأنها القشة الأخيرة التي تقال في الأمثال عادة، لا أعرف شكل حياتي دون الشجرة التي تقف على باب جيراننا، ومقابل نافذتي التي أقف عليها كل صباح، لا أعرف شكل حياتي دون كوب الحليب التي تعده أمي صبيحة كل يوم، دون شتلات النعناع في بيتنا، دون أن يضمني أبي إلى صدره، ورائحته الرقيقة، هذه أشياء أستيقظ من أجلها كل يوم، أنا لا أعرف لمَ سأستيقظ بعد اليوم، فإنني "فاكر كل حاجة بتفاصيلها" ولا أقوى على العيش بينما تصير هذه الأشياء محض ذكرى بعيدة، ألوّح إليها من بعيد، لا أصدق أنّها لن تظلّ جزءاً من يومي، وتذوب.
"ليه اللي حبوا مبينسوش"
تسأل مها في أغنيتها هذا السؤال، ليس ذلك مقتصراً على علاقات الحب الشخصية، عندما تكون ناجياً من إبادة جماعية يكون الأمر مختلفاً برمته، عندما تستيقظ من كابوس مدته عامان وتجد أن المدينة احترقت، وأن الأماكن التي تحمل معها معاني تذكرنا بأحبابنا الراحلين قد اختفت.
أحب جامعتي، كانت مليئة بالخضرة، الطريق الذي أقصده نحوها هو طريق لأحلامي وقلبي.
أحب شوارع مدينتنا، كانت مليئة بالطلاب أمثالي، بالسيارات النظيفة، والشرفات المرتبة.
أحب حارة بيت جدي، كانت مليئة بالمباني القديمة، والأسبطة، كأن أحداً وضع القدس هناك.
نحب أشياء كثيرة في حياتنا، من دون أن نضع أي احتمالات لخسارتها، وقد يبدو أن واحداً مثلي يمتلك سؤالاً أكثر دقةً ومشروعية، من ذلك الذي تسأله مها، لماذا نحب بهذا القدر في عالم الخسارات هذا؟
أحب حسن، صديق العائلة الذي قتلته الطائرة وهو يحضر حذاء من بيته.
أحب "ديبة" صديقي الذي قتلته شظية وهو يحضر الماء لأمه.
أحب صبحي ابن حارتنا الذي قتله صاروخ وهو يحضر بضاعة لبسطة الخضار خاصته.
أحب أحمد، ابن العائلة الذي قتله صاروخ أمام بيته، مع أخيه وأبيه.
أحب جيراننا، الذين قتلوا دفعة واحدةً وبقوا تحت الركام سنة كاملة.
أحب قلبي، الذي قُتل عندما رأى شهيداً مجهولاً على باب المشفى.
إننا نحب أشياء كثيرة في حياتنا، من دون أن نضع أي احتمالات لخسارتها، وقد يبدو أن واحداً مثلي يمتلك سؤالاً أكثر دقةً ومشروعية، من ذلك الذي تسأله مها، لماذا نحب بهذا القدر في عالم الخسارات هذا؟
سأغادر عائلتي
أمي تبكي كل يوم، من اللحظة التي عرفت فيها أن سفري قد اقترب، تتساءل: خلص هيك الدنيا بدها تاخدك مني؟ أنا أعرف أنها لا تعرف للنوم طعماً ما لم نكن جميعاً حولها، تطمئن علينا كلما استيقظت، وتغطينا جيداً، إنني أشعر بها هذه الأيام حين تستيقظ منتصف الليل، وتجلس عند رأسي، وتمسح عن وجهي النائم كدر العيش.
سوى أنني مجبر على ترك المدينة التي أصبحت مزاراً لكل سواد تعرفه الأرض، وأمي التي تحضنني بيد، تشير إليّ نحو طريق الغربة بيدها الثانية، لأنها الطريقة المثلى لأعيش حياة تشبهني، وتشبهها، وربتني من أجلها.
لا أصدق اليوم الذي أتنفس فيه هواءً لا تشاركني فيه أمي، أياً كان، سأكون يتيماً ما إن صدحت في الغربة ماما ولم يجبني أحد، سأكون يتيماً إن ناديت "بابا" ولم أجد يداً على كتفي.
إنها الساعة الأولى صباحاً، أكتب ذلك بينما أستمع لأغنية "أول حب" لمها فتوني، لصوتها الذي يحمل حزناً لا يصدق، أستمع لموسيقاها التي تحفر عميقاً في قلبي آباراً لا يمكن الخروج منها، حيث أمكنها أن تجعلني حزيناً عن كل وجع عشته، وعن كل وجع سأعيشه.
ينبغي عليّ الآن أن أقفل الهاتف لئلا يتوقف قلبي، وعلى مها فتوني أن تتوقف عن الغناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



