لا أحد في غزّة على يقين بأنّ الحرب انتهت إلى غير رجعة، لكن الأمل الذي يتسلّل هو أن تكون حرب الإبادة قد توقّفت، وتحديداً في شقّ التجويع الإسرائيلي الممنهج لأهل غزّة، ذلك التجويع الذي يعضّ أمعاء الأطفال وقلوب الأمهات. وعلى الرغم من بدء إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، لكن الأمم المتحدة تقول إنّ "الاحتياجات لا تزال هائلةً"، ما يعني أنّ المجاعة قد تحتاج إلى شهور للقضاء عليها، فيما يعيش أهل غزّة بلا طعام في الأيدي، وبلا بضاعة في الأسواق، وبلا مخزون في المطابخ والمحال، وحتى بلا مطابخ وأدوات طهي وبلا منازل في كثير من الأحيان.
"حتى اندلاع الحرب، كان المطبخ بالنسبة لي متعةً. كنت ألعب لعبة المتاهة في المطبخ، وأشعر أنني أقوم بتطبيق لعبة البيتزا التي كانت على هاتفي. أنزل إلى السوق فيتذمّر جميع من في البيت من مصروفات يرون أنه لا لزوم لها على مواد الطبخ من بهارات وصوصات. كانوا يتذمّرون أولاً ثم يتلذّذون بطعم الأكل. أما أنا، فكنت أتلذّذ بكل خطوة، من جلب احتياجات الطهي حتى وضعها وخلطها وإدخالها الفرن وتجهيزها، ثم أتذمّر من جلي المواعين. يا لها من أيام مضت ولن تعود".
خلال حرب الإبادة الإسرائيلية، لم يكن السؤال الذي يرهق النساء والأمهات في غزّة: شو أطبخ لكم اليوم؟ بل: كيف أدبّر أي إشي لأطبخ لكم؟ فكيف تغلّبن على انعدام المواد الأساسية والتجويع الإسرائيلي الممنهج؟
هكذا تصف سماح خفاجة (27 عاماً) -"أم المطبخ" كما تلقّبها والدتها- الطهي بالنسبة لها قبل اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث كانت تعدّ أصناف الطعام والحلويات، إلا أنّ "الزمن غدر لا أكثر"، على حد قولها لرصيف22، حيث لم يعد لديها مطبخ وإنما خيمة نزوح تصلح لأن تكون روايةً فيها بؤساء كثر، لا "سماح" وحدها.
تتحدث نهاد نصر، أيضاً كمثال للغزّيات اللواتي كان يرهقهنّ سؤال: "ِشو أطبخ لكم اليوم؟"، وصار سؤال: "كيف أدبّر أي إشي لأطبخ لكم؟" هو الذي يحيّرها.
بداية اختراع "ما لم تفعله من قبل"
تضيف نهاد لرصيف22: "منذ بداية الحرب، تضاعفت الأسعار كأنّ البورصة العالمية أتت إلى غزّة وارتفعت. لم أستطع توفير أي شيء لأولادي في هذا الوضع، ولكن كنت حينذاك في بيتي في رفح المدينة التي امّحت من الخريطة، وأصبحت في الشارع أبحث عن رغيف خبز وأكلة اليوم لي ولأبنائي ولزوجي المصاب بالسرطان، فاعتمدت على التكيّات حتى أغلقت أبوابها وبدأت باختراع وصفات جديدة".
بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأول في كانون الثاني/ يناير 2025، كانت إسرائيل قد بدأت بالسماح بإدخال كميات محدودة للغاية من المساعدات والبضائع إلى القطاع. وفور خرقها الاتفاق، في آذار/ مارس من العام ذاته، أوقفت حركة إدخال المواد الغذائية، وبدأ مخزون الغذاء ينفد بشكل كامل، وعاودت الأسعار الارتفاع بشكل خرافي، فضلاً عن انقطاع سلع أساسية على رأسها الدقيق، ما أدى إلى حدوث وفيات بسبب الجوع، ولا سيّما في صفوف الأطفال والكبار، الأمر الذي اضطر سماح ونهاد وغيرهما إلى اللجوء لاختراع وصفات جديدة.
في زاوية الخيمة، كانت نهاد تسترق النظرات إلى ما تبقّى من كيس الدقيق، تفكّر في طريقة لإطالة عمره أطول فترة ممكنة، وتتساءل: كيف يمكنها أن تطعم كل هؤلاء المجوّعين قسراً بهذه الكمية البسيطة في ظلّ خلوّ الأسواق منه؟
ببطاقة ثمنها 2 شيكل (أقل من دولار أمريكي واحد)، فيها رائحة الإنترنت، تلتقط منها شيئاً من الأمل بعدما وصلت لتوّها إلى أول الشارع لالتقاط الإشارة، تجد منشوراً على مجموعة فيسبوك فيها نساء من غزّة يخبرنها بأنّ الحل في توفير أكبر قدر ممكن من الدقيق بخلطه مع العدس؛ "دجاج الحرب".
"فور رؤيتي الطريقة لم أصدّقها. اعتقدت أنّ فيها شيئاً من المبالغة. وفي النهاية جرّبتها. كانت التكية المجاورة لنا حينذاك لا تطبخ إلا عدساً أو معكرونة. جلب لي ابني قصيّ، نصف طنجرة من العدس، فاغتنمت الفرصة لأنّ العدس غالي كمان"، تتابع.
وتصف لنا نهاد دهشتها في تلك اللحظات عندما أخرجت صحنَين من الدقيق وأضافت إليهما صحناً ونصف صحن من العدس، وعجنتهما معاً، مردفةً: "كنت أشعر أن يديّ تستغربان ما أعجنه، لأول مرة كان العجين أصفر. لم أفعل هذا من قبل".
"لم أعد محرجةً"
على استحياء من اللون ومخافة من أن يشمّ أحد الرائحة ويكتشف أنه خبز عدس، تسلّلت الأمّ الغزّية إلى نهاية المخيم حيث تتواجد نجوى صاحبة الفرن. حين وصلت إليها، وجدت جاراتها ينتظرن دورهنّ على الخبز، وحين كشفن عن أرغفتهنّ واحدةً تلو الأخرى، ضحكت أمّ قصيّ ضحكةً لم تضحكها منذ بداية الحرب لأنها رأت أغلب الخبز معجوناً بالعدس، فلم تعد محرجةً من ذلك. ولكنها تقول إنّ أهم ما في الأمر هو ألا يبيت الخبز أو يتأخر تناوله كثيراً "لأنه يقسى بسرعة"، أي يصبح يابساً.
من جهتها، استبدلت إيمان أبو شنار (35 عاماً)، العدس بالفاصوليا المعلّبة، حيث طحنت الفاصوليا وهرستها وأضافتها إلى الدقيق وعجنت الخليط، فحصلت على خبز أقل قساوةً من خبز العدس. تمسك رغيف العدس والفاصوليا في يديها، فتضحك نجوى صاحبة الفرن وتقول: "من كتر قساوة العدس علينا قسّى معدتنا وخبزنا ونشّف قلوبنا بهالجوع والحرب"، وتصدم الواقفات في انتظار دور الخبز بقولها: "بتعرفوا يا بنات، إمبارح إجت واحدة عاملة الخبز بإيش؟ بالبازلاء، وواحدة تانية بالمعكرونة بنفس طريقة العدس والفاصوليا". فتردّ إحداهنّ: "خسارة عالعلبة خلّيها للأولاد أطبخلهم إياها مضلّش إشي بالسوق وبيكفي هرينا معدتهم عدس ومعكرونة ودقة".
ما هي إلا لحظات قليلة حتى انضمّت أم عمار زيدان (52 عاماً)، إلى مجموعة النسوة، مع صينية كبيرة لتطهوها على سطح الفرن كغذاء للعائلة، فتسألها نجوى كعادتها: ما هي الطبخة العزيزة هذه في ظلّ الحرب، وتجيبها أمّ عمار: "بدنا نجرّب اليوم فلافل مشوي… فش زيت قلي بالسوق… والله يستر من طعمو".
ثم تسرد ماذا فعلت لتحصل على هذه "الصينية الغالية" على حدّ تعبيرها، فقد جاءت بمعلبات من البازلاء والحمص الناشف وطحنتها، وأضافت إليها مكونات بسيطةً مثل بهار دقة الفلافل والبقدونس المقطوع، وفردت الخليط في صينية وجاءت بها إلى الفرن. "بعين الله يا خالتي، هادي أكلة وقاية إلنا وللصغار من روحة المستشفى وسوء التغذية بس مش أكتر"، تضيف بحسرة.
"ماغي"... ذهب سماح المكنوز
بالعودة إلى سماح، فقد كانت الأكثر حظاً بينهنّ جميعاً، حيث كانت قد خبّأت "قبل القطعة"، مكعّبَين من مرقة الدجاج "ماغي"، ففاجأت الجميع بأنها صنعت لهم يوماً "فتّةً كذابةً"، وهي عبارة عن ماء مع مكعبَي ماغي يتم غليها على النار وإضافتها إلى خبز ناشف، وأضافت على الخليط أرزّاً كانت قد طهته للتو بعدما حصل عليه أخوها ضمن كيس مساعدات استطاع أن يظفر به ويعود حياً هذه المرة. وبنبرة انتصار، تقول: "كانت لحظات لا أنساها طول حياتي، الجيران شمّوا الريحة، فكّرونا عنّا جاج بهالمجاعة من دون كل غزّة"، ثم تضحك قبل أن تردف: "لما عرفوا إنها فتّة كذّابة حسدونا عليها كمان وحسبونا على الناس اللي فوق".
"وقاية إلنا وللصغار من روحة المستشفى وسوء التغذية بس مش أكتر"... حين غابت اللحوم وانقطع الدجاج، ابتكرت نساء غزّة "الفتة الكذّابة" و"المقلوبة الكذّابة" وخبز العدس والبازلاء وغيرها
تقصد سماح بـ"الناس اللي فوق" أي شخص يملك أموالاً طائلةً تمكّنه من جلب وجبة غذاء في الحرب، حيث تكلّف وجبة واحدة لعائلة مكونة من خمسة أفراد أكثر من 100 دولار أمريكي، مثل صديقتها ريم التي طهت "المقلوبة الكذّابة" بعد أن انتظرت حتى توفّر فُتات الخضروات في السوق وتمكّن والدها من شراء ثمرتَي باذنجان و3 حبات من البطاطا وكيس أرز بسعر جنوني وبالقليل من البهارات، استطاعت أن تخرج بشيء يُشبه المقلوبة. تضيف سماح عن مقلوبة ريم: "طبعاً بدون محرّمات أبداً حيث لا بصل ولا لقوا حتى بهار بودرة البصل أما اللحمة فشو يعني لحمة هههه".
وبالنظر إلى القول السائد: "الحاجة أمّ الاختراع"، كانت الأمّ نفسها في غزّة هي من تخترع لأبنائها لتقيهم الجوع، في ظل حالات سوء التغذية الحاد وحالات الإغماء التي ألمّت بسكان قطاع غزّة من صغيرهم حتى كبيرهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.