بثّت قناة "BFMTV" الفرنسية، فيلم "غزّة: الجوع كسلاح؟"، يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، ضمن برنامجها "خطوط حمراء" المخصص للقضايا الحساسة. طوال تسعٍ وثلاثين دقيقةً، قدّم الفريق الإعلامي ما وصفه بتحقيق صحافي حول الأزمة الإنسانية من قلب غزة، لكن ما ظهر على الشاشة أعاد إنتاج خطاب يُظهر الكارثة ويُخفي صانعها، ويعرض المعاناة ويطمس أسبابها، ويصوّرَ الضحايا ويغيّب الجلاد.
استند الفيلم إلى خمسة وعشرين مصدراً؛ ثمانية مصادر فلسطينية تحدّث أصحابها عن تجاربهم الشخصية (مثل مالك أبو رايدة وأخته وأمّه من مخيم المواصي، ومحمد أبو بلقولة، 20 عاماً، الذي أُصيب خلال محاولته الحصول على كيس من الطحين، وأحد العاملين في مطبخ في مخيم المواصي دون ذكر اسمه، وأماني أبو معمر وهي أمّ الطفل كريم، ومدير مستشفى ناصرأحمد الفرا، وأخيراً ياسر أبو شباب وهو مسؤول ميليشيا مدعومة من إسرائيل)، بينما بلغ عدد المصادر الإسرائيلية أو المؤيدة لإسرائيل خمسة عشر مصدراً، أي ضعف العدد تقريباً. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، ظهر ثلاث مرات في الفيلم، والناطق باسم الجيش نداف شوشاني ومستشار الأمن القومي السابق يعقوب عميدرور وجندي أمريكي إسرائيلي مجهول الاسم، جميعهم حصلوا على منصات مريحة كمكاتب مضاءة بعناية ومن قواعد عسكرية وفضاءات تشبه الإستوديوهات، ليعرضوا الرواية الإسرائيلية، بينما اختُزل الفلسطينيون في مشاهد المعاناة أو في شهادات مجتزأة تحدّثوا فيها عن الجوع والخوف من داخل خيام وبقايا مستشفيات منهارة وطوابير غذاء مكتظة.
الفلسطيني… فوضى وجوع
يختزل الفيلم الحياة الفلسطينية في مشاهد قاسية من كارثة إنسانية متواصلة. أطفال هزيلون يتضوّرون جوعاً، ورُضّع يحتضرون بسبب فقدان الحليب، وطوابير طويلة مكتظة من"الغزّيين" ينتظرون المساعدات، ورجال يحملون أكياس طحين وزنها 30 كيلوغراماً ويمشون فوق حطام المنازل والشوارع، ومسلحون يخطفون شاحنات الغذاء، وعربات تجرّها الحمير تنقل الجرحى والقتلى معاً، وطفل يكشط ما تبقّى من الطحين عن الأرض المتسخة. اعتمدت الكاميرا بشكل روتيني على اللقطات الواسعة والطويلة، وحوّلت الفلسطينيين إلى كتل بشرية وحشود من البؤساء. وعندما تقترب الكاميرا، يُؤطَّر الفلسطينيون في مشاهد الألم والجوع والدمار بمعزل عن الانتماء إلى قضية وحق مشروع وتقرير مصير. جُرّد الضحايا من أيّ بعد أو مكانة سياسية ومجتمعية.
اعتمدت الكاميرا بشكل روتيني على اللقطات الواسعة والطويلة، وحوّلت الفلسطينيين إلى كتل بشرية وحشود من البؤساء، ووضعتهم في إطار مشاهد الألم والجوع والدمار بمعزل عن الانتماء إلى قضية وحق مشروع وتقرير مصير
يبدأ الفيلم بمشهد مالك أبو رايدة، 17 عاماً من مخيم المواصي وهو يحاول الحصول على كيس من الطحين لعائلته المكوّنة من 7 أفراد، ثم ينبّه الفريق الصحافي إلى أنّ مصوّره لم يرافقه "لأسباب أمنية". تكشف هذه الجملة خللاً في وظيفة الإعلام الغربي الذي يتقاطع مع السياسة الإسرائيلية في التستر على حقيقة ما يجري أو في البقاء تحت السقف المسموح به من سلطات الاحتلال. الفلسطينيون مُجبرون على توثيق واقعهم بأنفسهم في غياب صحافيين محترفين يتولّون مهمة التوثيق، ويتحول الضحايا إلى موثّقين لمعاناتهم وبدائل اضطرارية عن الإعلام الغائب. يتجاهل الفيلم أسباب غياب الصحافيين المستقلّين والأجانب عن متابعة ما يجري، ولا يجرؤ على قول إنّ إسرائيل تمنع دخولهم إلى قطاع غزة في أثناء حرب الإبادة ووقت الحصار لحجب الحقيقة، وتقديم الرواية الإسرائيلية كمرجع وحيد للرأي العام الغربي، متذرعةً بحرصها على حياة الإعلاميين، مع العلم أنّ أكثر من مئتَي منظمة ووسيلة إعلامية معنية بحرية الصحافة، طالبت بفتح قطاع غزة فوراً أمام الصحافيين الأجانب وتمكينهم من الوصول المستقل وغير المقيّد إلى ساحات الحرب في قطاع غزّة وفقاً لـ"مراسلون بلا حدود" (RSF)، ولجنة حماية الصحافيين (CPJ).
في الدقيقة 02:45، يقدّم الفيلم الوثائقي لقطات متوسطةً لمجموعات من الرجال الفلسطينيين يحملون سكاكين كبيرةً ويرفعون جثة رجل قُتل في أثناء محاولته الوصول إلى شاحنة المساعدات، ثم تتحوّل الكاميرا فجأةً إلى لقطة قريبة لقدمَي الرجل الميت الحافيتين، والمعفّرتين بالطحين، والممدّدتين بلا حراك، ثم يُترك وحيداً على الأرض بينما تُطيل الكاميرا النظر إلى قدميه، مختزلةً الإنسان إلى عنوان للفوضى والجوع... ودون تعليق صوتي.
بعد المشاهد الصاخبة التي تُظهر الرجال في حالة فوضى وتدافع، ينتقل الوثائقي إلى لقطات أكثر هدوءاً، فيقدّم أطفالاً يقفون في طوابير مكتظة في انتظار حصولهم على وجبة تساعد في بقائهم على قيد الحياة. أطفال يحملون الأواني والطناجر ويتسابقون على الدور في الحيّز الضيّق. تهدأ حركة الكاميرا ويصبح المشهد أكثر بطئاً وهدوءاً، ويتراجع التوتر الذي ملأ المشاهد السابقة. عند الدقيقة 03:33، ينتقل الوثائقي إلى سلسلة من اللقطات الواسعة والثابتة أو المتحركة ببطء، فيُظهر أحياء كاملةً من غزة وقد تحوّلت إلى ركام؛ مبانٍ منهارة، إسمنت مسحوق، وقضبان حديدية ملتوية وقد أصبحت معالم من لوحة الدمار. تستخدم الكاميرا زوايا عاليةً ولقطات بعيدةً تركّز على حجم الدمار لا على وجود البشر، لتقدّم صورةً مطلقةً للدمار.
الإبادة كأنّها كارثة طبيعية... تجاهل المعتدي
في الدقيقة (03:38)، تظهر خريطة لقطاع غزّة وحده: خطوط نظيفة، شريط محدود، بلا صلة مرئية بالضفة الغربية أو القدس أو المعابر المصرية. وكأنّ غزة لا يربطها رابط سياسي وديمغرافي وتاريخي مع الضفة الغربية. هذا التأطير يعزّز سرديةً تُظهر الحرب وكأنها كارثة طبيعية، وليست نتاجاً لسياسات استعمارية أوسع تتضمن الحصار والاحتلال وتفتيت الجغرافيا وتفكيك المجتمع وفرض نظام أبارتهايد.
من خلال وصف توزيع المساعدات بأنه "إطعام لحيوانات خطرة"، يعطي الفيلم شرعيةً ضمنيةً لوجود الدبابات والأسوار الشائكة والمراقبة العسكرية المسلحة.
اللغة المستخدمة في وثائقي "غزّة: الجوع كسلاح"، تكشف إصراراً على تجاهل الفاعل السياسي للإبادة، وإذابة المسؤولية المباشرة عن القتل والتدمير، من خلال الاستخدام المتكرر للصيغ المحالة إلى مجهول، مثل: "دُمّرت 92% من المساكن في قطاع غزة"، و"دُمّرت البنى التحتية والأراضي الزراعية"، أو "تعرّضت مربعات سكنية كاملة للدمار". يُحوّل حصاد حرب الإبادة إلى كوارث طبيعية بلا فاعلين محددين، بدلاً من تقديم إسرائيل بوصفها قوةً محتلةً أخذت قرارات سياسيةً وعسكريةً بتحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للعيش والحياة، وهو ما أشارت إليه يولي نوفاك، المديرة التنفيذية لمنظّمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بيتسيلم"، بالقول: "بلدنا يرتكب إبادةً جماعيةً في قطاع غزّة، وقد حوّل جيشنا تصريحات المسؤولين عن المحو والموت إلى خطّة، وشرع في تنفيذها". الفيلم لا يقترب من آراء هذا النوع من الإسرائيليين الذين يقولون الحقيقة، ويظلّ أسير رواية تتجاهل مرتكب الإبادة في الوقت الذي يَعرض فيه نتائجها الكارثية ويقدّم إسرائيل كجهاز عسكري تقني ينفّذ عمليات أمنيةً أو لوجستيةً، ويعمل تحت مسمّيات مؤسسية مثل "السلطات الإسرائيلية".
على امتداد الفيلم، لا تُذكر هوية الفلسطيني سوى ثلاث مرات، إحداها على لسان بنيامين نتنياهو نفسه، ونادراً ما يرد اسم "فلسطينين" في السرد الصحافي إذ يُستبدل بـ"غزّيين" أو "سكان غزة"، وهو استبدال يجرّد الفلسطيني من هوية لها مضمون سياسي، ويحوّل الفلسطينيين من شعب له قضية وحقوق إلى جماعة بشرية تعاني من كارثة إنسانية. سرد يختزل القضية إلى مأساة إنسانية منزوعة من سياقها السياسي والحقوقي كما يرغب المعتدي. خطاب الفيلم يتشابه مع التغطية الإعلامية الفرنسية للحرب على غزة كما رصده تحليل جريدة لوموند: "مئة يوم من الحرب في غزّة"، الصادر في 15 كانون الثاني/ يناير 2024، في أنسنة العنف عبر إطاره الإغاثي، وتحويل الفاعلين إلى كيانات مجهولة أو مؤسسية، وتجريد المشهد من سياقه السياسي والجيوسياسي الأوسع.
في المقطع المصوَّر بين الدقيقة 09:21 و09:58، ينتقل الوثائقي بشكل مفاجئ من مشاهد داخل خيام المهجرين في المواصي إلى مشهد مصوَّر في معبر كرم أبو سالم، حيث يظهر عدد من الصحافيين وهم يتبادلون الأحاديث والضحكات مع جنود إسرائيليين. يطغى على اللقطات جوٌّ لطيف ومألوف، إذ يبدو الصحافيون مرتاحين ومتفاعلين ودّياً مع الجنود الذين يرتدون الزيّ العسكري وتغطي الأقنعة وجوههم حفاظاً على سرّيتهم وكأنهم يتوحدون مع المعتدي! يظهر في المشهد كلب، أضفى لمسةً حميميةً على المشهد، في الوقت الذي استخدمت فيه موسيقى إيقاعية عززت أجواء من الألفة متناقضةً مع الصور السابقة من داخل غزة التي يغلب عليها الرعب والفوضى والصمت.
انهيار النظام الإنساني ونهب الشاحنات
يعرض الفيلم مقاطع مصوّرةً تُظهر رجالاً مسلّحين بعضهم مقنّع، وآخرون يرتدون ملابس مدنيةً عاديةً وهم يتسلّقون شاحنات، ويهددون السائقين بسلاحهم، ويستولون بالكامل على الشاحنات. مشهد رعب مقرون بشهادة "جيروم غريمو"، من منظمة "أطباء بلا حدود" (MSF)، التي تفيد بأنّ 97 شاحنةً من أصل 104 شاحنات تمت سرقتها في ذلك اليوم، ويقول إنّ السبب في عرقلة توزيع المساعدات الإنسانية يعود لعصابات فلسطينية داخلية، لكن الفيلم لا يربط الفوضى بانهيار النظام السياسي والإداري الفلسطيني بعد التدمير المتعمد للبنية التحتية والمؤسسات المدنية، وبعد استخدام إسرائيل الغذاء والدواء كسلاح، سواء بمنع الكميات التي يحتاجها الناس أو بخفضها، أو بسبب التأخير الناجم عن إجراءات التفتيش الإسرائيلية التعسفية أو بسبب قيام مجموعات من اليمين الإسرائيلي الفاشي بمنع مرور الشاحنات أو إفراغها قبل دخولها أراضي القطاع. بهذه الطريقة، يُحوِّل الوثائقي أزمة المجاعة إلى سردية انهيار داخلي، تُخفي وراءها سياسة التجويع المتعمدة التي أفضت إلى الموت جوعاً أو الهزال والإصابة بالأمراض كما قالت المؤسسات الدولية.
في الدقيقة 16:55، يُقدّم الفيلم مقابلةً هاتفيةً مع ياسر أبو شباب، كـ"زعيم عصابة" متّهم بسرقة المساعدات الإنسانية، ويعرّف الصحافي نفسه بالعربية قائلاً: "أنا يهودي، إسرائيلي، وأعمل مع BFMTV الفرنسية". يُبرز هذا المشهد التحكم الإسرائيلي في الوصول إلى المصادر الفلسطينية، حيث يتمكّن الصحافي من إجراء المقابلة فقط بعد تفعيل وساطة إسرائيلية مع متعاون. أبو شباب ينفي تهمة الاستيلاء على شاحنات المساعدات، لكنه يقدّم نفسه كمتعاون مع الاحتلال "لدحر إرهاب حماس من قطاع غزة".
يتجاهل الفيلم أسباب غياب الصحافيين المستقلّين والأجانب عن متابعة ما يجري، ولا يجرؤ على قول إن إسرائيل تمنع دخولهم إلى قطاع غزة في أثناء حرب الإبادة ووقت الحصار لحجب الحقيقة
ينتقل الوثائقي في الدقيقة 30:40، إلى سلسلة من اللقطات المتوسطة التي تتحرك ببطء، وتُظهر طفلاً في السابعة منحنياً على الأرض، يجمع الطحين بيديه المرتجفتين بعد اندلاقه على الأرض واختلاطه بالرمل. ينحني من حوله فتيان وشبان آخرون، يحاولون جمع ما يمكنهم من الطحين الممزوج بالرمل في أكياس بلاستيكية صغيرة أو حتى في راحات أيديهم. الطحين، الذي ظهر في لقطات سابقة، يُحمَل في أكياس تزن 30 كيلوغراماً على ظهور الرجال وسط حشود متدافعة، وقد أصبح من نصيب الأقوياء فحسب، بينما لا يجد الضعفاء حصةً منه وإن وجدوا فقد يندلق على الأرض. هذا التحول من طعامٍ يُفترض أن يتوافر للجميع، إلى طعام للاقوياء والعصابات، فإلى بقايا على الأرض، يجسّد بشكل درامي انهيار النظام الإنساني بأكمله.
استعارة "السفاري" وتجريد الفلسطيني من إنسانيته
قال الصحافي الإسرائيلي نير حسون، في مقابلة للوثائقي: "لمدة 78 يوماً لم يكن هناك طعام في غزة، أليس كذلك؟ ثم يُعلن أن هناك أربعةً أماكن يمكن للناس أن يحصلوا منها على الطعام مجاناً، إنه أشبه بإطعام حيوانات خطرة في سفاري: تُكدّس الأطعمة خلف الحواجز، ويدخل الناس ليأخذوا ما يستطيعون ثم يفرّون".
بالرغم من انتقاد حسون للسياسات الإسرائيلية التي تستهدف المدنيين في قطاع غزة، فإنّ الوثائقي وظّف اقتباسه الساخر بطريقة منحت المشاهد معنى معاكساً تماماً، فقد عُرضت كلماته على خلفية مشاهد لآلاف الفلسطينيين الجائعين (بتاريخ 26 أيار/ مايو و10 حزيران/ يونيو)، وهم يقفون خلف الأسلاك الشائكة أمام مراكز توزيع للمساعدات وبدت اللقطات وكأنها تجسيد مباشر لتشبيهه "السفاري"، وبذلك كرّست إنتاج المنظور الاستعماري الذي يصوّر الفلسطينيين ككائنات همجية تُدار وتُراقَب، وتجرّد من إنسانيتها. ويحمل مصطلح sauvage في المعجم الاستعماري الفرنسي إيحاءات البدائية وغياب التحضّر ويوضح فيليب ديسكولا 2004، أن تصنيف الشعوب المستعمرة كـ"غير متحضّرة" و"بدائية" يجعل الفوضى التي تُنتجها القوى الاستعمارية تنسب إلى "طبيعة" السكان، لا إلى ظروفٍ مفروضة عليهم.
هذا التأطير يعزّز سرديةً تُظهر الحرب وكأنها كارثة طبيعية، وليست نتاجاً لسياسات استعمارية أوسع تتضمن الحصار والاحتلال وتفتيت الجغرافيا وتفكيك المجتمع وفرض نظام أبارتهايد.
ومن خلال وصف توزيع المساعدات بأنه "إطعام لحيوانات خطرة"، يعطي الفيلم شرعيةً ضمنيةً لوجود الدبابات والأسوار الشائكة والمراقبة العسكرية المسلحة. الفيلم يوحي بأنّ الفلسطينيين كائنات خطرة وسلوكهم يشكّل تهديداً، وتالياً فإنّ فرض السيطرة الصارمة أمر ضروري. كما يقدِّم الفيلم الفوضى بوصفها تخصّ هذا الصنف من البشر، وليست نتيجةً لسياسات التجويع والحصار الممنهج والحرب. بهذه الطريقة، تتحول الاستعارة إلى أداة تبريرية تُعيد إنتاج المنطق الأمني ذاته الذي يشرعن العنف تحت غطاء "إدارة الأزمة" ويغيب دور الصحافة المفترض في مساءلة من صنع الفوضى.
من داخل برج دبابة
المشهد المصوَّر في الدقيقة 35:41، من داخل برج دبابة إسرائيلية، كانت مهمتها "التأكد من بقاء "الغزّيين" داخل المسارات المحدّدة للوصول إلى مركز التوزيع"، يظهر المدنيين الفلسطينيين كنقاط صغيرة مبعثرة تتحرك على طول المسارالمحدّد مع خلفية خضراء تبدو كأنها خلفية لعبة فيديو، ويرافق المشهد صوت الجندي الذي لم يفصح عن اسمه لأسباب أمنية قائلاً: "لا أتذكر التاريخ بالضبط، لكنني أتذكر يوماً كان مخيفاً جداً، لأننا مرةً أخرى لم تكن لدينا أي وسيلة لمعرفة ما إذا كانوا مسلّحين أو ما هي نواياهم. لقد تجاوزوا الخطوط وبدأوا بالركض نحونا، فبدأنا بإطلاق طلقات تحذيرية بالقرب منهم، لكنهم لم يتوقفوا عن التقدّم. لذلك أطلقنا النار على بعضٍ منهم عند نقاط الدخول، وعندما أدركوا أننا جادّون ولا نريدهم أن يواصلوا التقدّم نحونا، عادوا إلى مواقعهم في الصف".
في ختام الوثائقي، تتجلّى ذروة السرد الإنساني المجرّد: دمار شامل بلا سياق، وصمت بصري يُقدَّم كحقيقة نهائية. الكاميرا تُحلّق فوق الركام، تُسطّح المشهد وتُفرغه من الفاعلين، وكأنها كارثة طبيعية، وكأنه لا يوجد قرار سياسي بحرب إبادة. هكذا يُعاد إنتاج المأساة الفلسطينية كأزمة إنسانية محضة، يُختزل فيها الفلسطيني إلى ضحية، بلا تاريخ ولا حقوق ولا احتلال يجثم فوق أنفاسه. في هذا الإطار، يصبح "الغزّاوي" رمزاً للمعاناة المتكرّرة، وتتحوّل اللغة البصرية إلى أداة لإخفاء البنية الاستعمارية تحت قشرة التعاطف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



