تنتهي حرب لتبدأ حروب أخرى

تنتهي حرب لتبدأ حروب أخرى

رأي نحن والتنوّع

الجمعة 14 نوفمبر 20256 دقائق للقراءة

بعد كل حرب تنتهي، أقول: "لا تنتهي الحرب بوقف إطلاق النار". ففي اللحظة التي ينخفض فيها صوت الطائرات والمدافع، يرتفع على الجانب الآخر صوت الجوع والقهر والحرمان، وهكذا يستمرّ موت الناس ولكن في الخفاء. تقتلهم الذكريات داخل خيمهم، وفوق ركام بيوتهم، ويبارزون الزمن دون سيوفٍ في طوابير التكيّات فلا يخرجون إلا منهزمين، بينما يخطو معهم القهر والانتظار والذنب في كلّ خطوة، حتى تصير العودة إلى أيّ شيء درباً مستحيلاً.

لذلك، عندما يتم الإعلان عن انتهاء حرب تبدأ حروب أخرى خفيّة. حروب أكثر ضراوةً وعنفاً، تسلب من الناس ما لم يستطع سلبهم إيّاه الجنود ببنادقهم وأسلحتهم المتطورة. 

حروب شخصية تُخاض في صمتٍ شديد، بعيداً عن عيون الكاميرات وشاشات الأخبار وتراندات منصات التواصل الاجتماعي، وتُحوّل الناس إلى أشخاصٍ آخرين مجهولين تماماً بالنسبة لأنفسهم ولغيرهم أيضاً.

حرب لاستعادة المعنى

بعد انتهاء الحرب، تبدو الأشياء وقد فقدت معانيها القديمة إلى الأبد، لتبدأ بذلك حرب معانٍ لا يمكن الخروج منها بانتصار. حرب مع واقعٍ خالٍ من مفردات: البيت، الحارة، والشارع، وممتلئ بمفردات: الخيمة، النزوح، والمساعدات، فيعيش الناس بذلك بين لغتَين: لغة ما قبل الحرب، ولغة أخرى جديدة وغريبة تماماً يتحوّل فيها كلّ ثابت إلى مؤقت، وكلّ مألوف إلى غريب.

وهكذا يخوضون حرباً يوميةً لاستعادة المعنى، في محاولة بائسة لجعل الأشياء تشبههم مرةً أخرى، أو ليقنعوا أنفسهم بأنّ الحياة يمكن أن تستمر برغم نقصان معناها، وعلى الرغم من أن الحياة تستمر كما العادة، إلا أنها تتوقف إلى الأبد في دواخلهم ولا تعود ممكنةً استعادتها مهما مرّ الزمن. 

حرب الانتظار الطويل

بعد أن يكون الانتظار في الحرب مرهوناً بانتهائها، يتحوّل بعد الحرب إلى حياةٍ كاملة تُقاس بالوجع والأخبار المؤجلة إلى الأبد، ليصير الانتظار بحدّ ذاته حرباً أخرى لا تنتهي، تخوضها الأمهات المنتظرات على عتبات البيوت أملاً في خبرٍ واحدٍ عن الابن المفقود، والزوجات اللواتي يقنعن أنفسهنّ بأنّ الأزواج يعرفون طريق البيت، ولا بدّ سيُفتح الباب يوماً ما. بينما يتأمّل الناجي الوحيد من العائلة الركام وقد تهيّأ له رجلاً يمكن هزيمته ليخرج الأهل من الأسفل سالمين، فلا الركام ينهزم، ولا يعود من أصبح أشلاءً، لتستمر بذلك حرب الناجين مع الانتظار الذي لا يتوقّف.

بعد أن يفرح الناس ببدء تطبيق وقف إطلاق النار ظنّاً منهم أنّ الحرب انتهت، لماذا يرتفع صوت الجوع والقهر والحرمان، ويستمرّ موتهم ولكن في الخفاء؛ تقتلهم الذكريات داخل خيمهم، وفوق ركام بيوتهم، ويبارزون الزمن دون سيوفٍ في طوابير التكيّات فلا يخرجون إلا منهزمين؟ 

حرب التفاصيل التي تكبر

بعد أن يهدأ كلّ شيء، تعود المشاهد القاسية التي عايشها الناس خلال الحرب لتصبح أقرب وأكبر، تزورهم في أحلامهم ويرونها في تفاصيلهم اليومية وكأنها حدثت للتوّ، فالمساء مرتبط بمجزرة كانت قريبةً، والصباح تحوّل إلى كابوس خوفاً من أخبارٍ تأتي فجأةً عن موت الذين يحبونهم. أما ساعات الظهيرة، فيتحوّل هواؤها العليل فجأةً إلى نزوحٍ جديدٍ لا يتوقف.

وهكذا تتحوّل الذاكرة -بعد الحرب- شيئاً فشيئاً إلى سجن لا أمل في الخروج منه، حتى أن كل محاولات الهروب يعود بعدها الأسرى صاغرين إلى محبسهم، ويقدمون اعتذاراً لذاكرتهم ولواقعهم وربما لحربهم أيضاً. 

حرب مع النجاة

عدم الموت في الحرب -أياً كانت- يبدو ظاهرياً أنه نجاة، وقد يكون كذلك فعلاً، ولكن هذه النجاة لا تكون خلاصاً أبداً، فأولئك الذين حالفهم الحظّ ولم يموتوا بصاروخ طائرة أو رصاصة طائشة، يحملون على أكتافهم أعباء لا تُعدّ ولا تُحصى، وتدور في داخلهم حربهم الصامتة مع الذنب، برغم أنه ليس ذنبهم على الإطلاق، إلا أنهم يشعرون بالذنب كما لو أنهم كانوا شركاء في القتل! 

يسيرون بين الناس وفي داخلهم خرابٌ لا ترمّمه الأيام، بينما تذكّرهم كلّ لحظة تمرّ بأنّ النجاة ليست حياةً جديدةً، بل امتداد لصرخة قديمة لا تتوقف، أو موت أقل صخباً وليس أقلّ وجعاً.

حرب مع العودة

في الحروب السابقة -أقصد الحروب التي لم ترافقها إبادة جماعية- كان مصطلح العودة ذا معنى، فما إن تنتهي الحرب حتى يعود الناس إلى ما يحبّون؛ بيوتهم، أعمالهم، أماكنهم المفضلة، وحياتهم الماضية. 

بعد انتهاء الحرب، يخلو الواقع من مفردات البيت، الحارة، والشارع، ويمتلئ بمفردات الخيمة، النزوح، والمساعدات، فيعيش الناس بذلك بين لغتَين: لغة ما قبل الحرب، ولغة غريبة يخوضون معها حرباً يوميةً لاستعادة المعنى

أما حرب الإبادة هذه، فقد جعلت العودة مجرّد حلمٍ لا يمكن تحقيقه أبداً، إذ لم تعد العودة ممكنةً، وهنا يتحوّل الأمر إلى حرب خفية مع حياةٍ لا يمكن العودة إليها، ليضطرّ الناجون في نهاية الأمر إلى الاعتياد، ومع مرور الوقت تسير حياتهم الجديدة على أساس أن لا عودة إلى ما سبق. ومع كثرة نزوحهم من مكانٍ إلى آخر خلال الحرب، قد لا يحلمون بالعودة إلى البيت، بل إلى الخيمة الأفضل والأوسع، وإلى المخيم الذي يقع بالقرب من مركز توزيع مساعدات، لا بالقرب من الأهل والجيران والحارة القديمة.

حرب الأحزان المؤجلة

عندما تتوقف الإبادة، يبدأ الناس بحصاد أحزانهم التي لا تنتهي، فتتجلى أمامهم الخسارات ساخنةً كرغيفٍ خرج من الفرن للتو، فالدموع ما زالت طازجةً، والحزن لا يتوقف عن الغليان، بينما كلّ حديثٍ يُنجب خسارةً جديدةً، وكل قولٍ مرتبط بفقدٍ ما، ليصير الكلام بذلك إبادةً أخرى تتجدد يومياً وبشكل مستمر، كما لا يمكن الهروب منها في أيّ حالٍ من الأحوال، فلا الحظّ يُنجي ولا الوقت يفيد.

يشبه الأمر أن تتذكر بعد نسيانٍ طويل. فلماذا لم يخرج الأخ من السجن؟ وأين ذهب البيت الذي كان ينير الحارة كلها بواجهته؟ ومتى تحولت غزة بالضبط إلى مدينة أشباح؟ وهل كانت الحارة من هذا الاتجاه أو من ذاك؟ وكيف بالتحديد خسرنا كلّ ذلك؟ ومتى؟ كلها أشياء تستحق الحُزن بشكلٍ يومي وإلى الأبد.

لذلك كلّه، بعد أن يفرح الناس ببدء تطبيق وقف إطلاق النار ظنّاً منهم أنّ الحرب انتهت، يجدون أنفسهم أمام حروبٍ أخرى لا تتوقف مع مرور الزمن، ولا يمكن النجاة منها مهما امتلكوا من مهارات المراوغة، خصوصاً أنها حروب فردية تعاش بصمتٍ وتقتل ببطء، وقد تكون خفيةً لا يمكن رؤيتها إلا من قِبل صاحبها، فتجرحه بسكّينها ليل نهار دون أن تسيل منه نقطة دمٍ واحدة، وهذا ما يجعل النجاة ذنباً لا حظّاً، وحياة ما قبل الحرب حلمٌ لا حقيقة يمكن العودة إليها. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image