هل أطلقت الولايات المتحدة يد إسرائيل لحرب جديدة في لبنان؟

هل أطلقت الولايات المتحدة يد إسرائيل لحرب جديدة في لبنان؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 24 نوفمبر 202514 دقيقة للقراءة

لم تعد الضربات الإسرائيلية على لبنان مفاجئة، على الأقل ليس كماً، ومع هذا فهناك ضربات "نوعية" مصحوبة بتصريحات إعلامية ما زالت قادرة على تغيير دفة التحليلات السياسية في محاولة استشراف المستقبل اللبناني القريب. 

حشود من المدنيين وعناصر الدفاع المدني أمام مبنى في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، غارة جوية إسرائيلية قوية ذكرت الجميع بحسب شهود عيان بتلك التي استهدفت الأمين العام السابق لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله، وبالفعل جاءت الأخبار لتؤكد أن المستهدف هو رقم كبير في الحزب. وأن إسرائيل تمكنت من اغتيال قائد الأركان في الحزب هيثم علي الطبطبائي في ضربة 23 تشرين الثاني/ نوفمبر بعد محاولتي اغتيال سابقتين.

يعتبر الرجل الثاني في الحزب بعد أمينه العام، نعيم قاسم، هو أحد أبرز العقول العسكرية وواحد من الضباط الذين أسهموا في تطوير وحدات النخبة، برز اسمه خلال الحرب السورية بعد مشاركته في عدد من الجبهات المحورية، ثم تولّى لاحقاً تنسيق انتشار قوات الحزب في الجنوب السوري، في محاولة لترسيخ وجود ميداني طويل الأمد هناك. كما يُنظر إليه باعتباره أحد المسؤولين عن إدارة "حرب الإسناد" التي خاضها "حزب الله" لدعم حركة حماس والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر.

بعد الاغتيال الذي طال القيادي فؤاد شكر، تضاعف الاهتمام الإسرائيلي بطبطبائي باعتباره الشخصية الأقدر على إعادة تنظيم الذراع العسكرية. فعقب اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، تسلّم المهام الميدانية الأوسع داخل الجهاز العسكري للحزب.

واشنطن تطلق يد إسرائيل في لبنان

لكنّ ثمّة تغيراً ما، فقد كشفت تقارير إسرائيلية وأمريكية عن رسائل أميركية من واشنطن تمنح إسرائيل "ضوءاً أخضر" للتصعيد ضد أهداف في لبنان، مقابل تهدئة جبهة غزة خلال الهدنة الحالية. وبحسب هيئة البث الإسرائيلية، فقد وافقت الولايات المتحدة "ضمنياً" على شنّ إسرائيل عمليات عسكرية محدودة في جنوب لبنان كجزء من تفاهمات إنهاء حرب غزة، لكنها اشترطت عدم توسع الهجمات إلى عمقه الجغرافي كالعاصمة بيروت، قبل دخول المرحلة التالية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة! 

فهل يعني هذا "الضوء الأخضر" -عملياً- أن واشنطن وافقت على تغيير قواعد الاشتباك السابقة؟ فبعدما كانت الولايات المتحدة تُحذّر من فتح جبهة ثانية مع "حزب الله" أثناء حرب غزة، باتت اليوم أكثر مرونة تجاه التصعيد في لبنان شريطة عدم انفلات الأمور إقليمياً. في كل الحالات، فهذا التحول -إن صحّ- يوازن بين إرضاء واشنطن سياسياً وتعزيز مكاسب حكومة بنيامين نتنياهو داخلياً، حيث يسعى الأخير لإبقاء جبهات التوتر مشتعلة بما يخدم أجندته ويشتت الانتباه عن أزماته القضائية. 

كشفت تقارير عن رسائل أميركية من واشنطن تمنح إسرائيل "ضوءاً أخضر" للتصعيد ضد أهداف في لبنان، بينما صرح مسؤول أميركي بأن إسرائيل لم تطلع واشنطن مسبقاً على ضربة الضاحية الجنوبية بل بعد تنفيذها، وفي الحالتين لبنان أمام سيناريوهات صعبة جداً، فما هي؟

ما يقوله الواقع شديد الوضوح هو التالي: إسرائيل استغلّت الهدنة في غزة لتركيز جهودها العسكرية والاستخبارية شمالاً. فمنذ سريان وقف النار مع "حزب الله" قبل نحو 11 شهراً، لم تتوقف قواتها عن الخروقات، واستهداف مواقع الحزب في جنوب لبنان وشرقه بشكل شبه يومي. وبحسب الإعلام الإسرائيلي فقد استهدف الجيش الإسرائيلي مخازن أسلحة ومنصات صواريخ وطرق تهريب في الجنوب والبقاع، إضافة إلى القيادات. لكن الاغتيال الأخير يعدّ تصعيداً خطيراً يعيد رسم الخطوط الحمراء، إذ لم تشهد بيروت ضربات جوية منذ أشهر ما قبل الهدنة. 

هذا في حال صدقت الأخبار التي تقول إن واشنطن كانت على علم بالضربة، أما إذا تتبعنا الخيط الثاني الذي صرح به مسؤول أميركي رفيع المستوى لموقع "أكسيوس" الإخباري، حين قال إن إسرائيل لم تطلع واشنطن مسبقاً على الضربة التي نفذت في الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي أكد أن الإدارة الأميركية أخطرت فقط بعد تنفيذ الغارة مباشرة، فسنصل إلى نتيجة مغايرة. 

فإما أن الولايات المتحدة الأمريكية باتت عاجزة عن لجم إسرائيل عن لبنان، أو أن طبيعة الضوء الأخضر تعني ببساطة الإبلاغ فور وقوع الضربة وليس قبلها، تحاشياً للمسؤولية السياسية أو القانونية.  

سيادة لبنان بين الداخل والخارج 

هذا الاعتداء بالذات تزامن مع عيد الاستقلال اللبناني، مما ضاعف من حساسية وقسوة الرسالة التي تلقاها اللبنانيون بأن سيادة وطنهم مستباحة حتى خلال هدنة معلنة.  كما أثار التحول الأميركي سواء بالموافقة المسبقة أو الضمنية الواسعة، استياء واسعاً في لبنان، لا سيما وأنه جاء بعد أسبوع من زيارة قائد الجيش لواشنطن.

من جهته، ندد الرئيس اللبناني جوزيف عون بقصف الضاحية الجنوبية مؤكداً أن إسرائيل لا تأبه بالدعوات الدولية المتكررة لوقف اعتداءاتها على لبنان. وأوضح بيان الرئاسة أن إسرائيل ترفض تطبيق القرارات الدولية وكل المبادرات الهادفة لوضع حد للتصعيد وإعادة الاستقرار ليس فقط في لبنان بل في المنطقة بأكملها. كما دعت الرئاسة المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤوليته والتدخل بقوة وجدية لوقف الاعتداءات على لبنان وشعبه منعاً لأي تدهور يعيد التوتر إلى المنطقة. 

لكن تحقيق ذلك "الحلم" يصطدم بواقع موازين القوى الداخلية والخارجية: فالجيش اللبناني عاجز عن فرض سيطرته جنوباً من دون إشعال مواجهة داخلية مع "حزب الله"، والحزب بدوره لن يسلم سلاحه طوعاً وهو يرى إسرائيل تهاجم أراضي لبنان يومياً. هكذا يصبح التناقض جلياً في موقف واشنطن التي تدفع نظرياً نحو نزع سلاح الحزب وبسط سلطة الدولة، لكنها في الوقت نفسه تمنح إسرائيل الضوء لقضم تلك السلطة بانتهاك الحدود. 

تزامن الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية مع عيد الاستقلال اللبناني، مما ضاعف من حساسية الرسالة التي تلقاها اللبنانيون بأن سيادة وطنهم مستباحة حتى خلال هدنة معلنة. 

هذا ما يراه معهد واشنطن للسياسات في ورقة تحليلية حول الأزمة اللبنانية، إذ تشير الورقة إلى أن الجيش اللبناني وجد نفسه مقيّداً بين نارين: ضرورة حفظ السيادة والرد على الخروق الإسرائيلية من جهة، وتجنب الانجرار إلى حرب غير متكافئة مع إسرائيل أو صدام أهلي مع جمهور الحزب من جهة أخرى. ومما يفاقم الحرج أن مناشدات لبنان للأمم المتحدة وقوات اليونيفيل لم تؤتِ ثماراً ملموسة؛ فبعثة حفظ السلام الدولية تفتقر للتفويض والقوة الفعلية لمنع هذه الانتهاكات منذ تجربتها في حروب سابقة (2006 وصولًا إلى 2023). 

وبحسب المعهد، فالعبء الكبير يقع فعلياً على الدبلوماسية اللبنانية لمحاولة لجم التصعيد بمساعدة دولية. ووفق تصريح رئيس الحكومة سلام، ستواصل الدولة اللبنانية العمل سياسياً عبر الدول العربية والغرب للضغط باتجاه وقف الاعتداءات الإسرائيلية وانسحاب قوات الاحتلال من الأراضي اللبنانية المتبقية، إضافة إلى استعادة الأسرى اللبنانيين، لكنها مساعٍ تصطدم بصمت أميركي وتردد دولي طالما بقيت واشنطن منحازة صراحة لموقف إسرائيل الأمني.

"حزب الله" بين ضبط النفس وخطر الحرب

أمام هذه التطورات، يجد "حزب الله" نفسه في موقف حرج لا يقل تعقيداً عن موقف حكومته. فقد خسر الحزب قياديين بارزين جراء الاغتيالات الإسرائيلية المتصاعدة؛ كان آخرهم الطبطبائي. مع ذلك، لم ينجرّ حتى الآن إلى رد واسع النطاق. وتشير تقديرات أمنية إسرائيلية إلى أن الحزب يتبع سياسة "ضبط النفس الهادئ"، هذا السلوك المدروس أكده محللون عسكريون إسرائيليون، إذ يرون أن الحزب يضحّي بوحدات تكتيكية على الحدود للحفاظ على قوته الأهم وتعزيزها في العمق. 

بيد أن استمرار هذا الوضع الأحادي للهدنة ليس مضموناً. فصبر "حزب الله" ليس بلا حدود. وكلما طال أمد الضربات الإسرائيلية دون رد معتبر، تصاعد الضغط الداخلي على قيادة الحزب "للرد على العدوان" حفاظاً على هيبته وردع المزيد من الاغتيالات. وقد ألمح الأمين العام للحزب نعيم قاسم أخيراً إلى إمكانية اندلاع الحرب مجدداً إذا تجاوزت إسرائيل الخطوط المرسومة، مشدداً على أن المقاومة تحتفظ بحق الرد في الوقت والطريقة المناسبين. هذا التحذير يتقاطع مع تقييمات خبراء بأن الوضع قد ينفجر فجأة نتيجة خطأ في الحسابات أو ضربة إسرائيلية أكبر من أن يتغاضى عنها الحزب. 

معهد كارنيغي كان قد حذر في دراسة حديثة له من أن مجموع الاستفزازات الإسرائيلية بالاعتداء على الأراضي اللبنانية، والاغتيالات، وسقوط المدنيين، وتدمير البني التحتية المستمرة منذ وقف إطلاق النار سيؤدي في النهاية إلى إخراج الحزب عن استراتيجية النفس الطويل، وسعيه للرد، فهل هذا ما تريده إسرائيل؟ 

يشير المعهد في ورقته إلى أنه "رغم صمود وقف إطلاق النار لمدة قاربت العام، إلا أنه بعيد كل البعد من أن يكون مستداماً. فالصيغة الأحادية التي احتفظت فيها إسرائيل بحرية استهداف مواقع داخل لبنان وقتما تشاء وبشكل يومي، كانت مكلفة على "حزب الله". غير أن الأمن المؤقّت الذي وفره الاتفاق لإسرائيل بدا أيضاً مهتزاً في ظل غياب اتفاق طويل الأمد مع بيروت".

ما تغير بإعطاء أميركا الضوء الأخضر لإسرائيل في لبنان هو قلب معادلة الردع التقليدية، حيث كان التوازن قائماً على خوف كل طرف من إشعال حرب لا يريدها؛ أما الآن، فقد اختلت الكفة لصالح إسرائيل التي تشن ضرباتها مطمئنة لدعم واشنطن وعدم رغبة الخصم في الحرب

وأيضاً: "بالنسبة إلى حزب الله، فقد ترافَق وقف إطلاق النار مع حصيلة ثقيلة، إذ قُتل مئات من عناصره وحلفائه، إضافةً إلى مئات المدنيين منذ دخوله حيّز التنفيذ. وقد وجد الحزب نفسه مكشوفاً مع تحوّل كامل شبكته من الأعضاء والأنصار إلى أهداف. وفي الوقت نفسه، فإسرائيل تمنع أي عملية إعادة إعمار في جنوب لبنان عبر استهداف آليات البناء. فغياب الأمن وإعادة بناء البلدات والقرى قد يقوّض شعبية الحزب على المدى الطويل، والحزب يدرك أن الصمت ليس استراتيجية معقولة. لكن السؤال: ما الذي ينتظره الحزب تحديدًا؟". 

التحليل ذاته يجيب: يسعى الحزب إلى إيجاد نافذة مناسبة لإعادة التفاوض على شروط وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وترجمة ذلك إلى صيغة ترتيبات داخلية جديدة داخل لبنان. كلا الهدفين شديد الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، في الظروف الراهنة.

سيناريوهات المستقبل… نزع السلاح أو نزع السيادة

في تحليل حديث صادر بداية هذا الشهر عن مركز صوفان "The Soufan Center"، وهو مركز أبحاث أميركي متخصص في الأمن الدولي، مكافحة الإرهاب، وتحليل النزاعات المعقدة، فإن كل مستقبل لبنان معلق على تطورات الشهور المقبلة.  

يشير مركز صوفان إلى أنّ لبنان يعيش لحظة شديدة الهشاشة، إذ يتقاطع الفراغ السياسي الداخلي مع تصاعد الضربات الإسرائيلية في إطار "هدنة" غير متوازنة. فـ "حزب الله" لا يزال لاعباً مركزياً داخل الدولة، لكن الضربات المتكررة تُضعف قدرته على ضبط جمهوره، وتضعه تحت ضغط متزايد للردّ، مما يجعل استمرار الهدوء الحالي أمراً غير مضمون.

وترى واشنطن أن هذا الفراغ يمنحها فرصة لإعادة ترتيب التوازنات السياسية عبر قنوات اتصال مع أطراف لبنانيين مختلفين. وتستغل إسرائيل هذا الضعف المؤسسي لتعزيز عملياتها في الجنوب، معتبرة أن انهيار الردع لدى الحزب يتيح لها توسيع هامش حريتها العسكرية.

ويحذّر التقرير من أنّ لبنان قد ينزلق إلى مواجهة أوسع إذا شعر "حزب الله" بأن صمته يهدّد مكانته الداخلية، في ظلّ غياب قدرة حقيقية للدولة على فرض معادلة أمنية مستقرة. كما يضع هذا الوضع لبنان في قلب صراع إقليمي أكبر، تستخدم فيه واشنطن وتل أبيب الضغوط السياسية والعسكرية لإعادة رسم موازين القوى، فيما يبقى مستقبل الهدنة رهناً بقدرة الأطراف على تجنّب الانفجار.

وبحسب التحليل ثمّة سيناريوهان رئيسيان أحلاهما مرّ: إما نجاح الضغوط الأميركية-الإسرائيلية في فرض واقع جديد ينزع سلاح "حزب الله" تدريجياً دون حرب شاملة، أو انهيار الهدنة الهشة واندلاع مواجهة واسعة تعيد لبنان عقوداً للوراء. 

ترى مراكز دراسات عالمية بأن الضربات الإسرائيلية المستمرة تهدف إلى استفزاز الحزب وعدم إعطاء الجيش فرصة لنزع سلاحه وحصره في يد الدولة، لرغبتها في حرب مفتوحة في لبنان.

السيناريو الأول يعني فعلياً تكريس نفوذ الدولة اللبنانية على حساب دور "حزب الله" المسلح، وهو مطلب تاريخي لفريق كبير من اللبنانيين والمجتمع الدولي. وقد لمح الرئيس جوزيف عون إلى التزام الدولة بتنفيذ خطة مرحلية لنزع سلاح الحزب في مناطق الجنوب كخطوة أولى على غرار ما تعهدت به الحكومة اللبنانية في آب/ أغسطس الماضي للمبعوثين الأميركيين. 

نجاح هذه الخطة يتوقف على شرطين أساسيين: أولهما التزام إسرائيل الحقيقي بوقف انتهاكاتها حال شروع الدولة بضبط الأمن جنوباً، وهو ما لم يحدث؛ وثانيهما تأمين غطاء داخلي توافقي لهذا التحول لتفادي انزلاق لبنان إلى صراع أهلي. وحتى اللحظة، كلا الشرطين موضع شك. فإسرائيل تظهر نية للاستمرار في الضغط العسكري رغم وعود التهدئة، والأسوأ أنها تعتبر ضرباتها الحالية "إنفاذاً لقرار وقف إطلاق النار" بطريقتها الخاصة.

بينما "حزب الله" وقاعدته الشعبية يرفضون نزع السلاح تحت النار معتبرين ذلك استسلاماً لإرادة إسرائيل. هذا يطرح خطر انفلات أمني داخلي إذا حاولت السلطات فرض إجراءات قسرية ضد الحزب. ولا ننسى أن "حزب الله" مكوّن أساسي في النسيج السياسي اللبناني (له وزراء ونواب) وأي مواجهة معه تعني زلزالًا داخليًا. 

أما السيناريو الثاني بحسب المركز، فهو اندلاع حرب مفتوحة، فيحمل عواقب وخيمة على مستقبل لبنان كدولة ومجتمع. فالحرب الشاملة ستعني تدميراً واسعاً للبنية التحتية اللبنانية المنهكة أصلاً، وتفاقماً غير مسبوق للأزمة الإنسانية والاقتصادية. 

كذلك يشير محللون في معهد واشنطن إلى أن لبنان ما بعد حرب مماثلة قد يواجه خطر الانهيار التام ككيان فعال، في ظل اقتصاد منهار وعجز الدولة عن إعادة الإعمار دون مساعدات خارجية ضخمة قد لا تتوافر، كما أن ميزان القوى الداخلي سيتغير جذرياً: إذا خرج "حزب الله" ضعيفاً أو منزوع السلاح بفعل الحرب، فسيختل توازن التركيبة الطائفية والسياسية، وربما تندلع صراعات داخلية على ملء الفراغ الذي سيتركه. وعلى النقيض، إذا صمد الحزب وخرج بمكاسب على غرار 2006 فقد يعزز ذلك نفوذه محلياً وإقليمياً ولكن بثمن رهيب يدفعه عموم اللبنانيين من دمائهم ولقمة عيشهم. 

في المحصلة، لعل ورقة شاتام هاوس تختصر المخاوف الكبرى، كل الخيارات أمام لبنان اليوم صعبة: فإما سلام ناقص بسيادة منقوصة تُضحي فيها بيروت مؤقتاً بمنطق الندية لتجنب الأسوأ، وإما مواجهة شاملة قد تنهي نفوذ "حزب الله" العسكري لكنها تهدد بإنهاء ما تبقى من مقومات الدولة اللبنانية. 

ما تغير بإعطاء أميركا الضوء الأخضر لإسرائيل في لبنان هو قلب معادلة الردع التقليدية. سابقاً، كان التوازن قائماً على خوف كل طرف من إشعال حرب لا يريدها؛ أما الآن، فقد اختلت الكفة لصالح إسرائيل التي تشن ضرباتها مطمئنة لدعم واشنطن وعدم رغبة الخصم في الحرب.

هذا الواقع الجديد قد ينجح – من منظور أميركي إسرائيلي – في تقليم أظفار "حزب الله" وتقليص خطره لفترة، لكنه أيضاً وصفة لانفجار مؤجل ما لم يقترن بتحرك سياسي حقيقي لمعالجة جذور الصراع. لبنان يقف اليوم على مفترق تاريخي: فإما أن يخرج من هذه المحنة بتسوية تضمن سيادته وسلامة أراضيه عبر تقوية دولته واستيعاب سلاح مقاومته في كنفها، أو ينزلق إلى دوامة حرب إقليمية بالوكالة سيكون هو الخاسر الأكبر فيها. وفي كلتا الحالين، تبقى لغة الحوار وضبط النفس هما الأمل الوحيد لتجنيب هذا البلد الصغير مزيداً من الكوارث، في منطقة لا تكاد تنطفئ فيها نار حتى تشتعل أخرى.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image