لبنان بين الاستنزاف والتسوية... قراءة إستراتيجية في المشهد الراهن

لبنان بين الاستنزاف والتسوية... قراءة إستراتيجية في المشهد الراهن

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 20 نوفمبر 202511 دقيقة للقراءة

يقف لبنان أمام معادلة إستراتيجية معقّدة تتجاوز حدود المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، لتطال بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصاديية. فبين خيار حرب استنزاف طويلة الأمد وخطر مواجهة شاملة، تتداخل عناصر الردع والضغوط الدولية والانقسامات الداخلية، ما يجعل أي تسوية محتملة هشّةً ومليئةً بالمخاطر.

منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، تحولت الحدود الجنوبية إلى ساحة تصعيد متدرج. إسرائيل تعتمد سياسة "الحرب المحسوبة" عبر غارات شبه يومية وتوغلات محدودة، بهدف إضعاف حزب الله دون الانجرار إلى حرب شاملة، وفق "الجزيرة"، حيث يجهد الحزب لإفشال ما يشبه "منطقةً أمنيةً غير معلنة" تسعى إسرائيل إلى إقرارها في الجنوب عبر استنزاف طويل الأمد، مع الحفاظ على صورة "الردع المتبادل" دون دفع لبنان نحو حرب شاملة قد تدمّر اقتصاده وتضعف قاعدته الشعبية.

من جانبها، تضغط الولايات المتحدة لمنع الحرب الشاملة، وتدفع إسرائيل نحو الاكتفاء بالردع الجوي، في محاولة لضبط ردود حزب الله وردعه، وتفتح قنوات خلفيةً عبر وسطاء أوروبيين لتثبيت "الهدوء الهش"، بحسب "الجزيرة". لكن العوامل الحاسمة تتلخص في قدرة إسرائيل على تحمّل ضغط جبهتها الداخلية، وقدرة حزب الله على ضبط إيقاع الردع ضمن حدود الدعم الإيراني، وفاعلية التحركات الدبلوماسية لتجنّب تحوّل لبنان إلى ساحة بديلة عن غزة. وهذا الوضع الراهن يعكس "الاستنزاف المحسوب"، حيث تُختبر قواعد الاشتباك بشكل متكرر في محيط القرى الحدودية، مع قابلية أي خرق كبير للتدويل الفوري.

حزب الله بين الردع والضغط الداخلي

إسرائيل والولايات المتحدة غير راضيتين عن انسحاب حزب الله من الجنوب، وتطالبان بنزع سلاحه كاملاً. السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام، شدّد على أنّ هذا المطلب "غير قابل للتفاوض"، ملمّحاً إلى ضوء أخضر لإسرائيل إذا رفض الحزب تسليم أسلحته الثقيلة، فيما حذّر نائب رئيس المجلس السياسي في الحزب، محمود قماطي، من أن يؤدي نزع سلاح المقاومة بالقوّة إلى إراقة دماء، ما أثار صدمةً داخل لبنان، حسب مجلة "نيولاينز".

لم يعد الحديث عن السلام مع إسرائيل من المحرّمات في بيروت، فهزيمة حزب الله أمام إسرائيل أقنعت شريحةً واسعةً من اللبنانيين بأنّ المصالحة قد تكون السبيل لإنهاء العنف المستمر منذ عقود، حيث دعا الرئيس عون إلى مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، وأبدى قادة لبنانيون آخرون استعداداً للسلام بشرط قيام دولة فلسطينية

الباحث كريم إميل بيطار، قال لـ"المجلة"، إنّ الحزب يرفض التنازل لأنه يدرك أنّ واشنطن لا تستطيع ضمان التزام إسرائيل بالاتفاق، خصوصاً مع استمرار احتلالها خمس تلال تشرف على قرى الجنوب، ما يترك الحزب بلا حافز لتسليم أسلحته، فيما كان الجيش اللبناني قد أعلن سابقاً تفكيك نحو 80% من مواقع حزب الله جنوب الليطاني، وهو ما أكدته اليونيفيل ولجنة المراقبة.

ويسعى الحزب إلى تعزيز الردع الإيراني الإقليمي، وقد يتبنى موقفاً أكثر عدوانيةً بعد تجربة حماس. وعليه، يعيد بناء ترسانته عبر تهريب أسلحة من سوريا، مع تجنيد مقاتلين، وتجديد مواقع عسكرية. في المقابل، كثّفت إسرائيل عملياتها في جنوب لبنان، بما في ذلك ضربات دقيقةً وتدريبات تحاكي هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حسب "المجلس الأطلسي"، الذي يشير إلى أنّ تجربة غزة أظهرت أنّ الردع لا يمكن عدّه مضموناً، وأنّ التهديدات غير المعالجة تتحول إلى أزمات، لذا يجب الانتقال من "الردع بالإنكار" إلى "الردع بالعقاب"، عبر الجمع بين الضغط العسكري والشرعية الدولية والشراكات الإقليمية.

في السياق، يشير تقرير آخر للمجلس الأطلسي، إلى أنّ احتلال إسرائيل خمس تلال داخل لبنان قرب الخط الأزرق، وتحصين مواقعها هناك برغم عدم أهميتها العسكرية الكبيرة، يقوّضان جهود نزع سلاح الحزب ويزيدان من تعقيد الموقف اللبناني. لذا، يرفض الحزب تسليم سلاحه إلا في سياق نقاش حول إستراتيجية أمن قومي وانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، فالسلاح بالنسبة للحزب ليس مجرد أداة عسكرية، بل هو ركيزة في منظومة الردع الإقليمي لإيران، وضمانة لشبكة خدماته الاجتماعية والسياسية. فغالبية الشيعة في لبنان لا يزالون يدعمون بقاء سلاح الحزب، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية، كما أن هناك شعوراً عاماً بأنّ نزع سلاح الحزب يعني إضعاف الطائفة الشيعية داخلياً وخارجياً، وهذا الدعم يجعل أي محاولة لنزع السلاح محفوفةً بمخاطر داخلية.

يحذّر المجلس من أنّ استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى جمود سياسي وأمني. كذلك، إذا صعّدت إسرائيل هجماتها، قد يردّ الحزب عسكرياً، مما يفتح الباب أمام حرب جديدة بين الطرفين. كما أنّ أيّ مواجهة مباشرة بين الجيش اللبناني وحزب الله قد تؤدي إلى انهيار الجيش واندلاع حرب أهلية.

في هذا السياق، يصف معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الحزب بأنه "متراجع تكتيكياً وليس منهاراً"، مشيراً إلى أن تقويضه يتطلب استهداف شبكاته الخارجية المالية والتجارية، وليس فقط المواجهة العسكرية جنوباً. داخلياً، يظلّ الحزب ركيزةً في معادلة السلطة، ويربط أمن الحدود بمكاسب سياسية تنظّم الفراغ الدستوري.

وفقاً لمركز مالكوم كير-كارنيغي، صمد اتفاق وقف إطلاق النار شكلياً، لكنه بقي هشّاً وغير مستدام، إذ احتفظت إسرائيل بحق تنفيذ ضربات داخل لبنان، ما كبّد حزب الله خسائر بشريةً كبيرة. ومع منع إسرائيل إعادة الإعمار في الجنوب، تضعف شعبية الحزب على المدى الطويل. لذا، يسعى الحزب إلى إعادة التفاوض على شروط وقف إطلاق نار، لكن ذلك يتطلب استعادة الردع وهو أمر صعب في ظل تفوّق إسرائيل العسكري. إلى ذلك، بعد اغتيال حسن نصر الله وعدد من القادة البارزين في الحزب، ازدادت تبعية قيادة الحزب لإيران، ما يعزز النفوذ الإيراني المباشر.

عجز سياسي وعسكري

يمكن للحكومة اللبنانية استثمار الدعم العربي والغربي لإعادة التفاوض على وقف إطلاق النار، مع دور محتمل لحركة أمل بقيادة نبيه بري في دفع الثنائي الشيعي نحو تسوية أكثر ارتباطاً بالمصالح اللبنانية الداخلية، حسب كارنيغي، ذلك أن استمرار الجمود يهدد لبنان بتصعيد جديد واحتلال إسرائيلي لمناطق إضافية. لذا يجب على الحكومة كسب ثقة المجتمع الشيعي عبر تحسين الخدمات الأساسية وإعادة النازحين. بجانب تطوير إطار سياسي لنزع سلاح حزب الله بالتنسيق مع حركة أمل والداعمين الدوليين. إلا أنّ الفشل في المسارين سيبقي زمام المبادرة بيد حزب الله وإسرائيل، مع مخاطر عالية على الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان. 

غالبية الشيعة في لبنان لا يزالون يدعمون بقاء سلاح الحزب، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية، كما أنّ هناك شعوراً عاماً بأنّ نزع سلاحه يعني إضعاف الطائفة داخلياً وخارجياً.

لكن الحكومة اللبنانية عالقة بين ضغط واشنطن لنزع سلاح حزب الله ورفض الأخير القيام بذلك، حيث بدأ الجيش اللبناني عمليات لنزع سلاح الحزب في الجنوب، لكن ضعف الموارد والأزمة الاقتصادية المستمرة بالبلاد يجعلانه عاجزاً عن مواجهة مباشرة مع الحزب. وهو ما يعكس مأزق الدولة اللبنانية، حسب المجلس الأطلسي، فهي مطالبة دولياً ببسط سيادتها، لكنها مكبّلة داخلياً بميزان القوى الطائفي الذي يمنح الحزب نفوذاً يتجاوز حجمه البرلماني (أقل من 15%)، مما يفرض على إسرائيل الاستعداد لمواجهة طويلة الأمد.

وفي سياق متصل، تبنّى مجلس الأمن آواخر آب/ أغسطس الماضي، القرار 2790، والقاضي بتمديد ولاية اليونيفيل للمرة الأخيرة حتى نهاية عام 2026، مع بدء انسحاب منظّم خلال سنة من ذلك التاريخ، حسب تقرير مجلس الأمن لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري. سبق ذلك، وضع الجيش اللبناني خطةً على مراحل تدريجية لاحتكار السلاح في البلاد، بدءاً من الجنوب وصولاً إلى كامل الأراضي اللبنانية، وهو ما أثار اعتراض وزراء من حزب الله، وطرح سؤالاً جوهرياً: من سيملأ فراغ آليات منع الاحتكاك بعد خروج اليونيفيل؟

الرئيس اللبناني، جوزف عون، أصدر أمراً للجيش بمواجهة أي توغلات إسرائيلية مستقبلية بالقوة. صدر الأمر إثر حادثة بلدة بليدة الجنوبية الحدودية نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، حيث دخلت قوات إسرائيلية وأطلقت النار على مبنى البلدية ما أدى إلى مقتل مدني. وهذا القرار شكّل تحوّلاً عن سياسة لبنان السابقة القائمة على تجنّب المواجهة المباشرة، حسب ديفيد وود، في مجموعة الأزمات الدولية.

في المقابل، انتقد حزب الله الحكومة لعدم ردّها بقوة أكبر، مستفيداً من مأزق القادة اللبنانيين العالقين بين حماية السيادة وتجنّب حرب كارثية. فالجيش اللبناني، الذي لم يتدخل خلال الحرب السابقة بين إسرائيل وحزب الله، قد يجد نفسه مضطراً إلى التحرك تحت ضغط الظروف، لكيلا يخاطر بفقدان المصداقية إذا بقي متفرجاً. لكن تناقض الموقف الأمريكي يضيّق خيارات بيروت بين مواجهة عسكرية خطيرة أو فقدان الشرعية أمام شعبها، وهو ما قد يعزز نفوذ حزب الله، بحسب وود. فالولايات المتحدة، الحليف الرئيس لإسرائيل والراعي الأساسي للجيش اللبناني، لا ترغب في تسليح الجيش ليقاتل إسرائيل. أبعد من ذلك، تم إلغاء زيارة كانت مقررةً قبل أيام لقائد الجيش اللبناني إلى واشنطن دون كثير توضيح، وهو ما يعقّد الأمور أكثر.

السياق الإقليمي والدولي

لأول مرة منذ عقود، لم يعد الحديث عن السلام مع إسرائيل من المحرّمات في بيروت، حسب معهد واشنطن، إذ إنّ هزيمة حزب الله أمام إسرائيل أقنعت شريحةً واسعةً من اللبنانيين بأنّ المصالحة قد تكون السبيل إلى إنهاء العنف المستمر منذ أربعة عقود، حيث دعا الرئيس عون إلى مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل. كما أبدى قادة لبنانيون آخرون استعداداً للسلام بشرط قيام دولة فلسطينية، فيما مدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، غصن زيتون للبنان، لكنه اشترط نزع سلاح الحزب.

إسرائيل تعتمد سياسة "الحرب المحسوبة" عبر غارات شبه يومية وتوغلات محدودة، بهدف إضعاف حزب الله دون الانجرار إلى حرب شاملة، بينما يجهد الحزب لإفشال ما يشبه "منطقةً أمنيةً غير معلنة" تسعى تل أبيب إلى إقرارها في الجنوب... فإلامَ يستمرّ هذا الوضع؟

بدورها، ربطت إدارة ترامب المساعدات الاقتصادية للبنان بخطوات تدريجية نحو السلام، مثل ترسيم الحدود، التعاون في المياه والطاقة، وإلغاء قوانين مناهضة التطبيع. لكن إذا لم يتم نزع سلاح حزب الله أو التوجه نحو الدبلوماسية، قد تخسر بيروت الدعم الأمريكي والدولي، وربما تواجه عمليةً عسكريةً إسرائيليةً، حسب المعهد. 

فعلى الرغم من حالة التوافق العام على دعم سيادة لبنان ووقف الأعمال العدائية لدى المجتمع الدولي، إلا أنّ خلافات حول توصيف حزب الله بين "قوة سياسية شرعية" (روسيا)، و"جناح إرهابي" (الولايات المتحدة)، لا تزال قائمةً. وهذا التباين يعكس صعوبة بناء موقف دولي موحّد، ويجعل أي تسوية رهينةً للتوازنات الإقليمية والدولية.

على ما سبق، تتعدد السيناريوهات المحتملة بين مواجهة شاملة إذا وجهت إسرائيل ضربةً قاصمةً لحزب الله، إذ قد تنزلق المنطقة إلى حرب واسعة، مع تداعيات كارثية على لبنان، أو استنزاف طويل الأمد، وهو السيناريو الأكثر واقعيةً حالياً، حيث تستمر الغارات والردود المحدودة دون حسم، ما يضع لبنان في حالة جمود سياسي وأمني، حسب المجلس الأطلسي، أو تسوية مؤقتة بوساطة أمريكية-أوروبية، لكنها تتطلب توافقاً لبنانياً داخلياً غير متوافر بسبب الانقسام السياسي، حسب الجزيرة

ختاماً، يبدو المشهد اللبناني-الإسرائيلي اليوم لا مجرد تصعيد ميداني فحسب، بل اختباراً لهوية لبنان وموقعه في شرق أوسط يعاد تشكيله، حيث نوّه أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في باريس، زياد ماجد، إلى صعوبة فصل لبنان عما يجري من "إعادة ترتيب لأوضاع المنطقة تكون فيها إسرائيل القوة الضاربة وتفرض سطوتها بسبب قوتها العسكرية والدعم الأمريكي لها"، مشيراً إلى رغبة إسرائيلية في الإذلال بشأن المشهد اللبناني، "وهذا لن يولّد حلاً قريباً"، حسب ما قال ماجد للجزيرة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image