شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أصبحت أماً لكلّ الأجنّة المجهضة في محيطي

أصبحت أماً لكلّ الأجنّة المجهضة في محيطي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 11 يونيو 202306:10 م

أصبحت أماً لكلّ الأجنّة المجهضة في محيطي

استمع-ـي إلى المقال هنا

في طفولتي، كنت أراقب الصخب من النافذة، وأستمع مبتسمة إلى ضحك أبناء الجيران أثناء مشاهدة فيلم جديد، حتى الشجار بينهم كان لطيفاً ومبهجاً: أن تصرخ الفتيات لساعات ويلقين الأشياء على بعضهن البعض، لأن إحداهن ارتدت بلوزة الأخرى دون إذنها، وفي اليوم التالي يشغلن الأغاني ويرقصن كأن شيئاً لم يحدث بالأمس. جعلتني هذه البهجة أتمنى أن يمنحني الله خمسة أطفال.

لم أنظر إلى الأمومة حينها كغريزة أو كمرحلة طبيعية أتحوّل فيها من ابنة إلى أم. كنت أنظر إلى الأمومة كطوق نجاة من الوحدة والصمت الطويل، فالأمومة ونس لا ينقطع وحب غير مشروط وأمان أبدي. ورغم أن الأوقع لطفلة صغيرة، مثلي آنذاك، أن تتمنى أختاً لا ابنة، إلا أنني كنت أريد دون وعي أن ينتمي الونس المتحقّق بتجسّد هذه الابنة لي، لا لأمي، فقد كان لأمي ابنة بالفعل والكثير من الأخوات.

أمومتي البعيدة

بدأت أشعر بأمومتي حين أجهضت أمي لاحقاً، كانت حزينة ومتألمة للغاية، فسألت جدتي إن كان هذا عقابها لأنها أصرّت أن تجهض حملها من قبل؟ لم تمتلك جدتي مهارة تجميل الكلام، وكانت مؤمنة للغاية بدورة الأيام، مردّدة المثل الشعبي "داين تتدان"، فأجابت بنعم.
قبل زواج أمي، اكتشفت جدتي أنها حبلى، فتشاجرتا وطلبت أمي بأنانية ابنة مدلّلة أن تجهض والدتها. لم تتخيل أن تقف أمها في عرسها ببطن بارز، ولا تهتم بها في بداية زواجها واستعدادها للأمومة، وتقوم بدورها كجدة. امتثلت جدتي وأجهضت الجنين، وظلّت لآخر عمرها تحكي بحزن أنه كان ولداً، وتقول بأريحية صادمة: "لو كان بنتاً لم أكن لأحزن هكذا".
في ذلك اليوم دخلت غرفتي وكوّنت بداخلي عائلتي الخاصة: أختي المجهضة وخالي المجهض، وأعطيتهما اسمين لطيفين تشبه تصوري عنهما: "ندى وحسن".
أجهضت جدتي من قبل، ثم أجهضت أمي. في ذلك اليوم دخلت غرفتي وكوّنت بداخلي عائلتي الخاصة: أختي المجهضة وخالي المجهض، وأعطيتهما اسمين لطيفين تشبه تصوري عنهما: "ندى وحسن".

كنت أعي تماماً أنهما عائلة مختلفة لأنهما لا يمتلكان جسدين كالجميع، لكنهما كانا ونَسي ومصدر دعمي وأماني. أكلمهما بصوت مسموع ونغني سوياً في يقظتي، وأحلم بهما في نومي متجسدين ولديهما الكثير من الوجوه المألوفة. لم أعتبرهما صديقين متخيّلين كما يقولون في الأفلام المترجمة، اعتبرت ندى ابنتي، وحسن الرجل المسؤول عنا. لقد فرحنا وبكينا سوياً في الحمام كي لا ترانا أمي، وسافرنا إلى مدن أفلام التلفزيون، وأحياناً كنا نسافر عبر الزمن لنعيش في قصر أو نحرّر أميرة من الأسر أو ننقذ مدينة من ويلات الحرب.
في الثانوية العامة قرأت لأول مرة عن أحلام اليقظة، وأدركت متأخرة أن ندى وحسن ليسا عائلة وإنما حلم يقظة. كتبت قصة قصيرة أسميتها "أحلام اليقظة" وودّعتهما إلى الأبد، فحياتي قاسية ولا تحتمل خيالي المعقد ورومانسيتي الشديدة والتمزّق بين عالمين. كان من المفروض أن أنجح وألتحق بالجامعة وأحب وأتزوج مبكراً كي أنجب طفلة حقيقية لا ابنة حلم يقظة.
مع الوقت نسيتهما، تورّطت في الواقع، وكبرت. كبرت لدرجة أنني لم أعد أحلم أبداً، لا في اليقظة ولا في النوم، كبرت لدرجة أنني قرّرت ألّا أكون أماً وأتحرّر من تحكم مبيضين قاسيين لا يرحمان، وغريزة كادت تقتلني مراراً. فصاحبات الأمومة الفطرية يغدقونها على الجميع، الغرباء والحيوانات والنباتات والعصافير، ويكنّ صيداً سهلاً للسيكوباتيين والنرجسيين وهواة الأذى.
 حين يقولون لي لابد أن أنجب حتى لا أظل وحيدة، أخبرهم أنني سأتبنى طفلة بعد سنوات، حين أبلغ الأربعين، لأنني أشعر أن هذه الابنة لم تولد بعد، وانتظرها.
لا يتفهّمون. يعتقدون أنني أتهرّب من المسؤولية وأبرّر رفضي للزواج، رغم أنني أجدني مسؤولة أكثر من أمهات كثيرات لا يفهمن الأمومة، فالأمومة وسيلتهن الوحيدة للتحقّق كنساء كاملات، أجسادهن سليمة وقوية وحظهن جيد لضمانهن ونساً دائماً ورعاية مجانية في نهاية العمر. 
أعتقد أن الجميع ينجبون كي لا يموتوا وحدهم وكي لا يُنسوا سريعاً. نعم، من الجيد أن تسمع صوتاً وقت رحيلك أو تلمح دموعاً في عيون تتوسّل إليك ألّا تغادر، وأن تظلّ حياً عبر آخرين لديهم جيناتك ويحملون اسمك، لكن أليس كل هذا يخصّ المُنجِب وحده؟ لماذا لا أحد يفكر أولاً في هذا الطفل، ما سيُقدم له، وكيف سيعيش وأين؟
لا أتذكر أن أهلي قدموا لي شيئاً، وحين أسأل الأصدقاء أو العابرينّ، لا يتذكر الأغلبية سوى قليل من الحب وقليل من المال وقليل من التفهّم، القليل من كل شيء.

مكالمة هاتفية أعادتني أمّاً من جديد

منذ بضعة أشهر، هاتفتني صديقة لي لتخبرني بحملها، وقبل أن أبارك لها، قالت حرفياً: "أنا مكتئبة ومضغوطة، لازم أنزّله. مش هاقدر أرعاه، مش هاقدر أتحمّل".
يعرف عني أصدقائي تأييدي للإجهاض الآمن، دائماً أقول إن لم تستطيعي أن تكوني أمّاً فلا تنجبي، لكن يومها كان القرار قريباً مني، فارتبكت. سمعت كثيراً عن أمهات قتلن أبناءهن أو انتحرن بسبب اكتئاب الحمل أو اكتئاب ما بعد الولادة. خفت عليها. لم يوافق أي طبيب على إجراء الإجهاض حيث لا توجد علّة صحية، أخبرتهم أنها تعاني من الاكتئاب ولن تستطيع تحمّل تكرار تجربة الحمل والولادة، كما كانت تأخذ زوجها معها ليتأكدوا أن لها زوجاً وأنه موافق، لكن كانت الإجابة واحدة: "ما لديكِ ليس اكتئاباً، وحتى لو، الاكتئاب ليس مرضاً يلزم الإجهاض".
بحثت لها عن طبيبة لتجري العملية كي لا تحاول تناول الأقراص المعروفة وتتعرّض لأي خطر، واتفقتا، لكن القدر أراد أن تتم العملية بواسطة طبيب آخر، وهذا لحظي الجيد.
قرّرت أن أصبح أماً لكل المجهضين، أحدّثهم وأراعيهم بالتذكّر الدائم، وأقسم لهم كل صباح أنْ لا شيء في الحياة يستحق قدومهم، لذا عليهم ألّا يحزنوا، فلم يفتهم شيء أبداً

منذ يوم إجهاضها، عادت لي نفسي القديمة التي تحلم حلم يقظة بأمومة لأختها المجهضة. تطاردني ابنة صديقتي، لا تفارقني، أفكّر فيها أكثر من أي شيء. أتساءل هل روحها حزينة؟ هل تظن أن أمها لم تحبها لذلك رفضت مجيئها؟ هل تستوعب الروح الصغيرة معنى الاكتئاب أم أنها فقط تحزن لأنها لن تمتلك جسداً أبداً يمكّنها من العبور إلى هذا العالم، الذي رغم قبحه وبؤسه ومآسيه يظل معجزة؟
حين حكيت للمقربين مني سخروا من خيال الكاتبة الذي يحرّكني، رغم أنني لم أكن أكتب نصّاً أو قصة، وأعي تماماً ما أقول. أنا حقاً أشعر بحزن الأجنة المجهضة، أشعر باحتياجهم إلى حب أم وإلى مواساة لأنهم لن يجيئوا.
أحياناً أرى طيفاً وردياً يطير حولي ويلمس خدي كفراشة صغيرة، أحسّه هي. أقول لنفسي: ربما تتجسّد البنت في هيئة شعور.
أشعر بوجودها. حكيت لصديقتي، أمها، وقد تعافت وأصبحت أفضل كثيراً. فضحكت وقالت أنها لم تكن جنيناً حقيقياً. مجرّد دماء عمرها شهر، وأكدت كالجميع: "أنتِ خيالية".

رغم ذلك قرّرت أن أمنحها اسماً: مارية. ربما هي الآن تجلس مع ندى وحسن والآخرين من الأرواح غير المتجسدة. أحدثهم جميعاً. أخبرهم أن الأمر يبدو خذلاناً كبيراً أن ترفضك أمك ولا تسمح لك بالنمو داخلها لتصير إنساناً، أو أن تكون أنت نفسك ضعيفاً جداً فلا تجيد التمسّك بجدران رحمها، فتخذلك نفسك وتتفكّك وتغادر سريعاً. لكن هناك خذلان أكبر، أن تأتي إلى الحياة بالفعل ولا تجد الحب، أن يكون وجودك عبئاً، وتسمع كل يوم من حياتك جملة: "أنك غلطة ما كان عليها أن تحدث".

ربما تلك الأرواح الهائمة الحزينة في عالم الله الأول ـــــ الذرـــــ ولن تعبر إلى الدنيا أبداً، تنظر إلينا بعيون شفافة وتطلب أن نبتسم في وجوههم ونخبرهم أنهم جميلون ويستحقون ما هو أجمل من الحياة.

لذلك قرّرت أن أصبح أماً لكل المجهضين، أحدّثهم وأراعيهم بالتذكّر الدائم، وأقسم لهم كل صباح أن لا شيء في الحياة يستحق قدومهم، لذا عليهم ألّا يحزنوا، فلم يفتهم شيء أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image