لم أكن أعلم أن الصدفة ستضعني بعد أكثر من 20 عاماً في الموقف نفسه الذي كانت فيه أمي عند ولادتها أخي". بهذه الكلمات بدأت نور فتحي (31 عاماً)، وهي سيدة متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، حديثها إلى رصيف22، موضحةً أن والدتها وضعت أخاها في أحد أيام آب/ أغسطس 1992 الحارّة، وهي تجمع محصول البامية من الحقل، بكل سهولة، لكنها لم تكن ولادةً مكتملةً بل مبكرةً عن موعدها بأسبوعين، وهو ما استدعى دخول الطفل إلى المستشفى.
لم يسعف الحظ حينها الطفل، بسبب سوء الإمكانات الطبية وضعفها، نظراً إلى إصابته بعيب خلقي في بطنه وهو لا يزال جنيناً داخل الرحم، ولم يكن قادراً على هضم اللبن بشكل جيد والاستفادة منه، وتوفي بعد أسابيع قليلة من ولادته.
وحسب قول نور، أرجع الأطباء الأمر حينها إلى إصابة والدتها بفيروس بسبب تعرضها لدخان الحطب، وهو عبارة عن عيدان نبات الذرة التي تجفَّف وتستخدَم في إشعال النار، بشكل متكرر كل يوم تقريباً في أثناء فترة حملها، بحكم أنها تعيش في بيت ريفي وتقوم بمهام السيدة الريفية من جمع الحطب وإشعاله إلى صنع الخبز لعائلتها، وكذلك قيامها ببعض المهام الشاقة في الحقل مثل تنظيف الحظيرة، وهو ما يمكن أن يكون قد نقل إليها بعض الميكروبات والفيروسات التي تعيش في الرطوبة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة في مثل هذه الأماكن.
نشاهد الحوامل وهن مصابات بالضجر بسبب ارتفاع الحرارة، إذ يكفيهن تحمّل ضغط الجنين، فما بالك بالجوّ أيضاً؟
طفلي في الحضّانة
بعد تنهيدة طويلة تحمل الكثير من الألم والحزن، استكملت السيدة حديثها لتحكي عن تجربتها مع طفلها الثاني الذي وُلد مبكراً أيضاً، ووُضع في الحضّانة لمدة أسبوعين بسبب إصابته بالتهاب رئوي، وأكدت نور على أنها في بداية حملها انتقلت للعيش في إحدى المدن الصناعية في المنوفية. ونظراً إلى ضيق الإمكانات المالية للعائلة، اضطروا إلى شراء إحدى الشقق الرخيصة بجانب المصانع، والتي لا يفضّلها الناس بسبب الضوضاء والدخان الملوِّث للهواء.
وربطت السيدة هذا الأمر بما حدث لطفلها من إصابته بمرض الالتهاب الرئوي التنفسي وهو لا يزال جنيناً في رحمها، مما تسبب في قضائه الأسبوعين الأولين من عمره على أجهزة التنفس الاصطناعي، ولا زالت حتى الآن تعاني معه من مشكلة الحساسية بالرغم من مرور عامين ونصف على ولادته.
للوقوف على هذا التشخيص، يقول طبيب الأطفال والباطنة العامة في وزارة الصحة المصرية أحمد الصفطي، إن الحضّانات ممتلئة بعشرات الأطفال الذين وُلدوا قبل موعدهم، وهم في الحقيقة ليسوا في حالة جيدة، ومعظمهم مصابون بأمراض فيروسية أو بكتيريات تنفسية، وأشهرها الالتهاب الرئوي وميكروبات الدم وولادة الجنين برئة أو برئتين غير مكتملتين، وتُعدّ الولادة المبكرة السبب الأساسي في إصابة الطفل بكل ما سبق.
وحول ما إذا كانت هناك علاقة بين ارتفاع درجات الحرارة الحالي والولادة المبكرة للسيدات، أوضح الطبيب لرصيف22، أن ارتفاع الحرارة المستمر يتسبب في إصابة الحامل بالكثير من الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري، وإصابة الأجنّة بالأمراض التنفسية ومشكلات في الدماغ، وتالياً في حالة إصابة الأم أو الطفل بهذه المشكلات تحدث الولادة المبكرة على الفور، مضيفاً: "نشاهد الحوامل كل يوم وهن مصابات بالضجر في الشوارع والمستشفيات بسبب ارتفاع الحرارة، إذ يكفيهن تحمّل ضغط الجنين، فما بالك بالجوّ أيضاً؟".
وتأتي تصريحات الصفطي، متسقةً مع تقرير صندوق الأمم المتحدة للطفولة لعام 2015، الذي أكد على أن نحو 2.3 مليار طفل معرضون لخطر الفقر والأمراض بسبب التغير المناخي، وأهم هذه الأمراض الالتهاب الرئوي والملاريا، فيما أكدت دراسة نشرتها صحيفة "الإندبندنت" مطلع العام الحالي، أن تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة لهما تأثير كارثي على الأمهات الحوامل والأطفال الرضّع، ما يزيد من خطر الولادة المبكرة ويجعل الأجنّة أكثر عرضةً لأخطارها التي ربما تؤدي في النهاية إلى الوفاة. وطبقاً لناشري الدراسة الذين يعملون في كلية الصحة العامة في جامعة بوسطن، فإن الأعاصير والتلوث الناتج عن حرائق الغابات وارتفاع درجات الحرارة المتزايد، ستفاقم بشكل أو بآخر من خطر الولادة المبكرة.
ارتفاع الحرارة المستمر يتسبب في إصابة الحامل بالكثير من الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري، وإصابة الأجنّة بالأمراض التنفسية ومشكلات في الدماغ، وتالياً في حالة إصابة الأم أو الطفل بهذه المشكلات تحدث الولادة المبكرة على الفور
وأكدت الإحصائية التي أجريت على مليون امرأة حامل في أستراليا، في الفترة ما بين 2004 و2015، أنهن تعرضن لخطر الولادة المبكرة في المناطق شديدة الحرارة في هذه الدولة بنسبة تزيد عن 16% عن بقية المناطق، وكشفت الدراسة أيضاً عن تعرّض السيدات في غرب الولايات المتحدة الذي تندلع فيه حرائق الغابات باستمرار، لمرض جيني نادر الحدوث يؤدي إلى حدوث تشوّهات في جدار البطن، واستنتج الباحثون أن تلوث الهواء الناتج عن هذه الحرائق له تأثير كبير على صحة الأم والطفل.
وأخيراً خلصت هذه الدراسة إلى أن تغير المناخ له تأثير كبير في زيادة الوزن لدى الأطفال وإصابتهم بالسمنة في مراحل عمرية مختلفة وتعرضهم للإعياء والمرض في فترات متقاربة.
جفاف الحمل
خلال الحديث مع فاتن، وهي سيدة ثلاثينية تعيش في محافظة الشرقية، أشارت إلى أنها أنجبت طفلها الثالث قبل موعد ولادته، في فصل الصيف، بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وتقول لرصيف22: "في أحد الأيام التي كنت ذاهبةً فيها إلى العمل في مصنع للملابس الجاهزة في مدينة العاشر من رمضان، كان الجو ‘شرد’ (كلمة عامية يصف بها عدد من المصريين الجو الحار)، وكنت أحتاج إلى هذا العمل كثيراً، إذ كنت أساعد زوجي في سداد أقساط المنزل الذي بنيناه، وكنا مضطرين إلى دفع مبلغ كبير من المال شهرياً للمقاول الذي بناه"، وبعد لحظة صمت أشارت إلى ابنها الذي كانت تحمله، وقالت: "ده ابن سبعة"، أي وُلد في الشهر السابع.
لم تكن لدى هذه السيدة رفاهة الاعتذار عن العمل أو الغياب لمدة يوم واحد حتى، ولعل ذلك يوضح مدى تأثير تغيّر المناخ على الفئات المهمشة والأكثر فقراً تحديداً، والذين لا يملكون معلومات أو إمكانيات كافيةً حول التعامل معه.
استكملت فاتن حديثها قائلةً إن الحافلة التي كانت تنقلها إلى العمل في ذلك الأسبوع لم تأتِ لإصابة سائقها بحادث وعجز الإدارة عن توفير بديل منه، فاضطرت إلى الذهاب إلى المركز المجاور لاستقلال الحافلة التي تنطلق من هناك كل يوم. ولأنها تعيش في قرية فقيرة من قرى الريف، لم تكن هناك وسائل مواصلات كثيرة متاحة أمامها للانتقال إلى المركز، فاضطرت إلى السير على الأقدام مسافةً طويلةً احتاجت منها ساعةً وربع الساعة ذهاباً، ومثلها إياباً.
الاهتمام بشرب السوائل الباردة والعصائر من أهم عوامل الحفاظ على الجنين والأم معاً بصحة جيدة، وتناول الخضروات والفاكهة، كذلك عدم الخروج من المنزل خلال فترة النهار إلا للضرورة. أما السيدات العاملات فيمكنهنّ حمل زجاجة المياه الباردة في حقيبتهن باستمرار
"تحملت أول ثلاثة أيام على الرغم من شعوري بالتعب الشديد نتيجة المسافة الطويلة وارتفاع الحرارة، ولاحظت قلة حركة الجنين، لكن في اليوم الرابع وفي أثناء عودتي من العمل، قبل العصر، وأنا أسير المسافة المعتادة، شعرت بالإعياء الشديد وتملك مني المغص الذي تخشاه كل حامل، وعلى الفور نُقلت إلى المستشفى ليجد الأطباء أن حركة الجنين قد قلّت، ولا بد لي من أن أرتاح حتى موعد ولادة الطفل، الذي جاء في الشهر السابع غير مكتمل الرئة، لكنه نجا بعد وضعه في الحضّانة في مستشفى حكومي"، تقول.
من وجهة نظر طبية، نبّه الصفطي، إلى أن السير لمدة طويلة تحت الشمس يُدخل الحامل في حالة جفاف شديد، ولا بد لها من أن تعي بأنها تحمل روحاً أخرى في داخلها وتُغذّيها، وفي حالة فاتن فهي تسير مسافات كبيرةً وتعمل عملاً شاقاً لمدة قرابة 11 ساعةً في اليوم (3 ساعات في الطريق و8 في العمل)، لذلك دخلت في حالة جفاف على غير علم منها، مما تسبب في نقص السائل الأمينوسي حول الجنين وقلّت حركته، موضحاً أنه عندما يقل هذا السائل لا توجد طريقة لزيادته مرةً أخرى، ويصبح اكتمال الحمل بسلام بين يدي الله.
وأعطى نصائح للحوامل للحفاظ على حملهن خلال فصل الصيف تحديداً، قائلاً إن الاهتمام بشرب السوائل الباردة والعصائر من أهم عوامل الحفاظ على الجنين والأم معاً بصحة جيدة، وتناول الخضروات والفاكهة، كذلك عدم الخروج من المنزل خلال فترة النهار إلا للضرورة. أما السيدات العاملات فيمكنهنّ حمل زجاجة المياه الباردة في حقيبتهن باستمرار، كما أن ارتداء الملابس المريحة والقطنية سيساعد على تخطي هذه المرحلة الصعبة وتفادي التعرق الشديد، مما يُفقد الجسم السوائل خاصةً أن الجنين يأخذ غذاءه من جسد الأم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون