زيارة الشرع إلى واشنطن... من دولة راعية للإرهاب إلى شريك في مكافحته

زيارة الشرع إلى واشنطن... من دولة راعية للإرهاب إلى شريك في مكافحته

سياسة نحن والتطرف

الجمعة 7 نوفمبر 202512 دقيقة للقراءة

في مشهد غير مألوف، يستعد الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع لزيارة إلى واشنطن في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، يوقّع خلالها اتفاقاً لانضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وتفتح الباب أمام إعادة تعريف موقع دمشق في النظام الإقليمي والدولي، لكنها في الوقت ذاته تثير أسئلة وجودية حول الشرعية، الهوية، وتوازنات الداخل السوري.

تمثل الزيارة اختباراً لقدرة الشرع على تدوير الزوايا بين الداخل والخارج، بين الأمن والهوية، وبين البراغماتية والعقيدة. فهل ينجح في ذلك؟ أم أن دخول "نادي مكافحة الإرهاب" سيعيد إنتاج الاستقطاب العقائدي ويغذّي سرديات الجهاد في بلد أنهكته الحرب، وأرهقته السرديات؟

تُعدّ زيارة الرئيس الانتقالي إلى واشنطن أول زيارة رسمية لرئيس سوري منذ عام 1954، ما يجعلها لحظة مفصلية في مسار الخروج من العزلة السياسية والتموضع الشرقي الذي طبع السياسة السورية لعقود، بحسب الأكاديمي في القانون والعلاقات الدولية، والمستشار لدى رئاسة الجمهورية العربية السورية لما قبل عام 2011، جمال السيد أحمد. و"تتجاوز بُعدها الرمزي لتتحول إلى اختبار عملي لإعادة تعريف علاقة سوريا بالنظام الدولي، في ظل سعي واشنطن لإعادة هندسة التوازنات الأمنية في الشرق الأوسط، ومحاولة دمشق توظيف الانفتاح الأمريكي لرفع العقوبات، لاستعادة الشرعية الدولية، وتأمين استمرارية النظام"، يضيف.

وهي كذلك أيضاً بحسب الأكاديمي والباحث في العلوم السياسية وخبير الشؤون الأمريكية، ثائر أبو راس، إذ يقول: "منذ استقلال سوريا، اتسمت علاقاتها مع أمريكا بالتوتر والبرود، إذ انخرطت دمشق في المشروع القومي العربي، ثم تموضعت ضمن المعسكر السوفياتي خلال الحرب الباردة، واستمرت في الاصطفاف ضد واشنطن خلال حقبة الأسدين، متحالفة مع أطراف معادية للولايات المتحدة".

مع ذلك، تحمل الزيارة طابعاً تبادلياً بين طرفين ذوي مصالح متناقضة، فواشنطن تسعى لدمج سوريا في منظومة أمنية تشرعن وجودها العسكري وتغلق فراغات النفوذ، فيما يطمح الشرع إلى اعتراف سياسي يضمن له البقاء ويفتح باب إعادة الإعمار. وبهذا المعنى، "تتحول الزيارة إلى معادلة بين الشرعية والأمن، لا مجرد محطة دبلوماسية"، يضيف السيد أحمد، لرصيف22.

من دمشق إلى واشنطن... رحلة البحث عن شرعية دولية

منذ سقوط نظام الأسد أواخر 2024، يحاول الشرع إعادة تموضع سوريا في الخارطة الدولية. وتأتي زيارة واشنطن تتويجاً لسلسلة لقاءات ثلاثية في باريس، جمعت ممثلين عن سوريا، فرنسا، والولايات المتحدة. فيما سيحقق الاتفاق المرتقب لدمشق أهدافاً عدة، بحسب معهد الشرق الأوسط: "سياسياً، اكتساب شرعية دولية وإزالة التصنيفات الإرهابية عنها. وعسكرياً، الحصول على دعم تقني وتشغيلي من دول التحالف. مع تقويض احتكار قوات سوريا الديمقراطية (قسد) للشراكة مع التحالف استراتيجياً. والوصول إلى أنظمة تبادل المعلومات لفحص المجندين الجدد لديها ومنع تسلل داعش على الصعيد الاستخباراتي".

الكل يريد حصته "الاقتصادية" مقابل مساهماته؛ دول الخليج، وبالطبع تركيا التي تحاول تثبيت هيمنتها ومكاسبها الحدودية، بينما تراقب إسرائيل مدى توافق الترتيبات الأمنية السورية-الإسرائيلية تحت المظلة الأمريكية. أما روسيا، فهي اللاعب المشاغب نفسه الذي لطالما كانته

يقول الدكتور سمير تقي، وهو باحث أول في المجلس الأطلسي، إن "زيارة الشرع إلى واشنطن تأتي في إطار انخراط سوريا الجديدة ضمن تحالف مكافحة الإرهاب، على غرار النموذج العراقي، بما يكرّس تحولها إلى حليف عضوي للغرب واندماجها في البنية الأمنية الإقليمية بقيادة الولايات المتحدة، بما في ذلك رعاية أمريكية مباشرة لبناء الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية، مع اعتبار "الجهادية" العدو الرئيسي، وتقديم دعم هيكلي وتدريبي للجيش السوري الجديد".

كما تأتي الزيارة حسماً لخيارات استراتيجية رئيسية لموقع سوريا في الفضاءين الإقليمي والدولي. وتموضع إقليمي جديد ضمن مثلث التجاذب بين تركيا، إسرائيل، وإيران، مع تمكين واشنطن من صوغ الملف السوري داخلياً وخارجياً، بحسب تقي، الذي يشير خلال حديثه لرصيف22 إلى مخاوف واشنطن المستمرة من المشهد السوري الداخلي، بسبب نشاط داعش، الميليشيات الجهادية، والدور الإيراني المتصاعد.

وفي سياق متصل، يتناول معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى التحديات المتزايدة التي تواجه "قسد" بعد سقوط الأسد، أبرزها غياب الاعتراف الدولي، والضغوط التركية، وتدهور الوضع الأمني. هذا الأمر يعني أن غياب الدعم الأمريكي يجعلها عرضة لمواجهة مع أنقرة، التي اقترحت قيادة إقليمية لتحالف يضم العراق والأردن وسوريا، بهدف تهميش "قسد" وتقليص النفوذ الأوروبي، مع محاولة توسيع التفويض ليشمل حزب العمال الكردستاني (pkk)، مما أثار التحفظات. وبجانبها، أبدى العراق تردداً في تحمل عبء مكافحة داعش، بخاصة مع وجود آلاف المعتقلين العراقيين لدى قسد، واقتراب انتهاء مهمة التحالف على أراضيه. في المقابل، دعمت فرنسا وبريطانيا استمرار المهمة بقيادة واشنطن، وضغطتا لتخفيف العقوبات على دمشق، ترجيحاً للتنسيق مع حكومتها.

بدوره، يشير مركز تقدم للسياسات إلى أن تحول سوريا من "دولة راعية للإرهاب" إلى "شريك في مكافحته"، هو تحول رمزي وسياسي بالغ الأهمية، يمثل اعترافاً عملياً بدورها كشريك وليس خصماً، منوهاً بنوايا فتح ملف رفع العقوبات وإعادة الإعمار خلال الزيارة، في محاولة لاستقطاب استثمارات دولية وإعادة دمج الاقتصاد السوري في النظام العالمي. وفي المحصلة، تمثل الزيارة نقطة تحول دبلوماسية حاسمة في علاقة الجانبين، ضمن جهود دمشق لإعادة تموضعها واندماجها التدريجي في النظامين الإقليمي والدولي.

يقول أبو راس لرصيف22: "ترى واشنطن في هذه اللحظة فرصة نادرة لإعادة تشكيل المعادلة الإقليمية، عبر استقطاب سوريا نحو الفلك الغربي. فالتغيير الذي شهدته دمشق في 8 كانون الأول/ ديسمبر وما تلاه، لقي ترحيباً واسعاً في الأوساط الأمريكية، رغم أن بعض الدوائر كانت تفضل وجهاً آخر غير الشرع لقيادة المرحلة. إلا أن سلوك النظام الجديد، حتى الآن، يبعث على الارتياح في واشنطن، ويدفعها للسعي نحو تأطير العلاقة واستثمارها على نحو مؤسسي".

"استقطاب سوريا نحو الفلك الغربي"... هذا العنوان العريض هو السبب الذي يجعل البعض يصف الزيارة بأنها مفصل دولي وإقليمي، فهل ينجح الشرع في هذا الأمر؟ وبأي كلفة؟

يضيف: "من منظور أمريكي، الهدف الأول في سوريا يتمثل في تثبيت الاستقرار، وإبعاد النفوذ الإيراني وحلفائه عن الساحة السورية قدر الإمكان. وفي هذا السياق، سيحضر الملف اللبناني بقوة، مع بحث إمكانية مساهمة سوريا في بلورة ائتلاف إقليمي مناهض لـ "حزب الله"، ودعم الدولة اللبنانية في مواجهتها السياسية معه. حيث يكتسب هذا الطرح زخماً إضافياً في ظل تقارير تتحدث عن إعادة تموضع قوات "حزب الله" على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، بعد الضربات الكبيرة التي تلقاها العام الماضي من إسرائيل".

رفع العقوبات وسيلة لهزيمة داعش

يقدم الشرع نفسه كقائد براغماتي، قادر على اجتراح تسويات كبرى، مع السعي إلى تثبيت سردية مفادها أن سوريا لم تعد "دولة راعية للإرهاب"، بل شريك في مكافحته. لكن هذه البراغماتية قد تُفهم في بعض الأوساط على أنها "خضوع"، لا "حكمة". وعليه، يصبح الشرع عالقاً بين سرديتين، سردية دولية ترى فيه "رجل المرحلة الانتقالية"، وسردية داخلية قد ترى فيه "خائناً للمبادئ".

ذلك أن مكافحة الإرهاب قد تصبح وقوداً "للجهاد". فالانضمام إلى التحالف يُعد خيانة للحاكمية الإلهية التي تتبناها التنظيمات الجهادية على اختلاف مسمياتها. وعليه، فإن توقيع الشرع على الاتفاق قد يُستخدم لتغذية سردية مفادها أن "الشرع وجماعته خضعوا لحاكمية الغرب بدلاً من حاكمية الرب". وتالياً، قد يؤدي إلى تجنيد عناصر جديدة في صفوف التنظيمات المتشددة، و/أو انشقاق أجنحة داخل السلطة نفسها، خصوصاً من التيارات "الممانعة"، بجانب تصاعد عمليات انتقامية أو تفجيرات في مناطق النفوذ الحكومي، وتغذية خطاب "العمالة" في الإعلام المعارض، مما يضعف شرعية الشرع.

لكن "رفع العقوبات عن سوريا يسهم في هزيمة تنظيم الدولة ويمنح السوريين فرصة لمستقبل أفضل" بحسب بيان الخارجية الأمريكية الصادر صباح 1 تشرين الثاني/ نوفمبر، والذي جاء بلغة غير مسبوقة منذ أكثر من عقد، كما ذكر موقع سوريا الغد. في تحول لغوي من خطاب "العقاب" إلى خطاب "الفرصة" ليس في الصياغة فقط، بل نابع من قراءة استراتيجية جديدة داخل واشنطن، ترى أن الانكماش الاقتصادي في سوريا بات يهدد الأمن الإقليمي نفسه.

لكن نجاح هذه المعادلة يواجه تحديات داخلية في كلا البلدين، بحسب السيد أحمد. ويشرح: "في واشنطن، يتطلب رفع العقوبات توافقاً مؤسساتياً لا قراراً رئاسياً فقط. وفي دمشق، تواجه السلطة الانتقالية معضلة التوفيق بين الانفتاح على الغرب وحسابات الحلفاء الجهاديين، وقواعد شعبية تصحى رويداً رويداً من نشوة الانتصار على الأسد على واقع سلطة تفتقد لمشروع وطني داخلي جامع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى ثقافياً".

وبحسب تقي، هناك رفض معلن من القوى الجهادية لانضمام سوريا لاتفاق مكافحة الإرهاب علناً، بجانب رفض التوقيع على اتفاق أمني مع إسرائيل، بدعوى أنه يقدم مطالب إسرائيل كاملة بالمجان بعيداً من أي أفق لتسوية قضية الجولان. في المقابل، بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية أو الكونغرس، إن المصادقة على الانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، والاستعداد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، مع التزام الحكومة السورية بتحقيق السلم الأهلي والإصلاحات الداخلية، شروطاً حتمية لرفع العقوبات.

ويضيف: "لذا، تكّرس واشنطن نفسها، هي وليس أي جهة أخرى غيرها، كوسيط قوة منفرد في مثلث تركيا وإسرائيل وإيران، وتعمل على فرض معايير أمنية في سوريا تشمل دمج الميليشيات وشفافية حركة القوات، مع إشراك إسرائيل وشركاء إقليميين في الرقابة وتقاسم المكاسب". مشيراً إلى مساعٍ أمريكية لكبح التدخل التركي في العلاقة بين دمشق والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، بخاصة بعد مسار السلام الجاري بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا.

وكان وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، قد أشار إلى أن الرئيس الشرع سيناقش خلال زيارته إلى واشنطن قضايا من بينها رفع العقوبات المتبقية وإعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب. فيما أشار مسؤولون في واشنطن إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تدعم قيام الكونغرس بإزالة "عقوبات قيصر" المفروضة على سوريا بشكل دائم، بحسب أكسيوس، الذي نقل أيضاً عن المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توم باراك إشارته إلى إمكانية أن تلي زيارة الشرع إجراء جولة مفاوضات خامسة "مباشرة" بين إسرائيل وسوريا، بوساطة واشنطن.

هل تكون أول زيارة رسمية لرئيس سوري إلى أمريكا منذ عام 1954 بمثابة تكريس للخروج من العزلة السياسية والتموضع الشرقي الذي طبع السياسة السورية لعقود؟ أو أنها مجرد صورة جديدة لتعزيز حضور ترامب كـ"صانع صفقات" على الساحة الدولية؟

في هذا السياق، يرى المجلس الأطلسي أن عضوية سوريا في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب قد تزيد الثقة مع إسرائيل، من خلال إظهار جدية دمشق في مواجهة الجماعات التي تزعزع استقرار المنطقة، مع فتح الباب أيضاً أمام شراكة أكبر مع واشنطن. بجانب ذلك، من شأن تعاون دمشق ضد داعش جنباً إلى جنب مع قوات "قسد" أن يعزز يد حكومة دمشق في السعي إلى التوحيد السلمي والحكم الشامل.

من الاحتواء السلبي إلى الانخراط المشروط

يمثل توقيع الاتفاقية الأمنية بين سوريا وإسرائيل، والتي خضعت لمفاوضات مكثفة خلال الأشهر الماضية، نقطة محورية في أجندة واشنطن، بحسب أبو راس، حيث تولي الإدارة الأمريكية أهمية خاصة لهذا الاتفاق، لما له من أثر في تعزيز صورة الرئيس ترامب كـ "صانع صفقات" على الساحة الدولية. منوهاً أيضاً بأن رفع العقوبات عن سوريا من شأنه أن يفتح الباب أمام المستثمرين ورجال الأعمال الأمريكيين لدخول السوق السورية، وهو ما يتماشى مع ركائز السياسة الخارجية لترامب، القادم من خلفية تجارية واستثمارية، ويولي أولوية للفرص الاقتصادية في صياغة العلاقات الدولية.

لكن الزيارة، بحسب السيد أحمد، تعيد فتح ملف "الصراع على سوريا" كما وصفه الصحافي البريطاني باتريك سيل. فإقليمياً، تسعى دول الخليج للعودة اقتصادياً إلى سوريا، فيما تحاول تركيا تثبيت مكاسبها الحدودية بجانب مساعي الهيمنة. بينما تراقب إسرائيل عن كثب مدى توافق الترتيبات الأمنية السورية-الإسرائيلية تحت المظلة الأمريكية، مع تلك التفاهمات الأمنية الأمريكية-السورية غير المعلنة. وتبقى روسيا لاعباً مشاغباً في ترتيبات ما قبل وما بعد السلطة الجديدة. وعليه، تتحول الزيارة إلى مفصل دولي وإقليمي في إعادة ترتيب "الإقليم السوري" أكثر من كونها حدثاً ثنائياً معزولاً.

وفي الجانب الاستراتيجي، تمثل الزيارة انتقالاً أمريكياً من "الاحتواء السلبي" إلى "الانخراط المشروط"، عبر اختبار سلوك النظام السوري الجديد من دون رفع كامل للعزلة، الذي قد يتطلب أثماناً إضافية في ملفات مثل الجولان واتفاقات أبراهام. أما في دمشق، فإن ترجمة الشرعية الدولية إلى بنية داخلية مستدامة تظل التحدي الأكبر، كي لا تتحول الزيارة إلى حدث رمزي ينقلب على السلطة لاحقاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image