يقال إن تجربة الحياة الحقيقية لا يمكن عيشها إلّا عبر السفر والترحال، وإن المشي كممارسة هو مشيٌ في الذهن والذاكرة والتفكير.
ويقول فريدريك غرو إن المشي ضرورة لإعادة ترتيب دواخلنا وإنعاش الذاكرة. ولكن ما الذي يحدث عندما يصبح المشي استثناءً غير متأصل في مشينا اليومي نحو ذواتنا بالمعنى الفيزيائي والمعنوي، وماذا إن كان السفر اغتراباً ليس بمعنى الغربة عن الوطن وإنما اغتراباً عن ذات ألفناها؟
الفوضى "الوطنية"
كنت أصرّ دائماً على عدم ترتيب غرفتي، لأن فوضاها كما أسميها "خلّاقة" تمكنني من إيجاد ما أريد بشكل سريع وفعّال، وادعيت أنني لا أفهم منطق الترتيب، إذ يبدو لي مربكاً، ولم أستطع يوماً أن أشرح لأحد عن عدم قدرتي بشكل حقيقي على أن أقوم بمهمة الترتيب.
اعتقدت أن علاقتي مع الفوضى حدودها سريري والغرفة والبيت، إلى أن أدركت أخيراً أنها مفصل مهم في علاقتي مع العالم الذي أعيش فيه. وهكذا كانت علاقتي مع رام الله المدينة، ومع فوضاها، أفهمها وتفهمني، حيث كبرتُ وبدأتُ العمل وتعرّفت إلى شخوصها ولعنتها
اعتقدت أن علاقتي مع الفوضى حدودها سريري والغرفة والبيت، إلى أن أدركت أخيراً أنها مفصل مهم في علاقتي مع العالم الذي أعيش فيه. هذه الفوضى ذاتها ترتب علاقتي مع العالم من حولي، وهي لا تتجزأ من حركتي وطبيعتي في العمل والجلوس والحديث وحتى الطعام. وهكذا كانت علاقتي مع رام الله المدينة، ومع فوضاها، أفهمها وتفهمني، حيث كبرتُ وبدأتُ العمل وتعرّفت إلى شخوصها ولعنتها.
مدينتي شقراء عند البعض، وحلم عند آخرين، ملعونة من كثيرين، موصومة بالعار والخزي. مدينتي تعتريها التناقضات، وتغلفها الفوضى، لكن مدينتي ليست فقط الوجه القبيح بمعاني الكره المسقطة عليها، وليست وجهاً واحداً للخيانة.
مدينتي التي أود أن أحكيها اليوم، هي مدينتي التي أحببت وكرهت، التي لعنت ورثيت الوطن فيها، والمدينة هي ليست تلك التي أتيت منها فقط، هي صورة، وشكل من مدن أخرى كثيرة.
رام الله والمشي
كانت علاقتي مع المدينة مبنية بالأساس على المشي، وعلى الرغم مما تفرضه طبيعة أي مدينة من "تنظيم" وقمع للحركة الإنسانية في الفضاء العام، إلا أنني استطعت أن أقيم توازناً مع المدينة، كان المشي فيها بمثابة تمرين إنعاش في كل صباح.
في زحمة الحياة في رام الله، كنت أعتقد أنني أود الهروب من المكان. تأخذني الرحلة لمدن أخرى، تلك التي تبدو وكأنها مصممة بحبر على ورق، بدقة، لا مكان للخطأ فيها.
وهي -كما هو الحال في مدن أخرى- مزدحمة، لكن بشكل عشوائي، ملونة بألوان غير متناسقة، تنظم شوارعها بسطات غير قانونية، وفضاءها العام متداخل، قد تلوثك المياه المتسربة في إحدى الشوارع غير المرممة، ثم في ذات الشارع تستطيع أن تشم رائحة فرن الخبز الطازج.
صباحاً يعكّر مزاجك سوء المواصلات، حين تجبر على الانتظار ساعات وساعات من أجل الالتحاق بأعمالك. مساءً تروّق مزاجك جلسات سهر صيفية، حيث يبدو الهواء جميلاً، وسط مقهى تمتدُّ طاولاته حتى منتصف الشارع تملؤها ضحكات وعيون حقيقية، تختبئ وراءها هموم ومشاكل ومشاعر صادقة.
وفي اليوم التالي تعارك الرجل الذي لا يحترم الصف، ومن ثم تشكر الموظف الذي "سلّك لك" الأمور لأنه "خلص مش مشكلة بتنحل".
فكرة الهرب
في زحمة الحياة هناك، كنت أعتقد أنني أود الهروب من المكان، تبهرني فكرة الهرب، وإيجاد عالم آخر أبني فيه حركتي ومكاني. تأخذني الرحلة لمدن أخرى، تلك التي تبدو وكأنها مصممة بحبر على ورق، بدقة، لا مكان للخطأ فيها. يشكل التنظيم إيقاعاً للحياة والحركة، كل شيء هنا متوقع وضمن الخطة الأسبوعية لك.
المتحف والمطعم والمكتبة، حتى موعد البنك الذي كان يأكل نصف يومك، مضبوط في هذا المكان. كل شيء يعمل بانتظام، وأنت تعتقد أنه يعمل هكذا من أجلك. أما عن المقهى، فهو ليس المكان الذي تعمل وتعيش فيه حياة كاملة، تتعرف فيه إلى عيون حقيقية، ويصبح بيتاً لك، تعرف روّاده جيداً ويعرفونك، لأنه هنا مصممٌ لتبدو غريباً، ويبدو أن العالم كله يعمل هنا على إنجاز صفقات ومشاريع، فلا وقت لإضاعته. حياة سريعة، أعمارٌ ولحظات مسروقة، علاقات مؤجَّلة، مكبوسة في رزنامة، حتى ضحكاتنا هنا لا تشبه ضحكات البلاد.
تتغير المعايير، وتصبح "جودة الحياة" شيئاً متاحاً وطبيعياً، تدفع ثمنه باستمرار، حين تفترسك النوستالجيا، في تلك المدن التي لا تشبهك، تشعر بأنك على حافة من التماهي مع ما هو مصمم من أشخاص، فقد فقدت أسلوب حياتك، وثيابك، وطعامك، وأصحابك.
تبحث عن ملجأ لك فيه من الحياة طعماً، لأنك ولسنوات كثيرة ألفت الفوضى، بدت مفهومة بالنسبة لك، يمكنك أن تجد فيها نفسك، وأصحابك، وحياتك.
تتوقف وأنت تركض في المدن هذه، تتذكر أنك لم تعد تسمع صوت الطيور، ولم تعد تشم رائحة الخبز، ولم تعد تستطيع أن تمارس المشي اليومي الذي كنت تمشيه في البلاد، ولم تعد تستطيع أن "تمون" على حبيب، ولا يمكنك حقيقةً أن تجد أصدقاءك ذاتهم.
فتصير في رحلة من البحث المستمر عن شيء يسكت نحيب النوستالجيا المزعج، تعود بالصور، تحاول السفر، تكلّم صديقاً، تشيطن البلاد، تفعل أي شيء من أجل أن تقنع ذاتك أنك على ما يرام. ثم تكتب نصاً برومانسية عالية لنوستالجيا حياة ما، في محاولة للهروب المستمر من خوف الرتابة.
هل النوستالجيا حقيقية؟
قرأت نصاً عن صناعة البلاد والمدن والكواكب والأماكن في ذاكرتنا، تلك المدن والكواكب التي لا نجد لها أثراً على الخريطة، فتصبح خارج الفضاءات كلها، وتقبع هناك في رؤوسنا، نبنيها ونعطيها المعاني، من خيباتنا وانكساراتنا وأحلامنا وعواطفنا.
هناك وحش جالس، داخل قلبي، يكبر باستمرار ويهمس، يخبرني في كلّ نهار بأنني خائنة. خائنة للفوضى وللبلاد والأصدقاء، ولحياة كنت أتوق للهرب منها
هذه هي البلاد، وتلك هي المدن التي حمّلناها آلاماً وأحزاناً وابتسامات، وهي استقبلتنا، جعلتنا نشعر بأننا نمتلك المكان. ربما حتى هذا الشعور هو متخيل، في المكان الذي كان يبدو وكأنه ملاذ لانكساراتنا، ولحظات حبنا، وغضبنا من العالم. نعيش فيه اليوم نوستالجيا متخيلة، لأنه يبدو مألوفاً و"خلاقاً" وآمناً، وهو المهرب من كل شعورٍ بالاغتراب.
مع كل ما يحدث في العالم الذي يبدو أنه ينهار من حولي، أتساءل هل أنا حقيقة أحبّ الفوضى، أم أنها مألوفة لي، لأنها كانت تعطي المعنى اليومي في حياتي، أسميها "حقيقة" وافترض أن ما تحمله هذه المدن من إفراط في التنظيم على جميع المستويات معمارياً وبشرياً ولوجستياً، ليس بالحقيقي الذي أعرفه.
ومع هذا كلّه، هناك وحش جالس، داخل قلبي، يكبر باستمرار ويهمس، يخبرني في كلّ نهار بأنني خائنة. خائنة للفوضى وللبلاد والأصدقاء، ولحياة كنت أتوق للهرب منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



