لم يكن مسلسل "ضيعة ضايعة"، مجرد عمل كوميدي ساخر هدفه الضحك، بل كان بالنسبة لي تجربةً مختلفة. ما شجّعني على مشاهدته في البداية، هو إعجابي بالكاتب الدكتور ممدوح حمادة، الذي أمتعنا بأعماله الساخرة مثل "بطل من هذا الزمان"، وسلسلة "عيلة سبع نجوم"، وغيرهما. وبطبيعة الحال، أنا من عشاق الدراما السورية، وهذا العمل تحديداً جعلني أتعايش معه وكأنني ابن البيئة التي يتواجد فيها.
اليوم، بعد مرور أكثر من 17 عاماً على عرضه الأول، يُطرح السؤال نفسه: لماذا لا يزال "ضيعة ضايعة" حيّاً في ذاكرتنا؟ كيف تحوّلت شخصياته ومصطلحاته من مجرد عناصر كوميدية إلى رموز سياسية واجتماعية نستخدمها في حياتنا اليومية؟ وكيف استمرّت إسقاطاته في محاكاة الواقع، ليتحول من عمل فني إلى وثيقة يتعايش معها المواطن؟
كيف جاءت فكرة "ضيعة ضايعة"؟
لم تكن فكرة المسلسل جديدةً كلياً، بل استُلهمت من لوحة في الجزء الرابع من مسلسل "بقعة ضوء"، الذي عُرض عام 2004، بعنوان "جيران"، للكاتب نفسه. كانت هذه اللوحة تدور حول الصراع الأزليّ بين شخصيتَي أسعد وجودي، وشكّلت الشرارة التي ألهمت الكاتب والمخرج الليث حجو، فقد أدركا أن هاتين الشخصيتين توفران أساساً لمشروع أكبر يستحق أن يُروى في عمل مستقل هو "ضيعة ضايعة".
عندما يواجه المواطن ظلماً بسيطاً أو فساداً صغيراً، يستحضر شخصيّتَي جودي وأسعد، أو يستخدم عبارات مثل "يا لطيف" أو "كله مؤيد على الدفتر"، كوسيلة غير مباشرة للتعبير عن السخط
عند مشاهدتي الأولى للمسلسل، كان يدور في رأسي سؤال: لماذا اسم "ضيعة ضايعة"؟ لم يكن في وسعي الإدراك الشامل لهذا الاسم، ولم أكن أفكر ماذا تعني لي المقدمة أو جملة "هنالك نجاة وحيدة". كل ما كنت أنتظره حلقة جديدة.
حين تتحول الشخصيات إلى رموز
لطالما شعرت أنّ شخصية "أسعد خرشوف" (نضال سيجري)، ليست مجرد خيال، بل هي شخصية واقعية، وهو ما تأكد لي لاحقاً عندما قرأت أن الكاتب استلهمها من الواقع. في البداية، كنت أراه، كحال الكثيرين، ذلك الطيب الأجدب الذي لا يتعلم من أخطائه، وهذا ما كان يثير غضبي. ولكن مع إعادة المشاهدة، أدركت أن خلف هذه السذاجة يكمن رمز عميق للمواطن البسيط في مواجهة أي سلطة غاشمة. "سذاجة" أسعد ليست غباءً، بل هي انعكاس لفطرته السليمة وصوته الذي يضيع في ضجيج محيطه. ولهذا السبب، أصبح "أسعد" أيقونةً للمواطن المغلوب على أمره، الذي يطلق الناس اليوم على أنفسهم لقبه "زرنطيطة"، للتعليق بسخرية على واقعهم.
على الجانب الآخر، يقف "جودي أبو خميس" (باسم ياخور)، الانتهازي الذي يمارس تسلّطه على جاره، ويمتدّ هذا التسلط إلى داخل بيته في تعامله مع زوجته، مقدّماً صورةً للرجل الشرقي المتعصب قليلاً. ولكن، من المستحيل أن تكره "جودي" كرهاً كاملاً. فخفّة دم باسم ياخور وكاريزماه جعلتانا نبتسم لأسلوب نصبه ونبرّره بجملته الشهيرة "كله مؤيد على الدفتر". "جودي" ليس شريراً خالصاً، بل هو "ابن مصلحته" بطريقة طفولية. والأكثر تعقيداً، أنه يحبّ "أسعد" في أعماقه، فمن دونه يفقد "جودي" جزءاً من وجوده. هذه الازدواجية هي ما تجعله يمثّل ذلك "الشرّ الجذّاب" الذي نقابله في حياتنا، والذي يفسّر بقاءه حيّاً في ذاكرتنا، فهو لا يمثّل الشرّ البعيد، بل الفساد اليومي الذي قد نعرفه ونحبّه برغم كل شيء، ولا يزال الجمهور يستحضر أسعد وجودي في التعليق على الواقع، خاصةً حين يواجه المواطن ظلماً بسيطاً أو فساداً صغيراً، فتنتشر مقاطع "كله مؤيد على الدفتر" أو "يا لطيف" كطريقة ساخرة للحديث عن الأحداث اليومية، وكذلك عبارة "حبّوا بعض حبيباتي" لجودي عند وقوع المشكلات.
السلطة في "أمّ الطنافس"
نشأنا على فكرة أنّ قسم الشرطة هو المكان الذي يأتي منه العدل، لكن هذا العمل جاء ليحطّم هذه الصورة الساذجة في أذهاننا، من خلال الدولة التي تمثّلت في شخصية "أبو نادر"، رئيس المخفر.
لقد علّمنا المسلسل أنّ السلطة ليست دائماً مع الحق، بل هي شبكة معقدة من الولاءات والخوف، فالشرطي نفسه كان يخاف من عنصر الأمن أو المخابرات.
لطالما كنّا نعتقد أنّ الإنصاف يقتضي أن يكون ضمن دائرة معطف المسؤول، والأخير بدوره يكون تحت معطف المسؤول الأكبر منه.
تحوّل المسلسل إلى وثيقة اجتماعية تؤرّخ للحياة السورية قبل التحولات التي بدأت عام 2011، ونجح في تقديم صورة للحياة الريفية البسيطة، وعلاقة الناس بالسلطة، وهشاشة البنى التحتية.
قدّم المسلسل نماذج مختلفةً للسلطة، من النقيب "محسن" الذي كان يمثّل القوة الغاشمة التي لا يمكن معارضتها، إلى المختار الذي كانت كل سلطته تكمن في "ختم دائري". وفي حلقة "الختم" تحديداً، قدّم المسلسل درساً بليغاً لن أنساه: عندما أضاع المختار ختمه، تبخرت هيبته في لحظة، وشمت به من كان يخشاه بالأمس. كانت تلك رسالةً واضحةً، موجهةً إليّ وإلى كل مشاهد، عن أهمية احترام الأدوات التي تبقينا في مناصبنا، وأنّ السلطة التي لا تبني احتراماً حقيقياً مع الناس، ستسقط عند أول اهتزاز.
ولم ينسَ المسلسل واقعنا. ففي زيارة "أبو شوقي" ودعمه لـ"أسعد"، رأينا كيف انقلبت موازين القوى في الضيعة. هذا السلوك المجتمعي، حيث نتملّق للسلطة، كان درساً قاسياً في كيف أننا قد نمنح الاحترام للقوة وليس للقيمة. ولعل المشهد الأكثر دلالةً، كان مشهد المرة الوحيدة التي خاف فيها "جودي" من سرقة دجاجات "أسعد"، في إثبات كوميدي ومرير أنّ تسلّطه ليس إلا وهماً يتبخر أمام أي سلطة حقيقية.
لهذا السبب، برأيي، تجاوز "ضيعة ضايعة" حدود سوريا. لم يكن مجرد مسلسل عن قرية سورية، بل كان دراسةً عميقةً ومكثفةً في طبيعة السلطة والحكم في كثير من بلاد العالم الثالث. لقد استخدم ضيعةً صغيرةً ومنسيّةً ليحكي قصةً كبيرةً جداً عن العدالة، والفساد، والخوف، والتملق، وهشاشة الكراسي، ممثلةً في شخصيات مثل "أبو نادر" الخائف، وكاتب التقارير الذي يحسب خطواتنا حتى في طريقنا إلى البيت.
تحوّل المسلسل من عمل كوميدي إلى ما يشبه الوثيقة الاجتماعية التي تؤرخ للحياة السورية قبل التحولات الكبرى التي بدأت في عام 2011. لقد نجح العمل في تقديم صورة للحياة الريفية البسيطة، وعلاقة الناس بالسلطة، وهشاشة البنى التحتية، وكلها عناصر شكّلت جزءاً من الذاكرة السورية التي يحنّ إليها البعض أو يتأملها الجيل الجديد، وتأريخاً غير مباشر لهشاشة النظام.
في حوار مع صحيفة "البيان"، أكد الكاتب ممدوح حمادة أنّ الفن ليس قوةً سياسيةً لتغيير الواقع، وأنّ دوره يقتصر على "التنبيه إلى خللٍ ما". هذا التنبيه تجسّد في نهاية الجزء الثاني من المسلسل، حيث تم تصوير "اندثار الضيعة" في تحذير مبطّن ودعوة للتنبّه، برغم أنّ السيناريو كُتب قبل الحرب في سوريا. هذه النهاية التي لم تكن مصادفةً، جعلت المسلسل يبدو وكأنه نبوءة فنية لمصير البلاد، مما عزز من قيمته كأرشيف للذاكرة. تفاعل الجيل الجديد، الجيل الذي لم يعش فترة العرض الأول للمسلسل، مع العمل، وأصبح يكتشفه اليوم عبر منصات مثل يوتيوب وفيسبوك، ويتعامل معه كجزء من ذاكرة لم يعِشها مباشرةً. هذا التفاعل يعكس تحوّل المسلسل إلى "نافذة على سوريا التي لم تعُد كذلك". المشاهد الكوميدية تتحول إلى مادة للتحليل السياسي والاجتماعي، حيث يتم إسقاطها على الأحداث الراهنة، مما يثبت أنّ القضايا التي طرحها العمل كانت أعمق من مجرد مفارقات كوميدية.
بات كثيرون يشاهدون المسلسل اليوم كما لو أنه بطاقة بريدية من سوريا القديمة؛ ملامح الريف، علاقة الناس بالسلطة، وطريقة الحياة البسيطة.
من الشاشة إلى الشارع
برأيي، لم يكن "ضيعة ضايعة" مجرد مسلسل، بل كان وثيقةً حقيقيةً لِلَهجةٍ لم تكن معروفةً حتى عند الكثير من السوريين أنفسهم. لقد تعامل كثرٌ منّا مع المسلسل في بدايته وكأنّه "مترجم"؛ تعلّمنا أنّ "لتاسومة" هي الحذاء، و"سنطوحة" وصف للجسم المسطح، و"تتمظرت" تعني الاستخفاف، و"ملبّخ" تعني الملتصق، و"شمحيطة" وصف للمرأة المسكينة. وهنا تكمن عبقرية العمل، إذ لم يقدّم اللهجة بشكل سطحي، بل جعلها روح المسلسل. فجأةً، أصبح أشخاص من خارج المحيط في سوريا يستخدمون كلمات المسلسل لوصف أشياء كثيرة. لقد نجح المسلسل في كسر الحاجز النفسي بين اللهجات، وجعل من لهجة منطقة معيّنة لغةً يفهمها ويستخدمها الجميع.
الاستخدام اليومي لمصطلحات "ضيعة ضايعة" يثبت أنّ المسلسل لم ينتهِ بانتهاء عرضه، بل استمرّ كآلية دفاع نفسية واجتماعية للتعامل مع الواقع المرير
لم يعد "ضيعة ضايعة" مجرد مسلسل، بل أصبح القاموس المعتمد لهذا الجزء الجميل من الهوية السورية، فتعلّمناها ونحن نضحك. هذا النجاح اللغوي يعكس عبقرية العمل في تقديم اللهجة بشكل غير سطحي، بل كجزء أصيل من روح العمل.
التعليق الساخر على الواقع أكثر ما يميّز هذه المصطلحات، أي استخدامها كأداة للتعليق الساخر عليه. عندما يواجه المواطن ظلماً بسيطاً أو فساداً صغيراً، فإنه يستحضر شخصيّتَي جودي وأسعد، أو يستخدم عبارات مثل "يا لطيف" أو "كله مؤيد على الدفتر"، كوسيلة غير مباشرة للتعبير عن السخط.
هذا الاستخدام اليومي يثبت أن المسلسل لم ينتهِ بانتهاء عرضه، بل استمر كآلية دفاع نفسية واجتماعية للتعامل مع الواقع المرير.
في دراسة التأثير الاجتماعي والثقافي للهجات وتصوّرات أفراد المجتمع السوري اللغوية والاجتماعية، للطالب محمود لورانس الراضي، "ضيعة ضائعة" كان الأكثر تميّزاً من حيث اللهجة.
"حتى الناجي الوحيد لم يعد كذلك؛ اليوم، بعد كل ما حدث، تبدو هذه الجملة وكأنها لم تكن مجرد عبارة فنية، بل كانت نبوءةً عن مصير سوريا. لم تعد سوريا التي أحببناها في ذلك الزمن الجميل كما كانت، بل أصبحت قطعةً من الماضي. أهلها موزّعون بين لاجئ ونازح، ولم يعد لهم إلا الذكريات التي حفظتها مسلسلات العائلة ما قبل 2011. وهكذا، أصبح "ضيعة ضايعة" أكثر من مجرد كوميديا؛ إنه نافذة نطلّ منها على سوريا التي كانت، وصدى لتلك العبارة التي تخبرنا أنه في نهاية المطاف، حتى الأمل في النجاة لم يعد كما كان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



