من سوريا إلى تركيا فألمانيا… كيف يتغيّر معنى الجيرة في المنفى؟

من سوريا إلى تركيا فألمانيا… كيف يتغيّر معنى الجيرة في المنفى؟

العالم العربي وأوروبا نحن والتنوّع

الخميس 23 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

أن تكون لاجئاً أمر يجعلك تتعلّم الوحدة دون أن تفضحك ملامحك. تنهض، تضحك، تبكي، وتقول: "صباح الخير"، بصوتٍ لا ينتظر جواباً. ومع ذلك، تستمر في المحاولة، لأنّ الحياة، مهما قست، تغريك دوماً ببعض الأمل.

عام 2016، بدأت غربتي. غادرت سوريا كمن يخلع قلبه ويسير، ومررت بتركيا كمن يلتقط أنفاسه بين محطتين. لم تكن سهلةً، لكنها حملت شيئاً من الألفة وحنيناً لم ينكسر.

وحين بلغت محطتي الأخيرة، لم أكن أبحث عن وطن، بل عن توازن. دخلت ألمانيا محمّلاً بلهجات وذاكرة مشوشة، مؤمناً بأنّ العلاقات تبدأ بتحية أو كعكة منزلية، وبأنّ الثقة تُبنى بالتفاصيل الصغيرة. 

المسافة شرط الجيرة

سرعان ما اكتشفت أنّ العبور إلى هذا البلد لم يكن نهاية رحلة، بل بداية تمرين طويل على الصمت والانضباط وكبت الفضول الذاتي، في بلد لا يملك دفء المدن السابقة.

أدركت أنّ اللجوء ليس عبور حدود، بل عبور من حياة تُفهم بالإيماءة، إلى حياة تُدار بإشعارات رسمية. من علاقات تُبنى بكوب شاي، إلى علاقات تُدار بكلمات مرور

الجار هنا ليس خصماً ولا صديقاً، بل شخص يسكن بمحاذاتك، لا معك. يسمع خطواتك، يشمّ رائحة طبخك، ولكنه لا يتدخّل. قد يُلقي التحية، أو لا يفعل. يفتح الباب لك، أو لا يفكّر في ذلك. كل شيء محسوب، ولا تتقدّم خطوةً إلا بإذنٍ صريح.

ولأنني كنت حديث عهدٍ بهذه البلاد، ومرهقاً من فكرة الرفض، اخترت الحذر. لا موسيقى، لا دعوات مفاجئة، ولا أسئلة كثيرة. أقول: "هالو" إن صادفت أحداً على الدرج، وغالباً، كنت أقولها لدرجٍ فارغ… فقط لأبدو مندمجاً.

لحظات خفيفة تتسلّل إلى قلبك برغم التعب، كطفل يبتسم في المصعد؛ جار يردّ التحية، أو بازار متنقّل يعيد إليك ضجيج مدنٍ عرفتها جيداً.

كأنّ ألمانيا، على برودتها، مستعدة أن تمنحك دفئاً، إن أحسنتَ الإنصات.

ذاكرة لا تهدأ

مع كل لحظة دفءٍ عابرة، تبقى الذاكرة تقارن، دون قصد، بين ما هو كائن وما كان. فألمانيا، بكل نظامها وأناقتها، تمنحك مساحةً لتكون، لكنها لا تقترب.

ربما يظنني جاري طالباً أو موظفاً صامتاً، وهذا جيد. أن تُعامل كأنك شخص عادي، نوع من الرفاهية. هو لا يعرف صوتي، ولا شكل ضحكتي، ولا ماذا أُفضِّل: الشاي أم القهوة؟ نعيش على بُعد جدارين، لكننا أبعد من دولتين.

في الأشهر الأولى، لم أحتكّ بجيراني الألمان، ليس خوفاً من الرفض، بل كي لا أبدو ساذجاً أو متخلّفاً، كمن لم يفهم قوانين المكان: فهنا، لا تُطرق الأبواب، بل تُرسل الرسائل. لا تبدأ الحكايات من الدرج، بل من إشعار أو ورقة صامتة.

في الشقة التي سكنتُها في غازي عنتاب، في تركيا، لم يكن الباب مغلقاً تماماً. لا أعني الباب الخشبي، بل الفكرة. كنت في حيّ شعبي، نصفه سوري، والنصف الآخر أناس لا يطيقون السوريين، لكنهم مستعدون لتقبّلهم إن جلبوا معهم طبق كبّة. الجيران هناك لا ينتظرون إذناً. طرق الباب في التاسعة مساءً ليس تعدّياً، بل عادة.

ذات مرة، حدّثني صديقي أنّ جارته دخلت لترى من يبكي دون أن تنتظر ردّاً. وحين علمت أنّ والدته تبكي على فيديو قديم لشقيقه الذي قُتل في قصف جوي لنظام بشار الأسد السابق في سوريا، جلست تبكي معها.

كان الدرج مشتركاً، وكذلك البصل، والقصص التي تبدأ بتحية ولا تنتهي قبل آخر سيجارة.

كنا نتشارك الخلافات أيضاً التي تبدأ بصوت طفل أو بخطوة ثقيلة على الدرج، وتتطوّر لأكثر من ذلك، لتتدخّل فيها العائلات، وتُصبح حديث الحيّ. الجيران بعضهم طيب، وبعضهم محتقن بصمت، حتى أنه ينفجر في وجهك فجأةً. من منّا لا يحتاج إلى قليل من الدراما؟

برغم كل شيء، كنا نشاركهم الخبز، والقلق، وابتسامةً نصف صادقة تمرّ في الممر كهدنة مؤقتة. لم نمتلك الخصوصية هناك، لكن كان لدينا ودٌّ بدائي، وفوضوي، لا يحتاج إلى ترجمة.

أما في سوريا؟ فالجار يعرف تماماً متى نمت، ومتى عدت، وكل أخبار العائلة غير المهمة.

أذكر يوماً كانت أمي فيه تطبخ شوربة عدس، ونسيت الكمون. جاءت جارتنا بصحنٍ صغير وقالت: "نسيتي تحطي كمون، مو؟"، كانت تعرف رائحة النقص.

في قريتي "بقرص" في ريف دير الزور، الجيرة تبدأ بمائدة. يجتمع الجيران، يتعارفون، وتبدأ الهدايا: كاسات، وطناجر، وأغطية. لا يُنظر إليها كصدقة، بل كـ"حقّ للجيرة". كأننا نعلن: "لسنا غرباء بعد الآن". كنا نعيش داخل بعضنا كما تعيش الأشياء في صندوق واحد: تختلط، وتتآكل، لكنها تبقى معاً. لا أحد يقع تماماً، وإن وقع، يقع في يد أحدهم.

أما هنا في ألمانيا، فأقع بصمت، في مدينة لا أحد يعرف فيها أنني بكيت أمس، أو أكلت اليوم. أضع سماعاتي وأمشي، ليس لأنني أحب الموسيقى، بل لأدّعي ما هو عكس حقيقتي.

النوايا تُقاس بالهدوء

هذه العزلة، التي تبدأ بسماعات الأذن، لا تبقى خارجك فقط. شيئاً فشيئاً، تتحوّل إلى مهارة داخلية: التخفّي، وضبط الإيقاع، وتقليص الصوت.

مع الوقت، تصبح نمط حياة، تدفعك إلى عبور صامت نحو عالم لا يفهم الشعور، بل يُترجمه إلى سلوك مضبوط بدقة.

أدركت أنّ اللجوء ليس عبور حدود، بل عبور من حياة تُفهم بالإيماءة، إلى حياة تُدار بإشعارات رسمية. من علاقات تُبنى بكوب شاي، إلى علاقات تُدار بكلمات مرور.

الجيرة هنا تشبه اليانصيب؛ قد تكسب قلباً دافئاً، أو تخسر أعصابك بسبب وقع خطواتك. 

ثم يأتي "الاندماج"، ذلك الشبح الذي يلاحقك في كل ورقة وحركة ودرس لغة.

في البداية، تظنّه مهمةً عليك إنجازها بسرعة كأنّك في سباق. لكنك لاحقاً تفهم أنه لا يعني أن تصبح مثلهم، بل أن تتقن الصمت. أن تُفلتر نفسك، تحوّل قصصك إلى ملفات PDF، وتبتسم ابتسامةً لا تعني شيئاً، لكنها جزء من "النظام". 

أتعلّم ببطء أنّ الطيبة والعفوية هنا تحتاجان إلى توضيح، وأحياناً تكونان خطراً.

جيرة صامتة واندماج حذر

بدا لي أنّ أكثر ما يُجسّد هذا الانزلاق من العفوية إلى الحذر، هو الجار. لا كفرد، بل كرمز. مرآة صغيرة تعكس علاقتك بالمكان.

كنت أراقب جاري، السوري الآخر، القادم من منطقة تُقدَّس فيها الجيرة أكثر من الزواج. كان يحاول فتح أحاديث صغيرة في المصعد، لكن الردود لم تأتِ. بعد أشهر، اكتفى بـ"هالو"، وبعد عام، صار يشيح بوجهه. هو لم يتغير، فقط تعلّم.

العلاقات تبدأ هنا بإيميل، لا بفنجان قهوة، وتنتهي بعدم الرد.

وأنا أكتب أفكّر في جاري الألماني الذي لم أتمكن من محادثته منذ سكنت هنا. ليس لأنه سيئ، بل لأنه غير معني. يعيش كما يُفترض أن يعيش: دون احتكاك. وأنا أعيش كما لا يُفترض أن أعيش، متوتراً، ومترقّباً.

يبدو جاري بارداً، وساكناً، ليس لأنه غير ودود، بل لأنه ابن نظام لا يثق بالعفوية. الباب هنا ليس عبوراً بل جدار. وطرقه ليس تحيّةً بل اختراق. 

جاري وصبري

العلاقة اليومية تبدأ بصمت مهذب، لكنها لا تبقى كذلك. بل تتحوّل إلى اختبار دائم للصبر والتفسير، إذ يمكن لتفصيلة صغيرة أن تُفهم كجريمة. مثل "تراند الملوخية"؛ سيدة سورية أرادت إكرام جارتها بطبق ملوخية، لتقرع بابها بعد ساعات الشرطة. الجارة أبلغت عن "مادة خضراء داكنة مشبوهة في طبق" ولم تتكبّد عناء سؤال جارتها عن المحتوى، بل فضّلت طلب البوليس.

الجميع ضحك، لكن خلف الضحك سؤال: هل تكفي النوايا الطيبة هنا؟ لا، يحتاج الكرم إلى ترجمة.

في سوريا، الجار يقتحم ليشمت بخسارة فريقك. أما هنا، فالتحذيرات تُرسل ببريد قانوني إن علّقت بساط الحمام على شرفتك.

صديقتي رزان اضطرت إلى الانتقال من منزلها بعد بلاغات من جارتها عن عنف لم يحدث، بسبب "صديق" ظنّته خطراً لمجرّد أنه عربي، فهو معنِّف محتمل، حسب ما تظن.

وهي نفسها الجارة التي تزورها وتشرب الشاي عندها وتأكل طعامها. هي تحب "رزان"، وتكره خلفيتها. 

سيكولوجيا الكراهية الجاهزة 

الكراهية لا تحتاج إلى سبب دائم، بل ربما إلى ذريعة فحسب. فكما شرح الأنثروبولوجي الفرنسي غوستاف لوبون، الجماعات لا تحتاج إلى منطق لتبني أحكامها، بل تكفيها الصور النمطية. وعلى هذا المنوال، لم تحتج جارة رزان إلى دليل، بل استندت إلى قالب جاهز فقط.

لكن الصورة ليست دائماً قاتمةً. ذات يوم، رأت جارتي المسنّة قطتي "لطيفة"، فطلبت أن تحتضنها، وبكت لأنها تشبه قطتها الراحلة. بعد ذلك، صارت تترك على عتبة بابي طعاماً لـ"لطيفة". لم نتكلم، لكنني شعرت بحنان تجاه قطتي.

وصديقي الذي يعيش في بلدة صغيرة تبنّاه جيران مسنّون كابن، وآخر يعاني من حيّ يُعامَل فيه اسمه العربي كتحذير.

الجيرة هنا تشبه اليانصيب؛ قد تكسب قلباً دافئاً، أو تخسر أعصابك بسبب وقع خطواتك. 

بين سوريا وتركيا وألمانيا تغيّر كل شيء، لكنني لا أزال أحاول أن أتأقلم، وألّا أزعج أحداً، وأن أنجو بعد أن أدركت أنّ الاندماج لا يعني أن أحفظ جُملاً، بل أن أتغيّر بهدوء

حنين لـ"الفوضى"

شيء في داخلي يتبدّل. كنت أشتكي من الضجيج في عنتاب، من صياح الباعة والأطفال والجيران. لكنني اليوم أشتاق إليه. صاحب بيتي هناك كان يوزّع سلال طعام علينا في العيد. لم أكن أحتاجها، لكن جاري السوري قال لي: "إذا شافك ما بتحتاج، بيرفع الإيجار علينا كلنا… اقبلها واسكت".

في المقابل، هنا لا أحد يدقّ بابك في العيد. العلاقة عبارة عن ممارسات لا عواطف. بينما في سوريا، كانت العمّة فرات، تترك كيس خضروات على بابنا دون أن تطرق الباب. "الله يحبّ اللي يعطي وما حدا يدري بيه"، كانت تقول.

بين سوريا وتركيا وألمانيا تغيّر كل شيء، لكنني لا أزال أحاول أن أتأقلم، وألّا أزعج أحداً، وأن أنجو بعد أن أدركت أن الاندماج لا يعني أن أحفظ جُملاً، بل أن أتغيّر بهدوء، وأن أصمت حين كنت أرفع صوتي، وأبتسم حين كنت أغضب.

أقول لنفسي إنّ جاري هنا لا يعرف اسمي، وهنا أنا أحاول، وأتغيّر... لكنني لا أنسى من أين أتيت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

باب رصيف22 مفتوح لكُل من يروي عمّا يحصل في سوريا، وينقل الواقع، بعيداً عن السردية التي يُراد بها تعميةً ما، أو إنكاراً شبيهاً بما كان يحصل أيّام البعث.

كي يبقى صوتكم عالياً

Website by WhiteBeard
Popup Image