وصلت إلى باريس منذ سبع سنوات خفيفة كريشة، أتنقّل في محطات القطار "مثل الهوا اللي مبلّش عَ الخفيف"، يزيدني صوت فيروز الآتي من وراء البحار شغفًا بالحياة وتفاصيل المهاجرات والمهاجرين، التي لا يلتقطها سوى من يشبهنا "يا نحنا المنسيِّين".
كنت خفيفة كريشة إلى انتفخ بطني بطفلي الأول، فصارت فيروز عرّابة له.
حاولت طيلة فترة حملي أن أنقل جينات حبّ فيروز له، أجلس في القطار عكس خطّ سيره، تغني فيروز عن الحب والوطن والحنين، فـ "تقف النجمة عن دورتها"، أحس بركلة طفلي فأسمعها تقول: "لا تخافي يا فتاتي فالنجوم تكتم الأسرار".
أقول لابني لا تخف أنت أيضًا، ففي الجلوس قرب النافذة عكس خط سير القطار، نوع خاص من الراحة، يشبه العودة أو إلقاء نظرة أخيرة. فمن المريح أحيانًا أن نأخذ قليلاً من الوقت لنلقي نظرة على ما فاتنا أو ما تركناه وراءنا، نحن الذين لا نتوقف عن الركض في اتجاه الغد تاركين أعمارنا تتسرب منا كحبات الرمل في المهجر.
ورغم سرعة الحياة وما تغير فيها بعد مجيء إبني، إلا أنني لا زلت استعين بفيروز في كل رحلة، يشتتني صوتها دون قصد ويجمعني بغراء الذكريات.
"بعدك على بالي يا قمر الحلوين
يازهرة تشرين يا دهبي الغالي"
اليوم جلست في مقعدي المعتاد في القطار لم أكن وحيدة، فلطالما كانت فيروز جليستي الدائمة في القطارات، بدأ صباحي بإيداع ابني الذي قارب العامَين لدى جارتي المهاجرة التي ترعاه، أخذني مقعدي وصوت فيروز كالعادة عكس خط سير القطار نحو الماضي وذكرياتي في مستشفى سان جيغمان أون لاي، إلى قسم التوليد، ليلة هالوين من سنة 2022.
الولادة... ليلة الهالوين وعطل معلوماتي
"من أرض الخوف منندهلك يا شمس المساكين"
قرر طفلي ليلتها المجيء، ذهبت مع زوجي إلى المستشفى حيث كان من المفروض أن ألد، في الطريق أيضًا رافقتنا فيروز بصوتها وأغانيها. ولدى وصولنا، سكتت عن الغناء فجأة حين قال أحد الإداريين في المستشفى:
"Vous ne pouvez pas accoucher ici, on a un problème informatique"
"لا يمكنك أن تلدي هنا، لدينا عطل معلوماتي".
شعرت بالخوف ولم أفهم في الحقيقة تأثير ذلك العطل على ولادتي، ولم أحاول أن أفهم، جلست أنتظر ملفي كي يتم تحويلي إلى مستشفى آخر.
لقاء سلمى ودنيز... غربتين وتمييز عنصري
"وحدُن بيبقوا متل هالغيم العتيق"
جلست إلى جانبي في قاعة الانتظار، تونسية أخرى تُسمى سلمى، تعيش في باريس منذ خمس سنوات وأنجبت طفلين هنا وطفلة في تونس. تحدثنا قليلاً عن تجربة الولادة في فرنسا، كنت أريد أن أطمئن من حديثها عن تجربتها وعن وسائل الراحة هنا، وانتظرت أن تقول لي أن كل شيء سيكون على ما يرام، فأمي التي اعتادت أن تقول ذلك لم تستطع المجيء، لكن سلمى لم تفعل، بل حدثتني بمرارة عن الشعور بالغربة الذي رافقها منذ دخلت المستشفى، والذي تفاقم عندما وجدت نفسها محاطة بأجهزة طبية لا تفهمها ولا تعرف لماذا تحتاجها.
ما زلت أذكر كلماتها حين أخبرتني: "شعرت بالخوف وبغربة أكبر وسط النظام الطبي المعقد، أحسست وكأنني جزء من تجربة علمية لا أكثر".
جاءت ولادتي في ليلة الهالوين 2022، فذهبت مع زوجي إلى المستشفى، حين قال أحد الإداريين: "لا يمكنك أن تلدي هنا، لدينا عطل معلوماتي"، شعرت بالخوف ولم أحاول أن أفهم، وجلست أنتظر تحويل ملفي ونقلي إلى مستشفى آخر في سيارة الإسعاف
تداخلت التكنولوجيا والأجهزة مع الحنين والغربة في تجربة الولادة في المهجر لسلمى، فزاد تعقيد التجربة النفسية لديها وزاد ذلك من خوفي. حال ذهاب سلمى، جاءت دنيز لتجلس بجانبي وتزيد من فزعي في ليلة الهالوين تلك بحديثها.
حدثتني دنيز، ذات الأصول اللبنانية، عن تجربتها مع الولادة والتي كانت مختلفة تمامًا عن توقعاتي. لقد فاجأني التمييز الذي واجهته في مستشفى باريس. قالت لي: "منذ اللحظة التي دخلت فيها، شعرت بأنني غير مرحب بي. طُلب مني الانتظار لفترة طويلة دون تفسير واضح، وكأن آلامي لم تكن ذات أهمية".
تابعت دنيز حديثها موضحة كيف أن الطاقم الطبي لم يأخذ شكواها على محمل الجد، لأنها وحسب رأيهم كانت تبالغ في وصف آلامها، وهو شيء شائع تعاني منه الكثير من النساء المهاجرات هنا. قالت: "لم أُعامل كغيري من المريضات، شعرت وكأنني دمية بين طاقم لم يتعاطف مع وضعي.".
ما تحدثت عنه دنيز هي مشكلة جدية تتعلق بالتحيز العنصري والتمييز في الرعاية الصحية، ويشار إليها غالبًا بـ "التحيز العنصري في إدارة الألم". يتعلق الأمر بالاعتقاد الخاطئ وغير المدعوم علميًا بأن الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم غير بيض، وخصوصًا المهاجرات من شمال أفريقيا أو من أصول غير بيضاء، يبالغون في ألمهم.
يمكن أن يؤدي هذا الاعتقاد إلى تقليل أو إهمال ألم الولادة عند النساء المهاجرات من قبل المتخصصين في الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى عواقب خطيرة، وخاصة أثناء الولادة.
وصلتُ إلى باريس منذ سبع سنوات، وزادني صوت فيروز شغفًا بالحياة وتفاصيل المهاجرات والمهاجرين، التي لا يلتقطها سوى من يشبهنا "يا نحنا المنسيِّين".
وقد أظهرت الدراسات أن المتخصصين في الرعاية الصحية قد يستخفّون بشكل غير مقصود بألم النساء المنتميات للأقليات العرقية، بناءً على الصور النمطية العنصرية والأفكار الخاطئة حول تحمل الألم بناءً على العرق. قد يتسبب هذا التحيز في تقليل تقدير الألم الحقيقي وتقديم علاج غير مناسب أو غير كافٍ، مما يعرض صحة النساء للخطر.
أثناء الولادة، قد لا تتلقى النساء من هذه الفئات نفس جودة الرعاية التوليدية التي تحصل عليها النساء البيض، مما قد يؤدي إلى زيادة خطر حدوث مضاعفات. وقد أفادت القابلات والمرضى بأن هذه التحيزات قد تؤدي إلى تجارب مؤلمة أثناء الولادة، حيث لا يتم أخذ ألم واحتياجات النساء على محمل الجد.
تأثير التقنيات البيو-طبية على تجربة الولادة
"يا رَيْتا بتخلص هالغربة .. تَ قلبي يرتاح"
شهدت الحدود بين الجنس والنوع تطورًا كبيرًا بفعل التقنيات البيو-طبية منذ الفترة التي تلت الحربين العالميتين. وقد تسارعت هذه التغيرات بشكل ملحوظ بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أثرت بشكل واسع على مجالات متعددة مثل التكاثر البشري، والحمل، والإنجاب، ومنع الحمل، وكذلك الدراسات الجنسانية.
من بين التحولات البيو-طبية الهامة في الفترة المعاصرة، يمكن أن نذكر متابعة الحمل والولادة، وخاصة منذ عام 1945، حيث شهدت العديد من البلدان انتشارًا شبه شامل لخدمات الاستشفاء المرتبطة بالولادة. ولم يتعلق هذا التطور بمسألة تحسين الرعاية الصحية فحسب، بل شكل أيضًا نقلة نوعية في كيفية تعامل المجتمعات مع الولادة كحدث طبي واجتماعي.
بهذا أصبح للتكنولوجيا دور حاسم في تشكيل تجارب الولادة الحديثة، حيث تزايد الاعتماد على الأدوات الطبية التي تؤثر على الطريقة التي نعيش بها، نحن النساء عامة، والمهاجرات خاصة.
تعتبر مسألة الأدوات في التوليد مسألة قديمة جدًا، ولها الكثير من التأثيرات على القدرة على التصرف أو القيود التي يتم فرضها على أجسادنا وعلاقتنا بها، وهي علاقة مهمة جدًا في تجربة الولادة.
بعد أن انتهى الإداري من تحضير ملفي والتأكد من صحة كل معلومة فيه، أصبحت جاهزة للانتقال إلى المستشفى الآخر. رفض الطاقم الطبي أن أذهب بسيارتي خوفًا من ارتفاع ضغط الدم أو هبوطه. خرجت من المستشفى إذن في سيارة إسعاف، كنت محاطة بممرضين اثنين: أحدهما يتابع دقات الجنين، والآخر يراقب ضغط دمي.
كبّر صوت سيارة الإسعاف وضوؤها، خيالات الهالوين في رأسي، وكأن صخب تلك الليلة المخيفة امتزج برياح الخريف وبترقبي للولادة، لأدرك من خلاله بأنني مقبلة على تجربة مغايرة تمامًا لتجربة نساء عائلتي وصديقاتي في الولادة.
أسكتُّ ذلك الصوت بحفيف الاشجار وأوراقها وبغناء فيروز وهي تقول "ما حدا يعرف بمطرحنا غير السما وورق تشرين".
التكنولوجيا والتحكم في الجسد… الولادة في فرنسا
في فرنسا، تسود التكنولوجيا بشكل كبير في رعاية النساء أثناء الحمل والولادة. يتم استخدام أدوات تقنية متعددة لمراقبة وتوجيه العملية، بدءًا من التخدير وصولًا إلى المراقبة الدقيقة للتقلصات.
هذه الأدوات لا تؤثر فقط على سير عملية الولادة، بل تلعب أيضًا دورًا مهمًا في كيفية إدراك المرأة لتجربتها مع جسدها أثناء عملية تعد فطرية. يساهم التخدير النصفي مثلاً في قطع إحساس المرأة بالتقلصات، مما يضطر القابلة إلى أن تصبح مترجمة لهذه الأدوات التقنية، تخبر المرأة بما يحدث في جسدها وتشجعها على التصرف بطريقة معينة. هذا التحول في الديناميكية قد يولد شعورًا لدى المرأة بأنها جزء من آلة طبية معقدة، بدلاً من أن تكون الشخصية المركزية والفاعلة.
عانت دنيز، ذات الأصول اللبنانية من أن الطاقم الطبي لم يأخذ ألمها خلال ولادتها على محمل الجد، وهي مشكلة في الرعاية الطبية تتعلق بالتحيز العنصري في إدارة الألم، ومنبعها الاعتقاد الخاطئ بأن الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم غير بيض يبالغون في ألمهم
بهذا، ورغم أن أغلب الولادات في فرنسا تكون طبيعية وليست قيصرية مثل تونس، حيث تمثل الولادات القيصرية في فرنسا 20% مقابل 50% في تونس، فإن مجموعة الوسائط التقنية في فرنسا تؤدي إلى نوع من التحكم في إحساس المرأة بجسدها وإرباك هويتها العميقة، مما يعززه طبعًا إحساس الغربة لدى النساء اللواتي يلدن في المهجر.
نجد في تونس وخاصة في المستشفيات العمومية اختلافات جوهرية في كيفية تعامل النساء مع الولادة في فرنسا. ففي تونس مثلاً، على الرغم من استخدام بعض الأدوات التقنية، فإن التركيز الأكبر يكون على علاقة المرأة بجسدها. فتتمكن من السيطرة على العملية، مما يساهم في بناء قدرتها على التصرف كفاعل أساسي في هذه التجربة.
لقاء قابلة تونسية وأم من التوغو
"لا تندهي ما في حدا"
دخلت غرفتي التي كانت توفر كل سبل الراحة، وتشبه غرفة نزل فخم. جاءت القابلة التونسية "مروى" قائلة: "بنت بلادي مرحبا، مرحبا، بقدرة ربي ما فمّا كان الخير، سويعات ويبدأ ولدك بين يديك".
طمأنتني كثيرًا وحدثتني عن جودة المعدات وخبرة الطاقم الطبي الذي يتكون من أكفأ الأطباء والقابلات المهاجرين مثلي، ثم نصحتني بالمشي في أروقة المستشفى وحديقته لتتيسير الولادة.
وجدت في نزهتي تلك إيوكو، امرأة من التوغو أنجبت طفلتها قبل أيام قليلة فقط. حدثتني إيوكو عن صعوبة ولادتها وعن مدى سعادتها لأنها أنجبت ابنتها في فرنسا. قالت إنها نجت بفضل تجهيزات المستشفى حيث توفرت لابنتها التي وُلدت قبل موعدها رعاية طبية على أعلى مستوى، لكنها أيضًا حدثتني عن حنينها لعائلتها وإلى الطريقة التقليدية للولادة في بلدها، حيث تلعب العائلة دورًا أكبر في توجيه المرأة ومساعدتها على التفاعل مع جسدها. قالت لي: "في بلدي، نعتبر القابلة جزءًا من الأسرة. هنا، التكنولوجيا هي التي تسيطر على كل شيء. لذا، هناك نوع من الجماعية التي تتكون في النهاية وتنتج تجربة الولادة. في التوغو، نجد هذه الجماعية، ولكن بشكل مختلف قليلاً، إذ أن دور الفاعلين الآخرين يكون موجهًا أكثر نحو بناء قدرة المرأة على التصرف، أي بناء المرأة على أنها الشخص الذي يلد".
أسعدني حديث إيوكو وطمئنتني كثيرًا، لكن حديثها عن عائلتها ذكرني بأمي التي لم تستطع المجيء، وبصعوبة غياب العائلة في مثل هذا الحدث.
التكنولوجيا والولادة… تأثيرات متشابكة
"شو بدّي بالبلاد الله يخلّي الولاد"
بالإضافة إلى الأدوات والتقنيات المستخدمة خلال عملية الولادة، هناك تأثيرات أوسع للتكنولوجيا على كيفية إدراكنا للجسد والجنسانية. تلعب الوسائط التقنية في فرنسا دورًا كبيرًا في تشكيل تجربة المرأة أثناء الولادة، وتسهم في تغيير كيفية ارتباطها بجسدها. قد تُفهم هذه الأدوات على أنها ضرورية لضمان ولادة آمنة، لكنها في الوقت نفسه قد تخلق حواجزاً بين المرأة وتجربتها الفطرية لأنها ببساطة تعتمد على التوجيه الخارجي بدلاً من الاستماع إلى إشارات جسدها الطبيعية.
يعدّ استخدام التكنولوجيا في تونس مثلاً أكثر تحفظًا خاصة في المستشفيات العمومية. إذ تلعب القابلة دورًا رئيسيًا في توجيه المرأة ودعمها، مما يعزز شعورها بالسيطرة والتفاعل المباشر مع تجربتها.
ولكن كيف يمكننا فهم هذه الفروقات في سياق أكبر؟ قد يكون الأمر مرتبطًا بتاريخ كل بلد وتطوره الاجتماعي والسياسي. ففي فرنسا، ساهمت الدولة في تطوير نظام صحي متقدم يركز على الكفاءة والسلامة، مما أدى إلى زيادة الاعتماد على الوسائل العلمية في كل جانب من جوانب الرعاية الصحية. في تونس، ورغم التقدم الطبي، لا يزال هناك احترام أكبر للعناصر التقليدية والتجربة الشخصية في الرعاية الصحية.
"يا رَيْتا بتخلص هالغربة .. تَ قلبي يرتاح"
تحمل تجربة الولادة في المهجر في طياتها أبعادًا إضافية من الحنين والصراع الداخلي. فبالنسبة للنساء المهاجرات، تمثل الولادة في بلد جديد مواجهة مع ثقافة وتجربة طبية مختلفة تمامًا عما اعتدن عليه. يزيد هذا التباين عندنا نحن المهاجرات من شعور الاغتراب، حيث نجد أنفسنا مجبرات على التكيف مع نظام طبي قد لا يتوافق تمامًا مع معتقداتنا أو توقعاتنا. وهكذا تصبح الولادة أكثر من مجرد حدث طبي، بل تجربة إنسانية تعكس التداخل بين الحاضر والماضي، وبين التجربة التكنولوجية والتجربة الإنسانية.
فالحنين لا يتعلق فقط بالأماكن والأشخاص، بل يشمل أيضًا التجارب التي شكلتنا. تحمل الولادة في بلد أجنبي إذن طابعًا مزدوجًا: فهي لحظة هي فرح واستمرارية، ولكنها أيضًا تذكير بما فقدناه وما نشتاق إليه. تصبح الغربة في هذا السياق أكثر من مجرد بُعد جغرافي؛ إنها حالة نفسية معقدة، تتأرجح بين الوطن والمهجر.
اشتقت في تلك اللحظة إلى أمي وأخواتي، إلى فرحتهنّ بالضيوف المهنئين إلى كؤوس الزرير والحلويات التونسية، اشتقت إلى العائلة وتفاصيل تونس البعيدة جدًا، كم كنت وحيدة وكم أدركت وحدتي في آلام الولادة؛ مضت الساعات بطيئة أحاول نسف الوجع والبطء بأنّي سأحتضن عمّا قريب ابني الذي سيبدد وحدتي.
بين الأدوات والحنين… أين نحن
"يا عصفور الشوك أهلك داروا
بِهالسما وما بعرف وين صاروا"
في نهاية المطاف، تتشابك هذه الأدوات الجديدة مع الحنين لتشكيل تجربة معقدة للولادة في المهجر. فرغم أن هذا التطور العلمي أداة لتحسين الرعاية الصحية وضمان السلامة والراحة، إلا أنه يزيد من شعور المرأة بالاغتراب. تجمع تجربة الولادة في المهجر إذن بين هذه العناصر المتناقضة، حيث تجد المرأة نفسها جزءًا من تجربة أكبر تعكس التداخل بين الوطن والمهجر وجانبًا مهمًا من تجربة الهجرة نفسها يتمثل في البحث عن توازن بين الانتماء والتكيف، بين الحفاظ على الهوية والتعامل مع الواقع الجديد.
في هذه الرحلة، تلعب الولادة دورًا محوريًا، حيث تصبح رمزًا لمواجهة التحديات التي تفرضها الغربة وتقدم هذه البلدان التي نهاجر نحوها.
"وأنت كالنهار .. تشرق في المدينة"
بعد ساعات من المشي في حديقة المستشفى عدت لغرفتي وقد غلبني ألم التقلصات، فأخذتني القابلة التونسية إلى غرفة التوليد، وخلال دقائق جاء الطبيب المبنج التونسي أيضًا، وضع حقنة التخدير، فتلاشى الألم فجأة. وضعت القابلة بعد ذلك الكثير من الأدوات والأجهزة، وقد طمأنتني على الأرجح تلك الآلات، وكيف لا؟ وهي التي مكنتني من متابعة دقات قلب ابني وعملية الولادة بدقة.
بالنسبة للنساء المهاجرات، تمثل الولادة في بلد جديد مواجهة مع ثقافة وتجربة طبية مختلفة عما اعتدن عليه، يزيد هذا التباين عند المهاجرات من شعور الاغتراب، حيث يجدن أنفسهن مجبرات على التكيف مع نظام طبي قد لا يتوافق تمامًا مع معتقداتهن
بعد ساعات بدأت الولادة، لم أشعر بألم التقلصات وانفصلت بذلك عن جسدي، صرت أنتظر إشارات القابلة التي تابعت التقلصات على شاشة كبيرة. التزمت بكل ما أملته الآلات فترجمته لي، لكن الوضع تعقد وتعسر.جاءت طبيبة جزائرية لتقذنا، وأشرق وجه ابني أمامي وقطع زوجي الحبل السري. لا أنكر أنه رغم هذا الطاقم الذي أحاطني، والذي جمعتني الجغرافيا والجذور بكل أفراده، شعرت بشيء من الغربة، لكن الفرحة والاطمئنان كانا الأقوى في تجربتي. تختلف تجارب الولادة من امرأة لأخرى إذ أن هناك دائمًا جانبًا شخصيًا نسبيًا يعتمد على الظروف الخاصة التي توجد فيها النساء وتختلف أيضًا من بلد لآخر.
أعود إلى مقعدي وتعود فيروز للغناء قائلة:
"إعطيني إهرب منك ساعدني إنساك،
تركني شوف الأشيا وما تذكرني فيك،
بيكفي وأنا عندك شو خسرت سنين"
أسمع الأغنية فأقول في نفسي، كيف لفيروز أن تتواطأ مع مقعدي والحنين وابني ضدي، كيف لصوتها أن يدخل لأماكن قاتمة داخلي دون أن يخشاها كأنه يتولى أمرها، بإنارتها إن شاء، أو إغراق كل شيء فيها، كما في طوفان لا يُبقي ولا يذر.
يذكرني مقعدي والأغنية بتجربة الولادة هنا ووطني ومستشفياته وهجرتي وثلاثين سنة من عمري مضت على أرضه أو ربما خسرتها عنده على حد قول فيروز. يذكرني أيضًا بكلمات صديقتي الطبيبة "أنس" التي سألتها عن ظروف الولادة في تونس فقالت: "مؤلمة إلى درجة أنني لا أريد الخوض في هذا الموضوع."
وأتحسّر كثيراً على أرواح الأمهات اللواتي قضين نحبهن أثناء تجربة الولادة بين سيّارات الإسعاف بسبب عجز المنظومة الصحية وعدم توفرّ الطواقم الطبيّة في مستشفياتنا الجهوية بعدّة مدن داخلية تونسية وأواصل رحلتي في صمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...