الأزمات الاقتصادية تُفقد الرجل العربي

الأزمات الاقتصادية تُفقد الرجل العربي "قوامته"... نقمة أو فرصة؟

حياة نحن والنساء نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 5 ديسمبر 202511 دقيقة للقراءة

في حيّ شعبي في القاهرة، يقف العم أحمد، وهو رجل في الخمسينات يرتدي جلباباً باهتاً وعيناه تحملان ثقل سنوات من الكدح، ممثلاً نموذجاً للرجل الذي تربّى على فكرة أنه العمود الذي لا يميل، والقوّام الذي لا يخذل. وكانت الوظيفة الوحيدة لزوجته هناء، وهي ربّة منزل تقليدية، الحفاظ على دفء البيت وتربية الأولاد. لكن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد لم تترك جداراً إلا هزّته حيث بدا التضخّم وحشاً من وحوش الأساطير الإغريقية القديمة، وارتفعت الأسعار وتآكلت مدّخرات أحمد، وتوقفت ورشة النجارة الصغيرة التي كانت مصدر رزقه الوحيد.

في أحد الأيام، عادت هناء من زيارة لأختها وفي عينيها بريق أمل جديد، وقالت بهدوء: "سأبحث عن عمل يا أحمد. لا يمكن أن نترك أبناءنا ينامون جائعين أو نعجز عن دفع فلوس الدروس". في تلك اللحظة، لم يشعر أحمد بالغضب بقدر ما شعر بالانهيار، ولم يكن الانهيار مادياً فحسب بقدر ما كان انهياراً لمفهوم راسخ في داخله هو مفهوم المسؤولية عن البيت. لقد شعر أنّ هذا المفهوم الذي كان يمنحه هويته وسلطته قد قُتل على يد فواتير الكهرباء والغاز والمياه والإيجار وأسعار الخبز والأرز والمكرونة المرتفعة. هذه الحكاية ليست استثناءً، بل هي نموذج مصغّر لملايين الحكايات في العالم العربي، حيث تتصادم الأزمة الاقتصادية مع بنية اجتماعية تقليدية راسخة منذ مئات السنوات، وتضع مفهوم القوامة في قفص الاتهام.

الأساس الاجتماعي لمفهوم القوامة

لفهم هذا الموضوع جيداً، لا بدّ أوّلاً من العودة إلى أصل المفهوم. القوامة لغوياً مشتقّة من الفعل قام، وتعني القيام على الشيء ورعايته والإشراف عليه والاهتمام به. والقوّام هو القائم على الأمر والمسؤول عنه. هذا المعنى اللغوي يحمل دلالة المسؤولية والقيام بالاحتياجات. أما المعنى الفعلي لمفهوم القوامة في الفقه الإسلامي، فسلطة الزوج على زوجته، وهي سلطة مشروطة بالإنفاق المادي وفقاً للآية القرآنية 34 من سورة النساء: "الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم".

شعر أحمد أنّ المفهوم الذي كان يمنحه هويته وسلطته قد قُتل على يد فواتير الكهرباء والغاز والمياه والإيجار وأسعار الخبز والأرز والمكرونة المرتفعة. فما هو هذا المفهوم؟ وكيف قُتل؟

تشير الكاتبة ريبا مير، في كتابها "القوامة في التراث الإسلامي: قراءة بديلة"، إلى كيفية صياغة الفقه لهذا المفهوم بالبناء على صفة "قوّامون" في الآية القرآنية، ليصبح مفهوماً يكرّس سلطة الزوج ومسؤوليته المادية تجاهها، وهو ما نلخّصه في النقاط التالية:

1. لقد ارتبطت القوامة في جوهرها بالقدرة الاقتصادية للرجل على الإنفاق، وهو ما عبّر عنه الفقهاء بتفسيرهم "بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم". هذه المعادلة البسيطة: الإنفاق = القوامة/ السلطة، هي الأرضية التي انطلق منها المجتمع الذكوري العربي لترسيخ هيمنته، ومن ثمّ فالأزمة التي يواجهها مفهوم القوامة اليوم ليست وليدة اللحظة بل هي نتاج تضافر ثلاثة عوامل رئيسية: اقتصادية واجتماعية وسياسية، والتي عملت على تآكل الأساس الذي قامت عليه هذه الهيمنة.

تُعدّ الأزمة الاقتصادية، المطرقة التي حطّمت القاعدة المادية للقوامة في دول مثل مصر ولبنان، فقد أدت موجات التضخم المتتالية وتدهور العملة إلى عجز قطاع كبير من الرجال عن الوفاء بالتزاماتهم الأساسية، وهو ما يمثّل تهديداً وجودياً للأساس الذي بُنيت عليه القوامة، فلم يعد الرجل قادراً على الوفاء بالشرط المادي الذي منحه السلطة، وهو ما يضع شرعية هذه السلطة موضع تساؤل حادّ. توضح دراسة بعنوان "الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على الأُسرة اللبنانية"، صادرة عن المركز الديمقراطي العربي، أنّ الأزمة تؤدي إلى زيادة الخلافات الزوجية بسبب عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية.

2. هذا العجز المادي يترجم إلى عجز نفسي واجتماعي حيث يفقد الرجل ثقته بنفسه ويفقد المجتمع ثقته بقدرة الرجل على القيادة، وفي الواقع المصري حيث يضطر الرجل إلى العمل في وظيفتين أو ثلاث بالكاد لتغطية نفقات المعيشة ليصبح مفهوم الإنفاق الذي يبرر القوامة عبئاً ثقيلاً لا يمكن تحمّله، بل يتحول إلى مصدر خزي وعار في بعض الأحيان، وهنا تضطر المرأة إلى الخروج إلى سوق العمل ليس كخيار للتحرر، بل كضرورة للبقاء وأحياناً تصبح هي المعيل الرئيس للأسرة. يفضي هذا الخروج إلى كسر احتكار الرجل لدور العائل الوحيد للأسرة، وتالياً يفرغ القوامة من محتواها المادي وإن كان يقصرها على الناحية الجنسية -التي تتأثر نفسياً جرّاء العجز المادي- ويجعلها مجرد سلطة اسمية فارغة من أي أساس واقعي.

فهذا التحول الاقتصادي هو المحرّك الأول والأكثر وضوحاً في إضعاف مفهوم القوامة المتداول، فضلاً عن أن ارتفاع مستويات تعليم المرأة ودخولها سوق العمل قد أديا إلى تغيير جذري في الأدوار داخل الأسرة، فلم تعد المرأة مجرد متلقّية للإنفاق بل أصبحت شريكاً فاعلاً في الدخل والقرار. يشير بو علي ياسين، في كتابه "أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي"، إلى عوائق في مسيرة المرأة العربية على طريق التحرر والمساواة، مؤكداً أنّ البنية الذكورية للمجتمع هي التي تخلق الأزمة.

3. عندما تكتسب المرأة استقلالها المادي، تبدأ بتحدّي الهيمنة الذكورية بشكل مباشر وغير مباشر حيث يصبح صوتها في اتخاذ القرارات أكثر قوةً ووزناً، وتؤكّد دراسة نهى محمد السيد حول "آليات بناء الهيمنة الذكورية وعوامل استبعادها"، أنّ الهيمنة الذكورية تُبنى على آليات اجتماعية وثقافية معقّدة، وتتغذى من منظومة قيمية تكرّس التفوّق الذكوري.

الأزمة الاقتصادية هي المطرقة التي حطّمت القاعدة المادية للقوامة في دول مثل مصر ولبنان، حيث أدت موجات التضخم المتتالية وتدهور العملة إلى عجز قطاع كبير من الرجال عن الوفاء بالتزاماتهم الأساسية.

ظاهرة متنامية ودور مسلوب

إلا أنّ هذه الآليات تبدأ بالتآكل بشكل متسارع عندما تتغير الظروف المادية والاجتماعية. ففي مصر على سبيل المثال، أصبحت المرأة المعيلة لأسرتها ظاهرةً متناميةً لا تقتصر على الطبقات الفقيرة بل تمتد إلى الطبقة الوسطى التي تآكلت بفعل التضخم، وهذا التحول يضع الرجل في موقف ضعف اجتماعي ونفسي عميق حيث يرى أنّ دوره التقليدي الذي كان مصدر فخره وهويته قد سُلب منه أو أصبح بلا قيمة فعلية، ولقد شهد العقدان الأخيران صعوداً ملحوظاً للوعي النسوي والخطاب التقدمي الذي يطالب بإعادة قراءة النصوص الدينية ودلالتها الاجتماعية هذا الخطاب الذي تجسد في مقالات مثل "على خطى عائشة التيمورية: مفهوم القوامة في فكر مثقفات"، في مجلة السفير العربي، يطرح رؤيةً بديلةً للقوامة لا تقوم على السلطة بل على المسؤولية والشراكة، وهذه الرؤية التقدمية تتحدى التفسيرات الأصولية التي رسّخت القوامة كسلطة مطلقة وتدعو إلى قراءة جديدة للنصوص تتجاوز السياق التاريخي الذي نشأت فيه تلك التفسيرات، وتستوعب المتغيّرات المعاصرة.

القوامة بين التنطع والواقع المفروض

في مواجهة هذا التحول الجذري، يتمسك الخطاب الأصولي المتكرر بتفسير ضيّق للقوامة ليركز على الجانبين الفقهي والتشريعي فقط، عادّاً إياها حكماً إلهياً ثابتاً لا يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية. يرى الأصوليون أنّ القوامة هي تفضيل قدري وطبيعي للرجل على المرأة، وأنها لا تسقط بالضرورة بعجزه عن الإنفاق بل تظلّ سلطةً معنويةً للحفاظ على كيان الأسرة، ويستندون في ذلك إلى تفسيرات جامدة للآية القرآنية، حيث يُنظر إلى التفضيل على أنه تفوّق جنسي جوهري مقترن بأفضلية العقل والتكوين الجسدي، وهو ما يُعدّ نوعاً من النطاعة أو التنطع السلفي الأصولي مما يعطيه القدرة على القيادة ويؤيد ذلك أيضاً بحديث نبوي مفاده أنّ النساء ناقصات عقل ودين، وهذا التفسير الذي يركز على التفضيل بدلاً من المسؤولية هو ما جعل القوامة تتحول من تكليف إلى تشريف، ومن واجب إلى حق مطلق، مما أدى إلى تبرير الهيمنة الذكورية حتى في غياب الأساس المادي لها.

إنّ وجه النقد الموجّه إلى مفهوم القوامة ينطلق من أنّ هذا المفهوم بصيغته السائدة لم يعد قادراً على الصمود أمام الواقع المعيش وتلبية متطلباته واللهاث خلف ضروريات الحياة، ولقد أثبتت الأزمة الاقتصادية أنّ الأساس المادي الذي بُنيت عليه القوامة هو أساس هشّ وقابل للانهيار، على أنّ هذه الرؤية لا تلغي القوامة كمسؤولية بل تعيد توزيعها بناءً على الكفاءة والقدرة والاتفاق بين الزوجين، وليس بناءً على النوع الاجتماعي. إنها تحرر المرأة من التبعية الاقتصادية، وفي الوقت ذاته تحرّر الرجل من العبء النفسي والاجتماعي لكونه المعيل الأوحد الذي لا يُسمح له بالفشل أو الضعف.

ففي المناطق الريفية والحضرية الفقيرة في مصر مثلاً، تزايدت أعداد النساء اللواتي يعملن في مصانع الملابس أو في أعمال يدوية، بينما يظلّ الرجل عاطلاً، وهنا تظلّ القوامة الاسمية للرجل، لكن القوامة الفعلية (أي القيام على الأمر والإنفاق) تنتقل إلى المرأة، مما يجعل هذا التناقض يخلق أزمةً نفسيةً عميقةً للرجل يصفها بو علي ياسين بأنها جزء من أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي حيث يعاني الرجل من فقدان هويته الذكورية المرتبطة بالإنفاق، ويظهر هذا التوتر في ارتفاع معدلات الطلاق حين يصبح العجز الاقتصادي سبباً مباشراً للنزاع، أو في لجوء الرجل إلى العنف اللفظي أو الجسدي كمحاولة أخيرة لاستعادة سلطة مفقودة، وهو ما يؤكد أنّ القوامة التي تم تداولها في كتب الأصول الفقهية قد دخلت في صراع عنيف مع الواقع.

وفي لبنان، حيث وصلت الأزمة الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة، أظهرت دراسة المركز الديمقراطي العربي أنّ التفكّك الأسري يزداد وأنّ الضغوط الاقتصادية تضعف من سلطة الرجل المعتادة وتزيد من استقلالية المرأة في اتخاذ القرارات المصيرية وقد أدت الأزمة إلى هجرة واسعة للرجال مما ترك النساء يتحملن مسؤولية الأسرة بالكامل، سواء من خلال العمل أو إدارة التحويلات المالية القليلة. إنّ هذه الأمثلة الواقعية من قلب العالم العربي تؤكد أنّ مفهوم القوامة الرجعي لم يعد قادراً على تنظيم العلاقات الأسرية في ظلّ التحديات الاقتصادية الراهنة، مما يوجب تبنّي رؤية أكثر مرونةً وعدالة.

قوامة الشراكة والعدل

إن مفهوم القوامة السلفي لم يُقتل بالكامل، بل تعرّض لتحوّل قسري؛ لقد أجبرته الظروف الاقتصادية والاجتماعية على التخلّي عن ثوب السلطة المطلقة وارتداء ثوب الشراكة.

الأزمة التي يواجهها مفهوم القوامة اليوم ليست وليدة اللحظة بل هي نتاج تضافر 3 عوامل رئيسية: اقتصادية واجتماعية وسياسية، عملت على تآكل الأساس الذي قامت عليه هذه الهيمنة

تؤكد ريبا مير، أنّ القراءة البديلة للقوامة يجب أن تركّز على العدل والمساواة، وأنّ القوامة في جوهرها هي مسؤولية يمكن أن تتقاسمها الزوجة مع زوجها أو حتى تتحملها هي في غيابه، أي فصل القوامة عن الجانب الجندري وربطها بالقدرة والكفاءة والمسؤولية المتبادلة. وهذا التفسير لا يهدف إلى إلغاء المفهوم بل إلى تحريره من التفسيرات الذكورية التي حوّلته إلى أداة للهيمنة كما أنّ المستقبل لا يفسح مكاناً لمفهوم القوامة الذي يربط السلطة بالنوع الجندري والإنفاق الأحادي، بل يزيحه لصالح مفهوم جديد: قوامة الشراكة حيث يكون القوّام هو الأكثر كفاءةً وقدرةً على إدارة شؤون الأسرة في لحظة معيّنة، سواء كان رجلاً أو امرأةً. هذا التحول ليس هزيمةً للرجل بل هو تحرير له من عبء دور المعيل الأوحد الذي أثقل كاهله وأفقده إنسانيته في زمن الأزمات.

نحو عقد اجتماعي أسري جديد

وأخيراً، لقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى كشف هشاشة البنية الاجتماعية التي اعتمدت على مفهوم القوامة الرجعي، فلم تقتل الأزمة المفهوم، بل قتلت التفسير السلطوي له. الرجل العربي اليوم، مدعو إلى التحرر من قفص العمود الذي لا يميل والمرأة مدعوة إلى تبني دور الشريك الذي لا يغيب. العقد الاجتماعي الأسري الجديد يجب أن يُبنى على أساس المساواة في الحقوق والواجبات والمسؤولية المشتركة والعدل، فهذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ الأسرة العربية من التفكك وتحويل الأزمة الاقتصادية من نقمة إلى فرصة لإعادة تعريف العلاقات الإنسانية على أسس أكثر عدلاً وتقدّماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image