وثائق إعدام فلسطينيي سوريا... من يملك ذاكرة موتنا؟

وثائق إعدام فلسطينيي سوريا... من يملك ذاكرة موتنا؟

رأي نحن والمشرّدون

الثلاثاء 2 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

استيقظت عائلات فلسطينية سورية على صدمة نشر وثائق يُقال إنها تتعلق بأحكام إعدام صادرة بحق أبنائها المعتقلين في سجن صيدنايا، وذلك عبر "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا".

بعدما نشرت في 28 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي منشوراً "ترويجياً" تعلن فيها "إطلاق" سلسلة من الوثائق التي حصلت عليها من منصة أرشيف الثورة السورية، وهي منصة يديرها مؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت إنها حصلت على 275 وثيقة وستنشر منها كل يوم ثلاث وثائق فقط، ما يعني أنّ الآلاف من ذوي المفقودين سيتسمرون لثلاثة أشهر في صفحة فيسبوك بانتظار خبر عن أحبائهم، قد لا يأتي بالضرورة، ولا يوجد ما يضمن صحته في حال أتى.

الانتظار على طابور الوثائق

فُرض على العائلات أن تتابع، يوماً بعد يوم، نشر دفعات من الوثائق كما لو أنها نشرات إدارية لا تخصّ حياة أبنائهم، بل قوائم بلا مبالاة "ننشر اليوم الوثائق من الرقم كذا إلى الرقم كذا"، تُظهر جميع معلوماتهم الشخصية والتّهم المُكالة إليهم، وطريقة تنفيذ أحكام الإعدام، من دون أي تواصل مسبق أو مراعاة لمشاعر الأسر التي ما زالت تعيش الانتظار منذ سنوات طويلة، ومن دون المرور عبر هيئة المفقودين التي يفترض أنها الجهة المخوّلة رسمياً بإدارة هذا الملف الحساس.

استيقظت عائلات فلسطينية سورية على صدمة نشر وثائق يُقال إنها تخص أحكام إعدام لمعتقلي صيدنايا، بعد إعلان "مجموعة العمل" إطلاق نشر 275 وثيقة من "أرشيف الثورة السورية" على مدى ثلاثة أشهر، ما ترك آلاف الأهالي معلقين بانتظار أخبار قد تكون غير مؤكدة وغير موثقة

وتوجّهت انتقادات إلى ناشطين ومؤثرين مقربين من السلطة، يمتلكون وصولاً إلى أرشيف يتضمن وثائق عن ضحايا سجون النظام، ينشرونها على صفحاتهم الشخصية مع وضع شعاراتهم الخاصة عليها، وهو ما يطرح أسئلة جدّية حول احترام كرامة الضحايا، وتحويل الوثيقة إلى أداة تأثير رقمي لا تراعي حساسية الملف ولا وزن الذاكرة المرتبطة به.

هذه الانتقادات، لم تُقابل باعتذار عن الخطأ أو محاولة إصلاحه، وإنما بمجموعة من التهديدات المباشرة لمن ينتقد، ولمن يعلق على منشور الانتقاد.

وثيقة إعدام باسم أبوي

وتكشف تعليقات ذوي المعتقلين عمق الصدمة التي تصنعها هذه الممارسات "عرفت خبر اعتقال بابا عالفيسبوك، وبتمنى ما أعرف ولا خبر عنه بالصدفة عالفيسبوك"، و"للي بعرفه إنه ما بدي صادف عالفيسبوك بوجهي وثيقة حكم إعدام باسم أبوي".

هنا تنهار كل أدبيات وبروتوكولات إبلاغ ذوي الضحايا بوفاة أبنائهم، ويتم اختصارها بإشعار في فيسبوك أو منشورات تفرض على الأهالي البحث بلهفة وحرقة، ثم الانتظار من جديد.

وهو انتهاك مزدوج؛ لم يُمنحوا الحق في المعرفة بطريقة مسؤولة، واستُنزفوا عاطفياً في دورة متكررة من الترقب وعدم اليقين، يُضاف إلى الجريمة الأساسية التي ارتكبها النظام الأسدي "الإخفاء القسري".

ماذا يفعل القانون أمام المؤثر؟

لاحقاً لما سبق نشرت الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا بياناً تحذر فيه من انتشار وثائق ومعلومات "غير رسمية وغير دقيقة وغير صحيحة" تتعلق بالمفقودين، واعتبرته "استغلالاً مؤلماً لمعاناة ذوي المفقودين" نتيجة رصدها محاولات احتيال تطلب بدلاً مالياً مقابل معلومات زائفة عن المختفين، وكأنّ الاتجار بجروح السوريين وآمال ذوي المفقودين لم ينتهِ بهروب الأسد؛ سوق بشكل جديد ومضمون قديم.

وأكدت الهيئة أنها ستنسق مع وزارتي الداخلية والعدل لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق المتورطين. كما أعلنت أنّها ستطلق منصة إلكترونية رسمية للتحقق من صحة أي وثيقة تخص المفقودين، بما يضمن حماية العائلات ومنع استغلالها وابتزازها.

حذّرت الهيئة الوطنية للمفقودين من وثائق "غير رسمية وغير صحيحة" عن المفقودين، معتبرة الأمر استغلالاً لمعاناة الأهالي، بعد رصد محاولات احتيال تطلب مبالغ مالية مقابل معلومات زائفة.

لكنّ الرد المتأخر لهيئة المفقودين وعدم اتخاذ إجراء حقيقي حتى اللحظة، يطرح أسئلة كثيرة حول الصلاحيات المتاحة لها وفاعلية أدواتها في مواجهة منصات ومؤثرين تستقطب مئات الآلاف بخطاب رغبوي شعبوي، يهتم بالنشر السريع على حساب تحري الدقة بما يتناسب مع حساسية القضايا.

الناشط ليس مؤسسة حقوقية

جانب آخر من الإشكال يتعلّق بطريقة استخدام الناشطين أنفسهم لهذه الوثائق. فالوصول الكبير الذي يحقّقه أي منشور مرتبط بالمفقودين -بحكم حساسية الملف وشحنة الألم التي يحمله- يغري البعض بتوظيف الوثائق في سياقات لا تخدم القضية بالضرورة. وربما تُستخدم أحياناً لتمرير رسائل سياسية، أو لتصفية حسابات شخصية، أو لبناء حضور رقمي سريع، كل ذلك بافتراض حسن النية.

فالناشط، ليس جهة قضائية أو مؤسسة حقوقية تملك معايير واضحة للتوثيق وحماية الخصوصية وضمان سلامة المعلومات. يخطئ ويصيب، ينشر بدافع الحماسة أو الاستنفار، وقد لا يدرك أنه يتحوّل، بقصد أو بدون قصد، إلى طرف يتدخل في سردية تتجاوز حدود دوره. وتصبح "وثيقة الإعدام" معرضة للابتذال، خصوصاً إذا انتشرت على نطاق واسع ثم ثبت أنها غير دقيقة، ويجعلها عرضة للاستخدام في سياقات لا تليق بوزنها الإنساني، ويخلق تشويشاً على العمل الحقوقي المنهجي، ويضاعف المسافة بين الضحايا والعدالة.

وقد رأينا بالصوت والصورة إعلامياً يدخل إلى مسرح جريمة مكتملة الأركان؛ مجزرة التضامن، برفقة قوى الأمن وأحد المتهمين، يلتقط جزءاً من رفات بشرية يرفعها في وجه القاتل، ويسأله عن شعوره، هنا لا يبدو الاهتمام مركزاً حول ما حدث، كيف ومتى وماذا ومن المسؤول، كلها ذابت في خلفية مشهدٍ يجري فيه تحويل مستندات الجريمة وأدواتها إلى عنصر درامي، والصحافي إلى مخرجٍ لمشهد المواجهة بين القاتل وضحيته.

لأدوات الجريمة.. ملكية فكرية!

وثائق رسمية كثيرة شديدة الحساسية تم تسريبها، يُوضع عليها لوغو المنصة، مثل الأخيرة حملت لوغو "أرشيف الثورة السورية" و"مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا" كما لو كانت ملكية فكرية أو إنجازاً حصرياً، كل ذلك أمام أعين السلطة، وبأيدي الإعلام غير الرسمي الموالي لها، ولعلّ آخرها، كان عرضاً لأداة جريمة حقيقية من سجن صيدنايا في صندوق من الخشب بواجهة زجاجية، يكون مغطّى في البداية، وبعد انتهاء الخطاب الحماسي يُرفع الغطاء عن الصندوق ويُعرض على الملأ، وللمفاجأة فقد كتب بوضوح اسم المجلة "غير الرسمية" التي حصلت على أداة مأخوذة من مسرح الجريمة وتذيل "حبل إعدام أصلي"، ما يطرح سؤالاً مؤلماً حول إمكانية تحوّل ما كان يقضّ مضاجع السوريين إلى مادة دعائية أو علامة حصرية تُكتب في سجل إنجازات منصة أو مؤثر.

سوق الذاكرة

هذا المشهد على بشاعته ليس بعيداً من السياق، فبعد سقوط أي نظام سلطوي، يتوقع الناس أن ينفتح المجال أمام الحقيقة والعدالة وكشف مصير المفقودين ضمن إطار قانوني، لكن ما يحدث في حالات متعددة، ومنها سوريا، هو ظهور فراغ في إدارة الذاكرة؛ فالجهة التي كانت تحتكر المعلومات والسرديات اختفت، بينما السلطة الجديدة التي أصبحت تملك جميع الوثائق والبيانات والمستندات ليست مؤهلة بعد أو ربما غير مهتمة في حماية التوثيق.

التسريبات والعروض التي تنشر كـ "مواد حصرية" لا تُسفر عن أي تقدّم في كشف مصير المفقودين أو طمأنه عائلاتهم، بل تتحوّل إلى محتوى يُقاس بالمشاهدات. بينما السلطة تُلقي المسؤولية على "الناشطين"، وتستفيد ضمنياً من تحويل جرائم النظام السابق إلى دعاية تُظهر الحاضر بوصفه أفضل من دون أي إصلاح فعلي

هنا يولد سوق الذاكرة ما بعد الديكتاتورية، إذ تتحول فيها المعرفة المرتبطة بالماضي (القتل، الاختفاء، الإعدام، السجون) إلى مادة قابلة للتداول خارج المؤسسات القانونية والرسمية، ويصبح الوصول إلى الوثائق، أو القدرة على نشرها، أو ادّعاء امتلاك "الحقيقة" مصدر قوة ورأسمال رمزي، لصحافي أو مؤثر أو منظمة أو منصة إعلامية.

هذا السوق يعتبر الموت بأدواته ووثائقه مادة للتداول والنشر في ظل فضاء رقمي مفتوح، فقد وجد أبناء الساحل والسويداء أنفسهم أمام قسوة مشابهة، حين جرى إبلاغهم بخبر مقتل ذويهم عبر مقاطع تُظهر التعذيب والقتل والتنكيل، وفي جميع الأحوال يُسلب حق العائلات في تلقي المعلومات عبر قنوات رسمية، وبطريقة تحميهم من الصدمة وإعادة الإيذاء النفسي.

من المستفيد؟

بعد كل ذلك لا تظهر أي نتائج ملموسة على صعيد كشف مصير المفقودين أو دعم العائلات، ولا يتشكل مسار قانوني واضح يسلك طريق جبر الضرر معنوياً ومادياً ووطنياً. كل ما يحدث أنّ المنصّات التي نشرت الوثائق أو عرضت الأدوات الجنائية تعود لاحقاً لتنشر مخططات تثبت زيادة كبيرة في عدد المشاهدات، وتعتبر ذلك مؤشراً على ثقة الجمهور، وتشكر المتابعين، في مشهد يختصر التحوّل العميق من صحافة إلى محتوى، ومن ألم إلى رقم.

وهنا كذلك، تلقي السلطة عن ظهرها مسؤولية استخدام الوثائق بطريقة خاطئة، فـ "الناشط" هو من نشر تلك المعلومات، أما كيف وصل إليها؟ فيمكن التهرب منه ببساطة "الفوضى.. بلد مدمر بعد الحرب.. تحدث أخطاء"، وأنها لا تستطيع بعد الإمساك بجميع مفاصل البلاد، لكنها في الوقت نفسه ترفض أي مشاركة حقيقية في إدارة الدولة، ونرى بشكل يومي أنها مهتمة بتفاصيل أخرى قد تبدو غريبة، مثل التفتيش في حقائب السوريين العائدين إلى سوريا لمنع دخول أي أداة موسيقية والتدخل في الحياة الخاصة للمواطنين، والتفتيش تحت الملابس الداخلية لسائح برتغالي بحثاً عن وشم يدل على أنه موالٍ للأسد.

وما دامت الصورة التي يرسمها الناشط/ الإعلامي/ المنصة تخدم سردية السلطة فلا مشكلة لدى الأخيرة، وكأنها تستغل بشكل غير مباشر الرصيد الإجرامي للنظام الأسدي، وتحوله إلى رصيدها في النصر والتحرير، بمعنى آخر فهي تعيد التذكير من خلال الوثائق والمستندات برداءة السابق، بما يوحي بأنّ الحالي أفضل، من دون أن يفعل الأخير شيئاً أفضل بالضرورة، ويهرب من تقييم أدائه وقراراته وسياساته إلى الاستثمار في شناعة من سبقه.

فكل وثيقة إعدام بحق معتقل سابق هي تذكير بنصرها "ما بكفي حررناكم!"، فهي "المخلّص" الوحيد من أوامر الإعدام وحبال المشانق، دون اهتمام كافٍ بشفاء الجرح السوري أو التعامل معه بأدنى درجات العقامة.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

صوت التغيير يجب أن يبقى حاضراً. 

ليستمرّ، نريد دعمكم.

Website by WhiteBeard
Popup Image