هذا الملف يتضمّن مجموعةً متنوعةً من النصوص، مرفقةً بخمس صور، من إنتاج أعضاء “ناس رصيف”.
جاءت هذه الأعمال ضمن تمرين فوتو-ستوري أشرف عليه شربل كامل في جانب الكتابة الإبداعية والتحرير، ويوسف عيتاني في جانب التصوير.
"الشوارع اشتاقت إليك".
تأمّلت هذه العبارة بعد أن أرسلتها إليّ صديقتي المقيمة في دمشق، والتي لم أرَها منذ اثنتي عشرة سنةً.
هل تشتاق الشوارع حقاً إلى من مرّ بها؟ إلى من صنع من الرصيف ومن الأصوات ذكريات لا تُنسى؟
أو أننا نحن من نشتاق… نشتاق إلى ذاكرتنا في الشوارع؟
وهل يختلف شارع عن آخر؟
أو مدينة عن أخرى؟
أقضي الكثير من وقتي داخل السيارة، أجوب شوارع المدينة…
أمشي بلا وجهة، وأغرق في صمت تختبىء فيه الحكايات فأكتشف أنّ حكاياتي تقطن في ذاكرتي.

أقود سيارتي في شوارع لا تعرف المُشاة، وأتنقّل بين الإشارات والبيوت والمحال الكبيرة التي تصدح بأسماء لافتة، لكن داخلي يتنقّل في أماكن أُخرى ومختلفة عن هذه الثقافة، فيزداد ذاك الفراغ الكبير في روحي.
أتمنى أن يمتلئ ذاك الفراغ وسط تنقلاتي اليومية. كل شيء من حولي مرتب، نظيف، ومنظّم. الأشجار تصطفّ بدقة، والعمال يحرصون على النظافة، والعصافير ترافقني كل صباح، والسماء لوحة فنية رائعة الجمال والتجدّد.

كل ذلك أراقبه من خلال زجاج السيارة الأمامي، أو من خلال المرآة، لكنه في الحقيقة لا يشبهني.
أشتاق إلى أصوات تقول: صباح الخير...
إلى كلمات عربية تُقال بعفوية، وإلى رائحة قهوة تتسلّل من احدى النوافذ، وإلى ضحكات الأطفال وهم يلعبون ويصرخون.
"كنت لسنين أتمنى أن أجد ولو صدفةً شيئاً من الوطن… ووجدت أخيراً هذا المقهى، الذي أعاد لي شيئاً من الكثير الذي فقدته، شيئاً من دفء الطقوس والروائح والذكريات التي تحملها الأيام."
إلى بائعي العربيات وهم يصرخون معلنين عن بضاعتهم، وأقف حائرةً: ماذا أختار؟
الحنين ليس ذكرى فقط، بل حاجة عميقة إلى أن يتجاوب المكان مع ذاكرتي.
كثيراً ما تبدأ رحلتي اليومية برطوبة عالية ومطرٍ خفيف، فالمطر لا يملّ من الهبوط طوال السنة.
قطرات على الزجاج تشوّش الرؤية، لكنها توضح الشعور. المطر هنا لا يُباغتني، بل يصادقني، كأنّه يقول لي: "أنا معك".

وتشتعل ذاكرتي بأيام البرد وما يرافقه من طقوس، خصوصاً الطبخات التي تعدّها الأمهات والجدّات ليدخلن الدفء إلى قلوب الجميع.
وتحتل المرتبة الأولى بلا منازع شوربة العدس. أبتسم لقول أمي؛ كم تتمنى أن تكون كل أيام السنة برداً لتعدّ طبق الشوربة... في ثنايا روحي وعلى أحد رفوف الذكريات مرطبانات الكبيس (اللفت والملفوف… إلخ).
حمراء، حادّة، ومُنعشة. أصابع أمّي في الضوء، المطبخ الكبير في البيت العربي، والبرد وصوت المطر.

وذاك المرطبان الزجاجي الذي كنا نحذّر من كسره كأنّه كنز، فهو مؤونة أيام البرد ومرافق لكثير من أطباق البرغل التي نعدّها في الشتاء.
ما زلت أُعدّه كما علّمتني أمي، وكما علّمت جدّتي أمي، كأنّي أُبقي معهم جزءاً من الزمن في المرطبان.
وهناك ابني الذي يعشق الطبخ وإعداد أطباقنا الغنية، وهو دائم الخلاف معي لأنني لا أعطيه الوصفات بالدقة التي يرغب فيها.
يسأل كم ملعقةً أو ما قياس الملعقة؟
متى أتأكد من نضوج الطبخة؟
متى أضيف الماء؟
متى أخفّف الحرارة؟
أجيبه بأن لا مشكلة. أنت تستطيع أن تقدّر كل هذه الأشياء بالنظر، باللمس، بالشمّ، وبالتذوّق.
يضحك ويجيب: ماما، الوصفات لا تُعدّ بهذه الطريقة. أكمل ضحكاتي معه وأجيبه: وصفات الأمّهات تُعدّ بالحب، والحب لا يعرف مقاديرك التي تطالبني بها، فيفاجئني يوماً ويقول لأخته المتذمّرة إنها أعدّت إحدى الوصفات كما قلت لها، وإنني رافقتها عبر الكاميرا لشرح كل التفاصيل، وفي الأخير لم تحصل على الطعم نفسه والنتيجة عينها. لماذا؟ ضحك وقال لها: لا تتعبي! طبخ الأمّهات مختلف. اعتادي على النكهات الخاصة بإعداداتك.
"وجدتُ ما كنت أبحث عنه مطوّلاً… رائحة قهوة قوية، وأكواب مزركشة، ورفوف صغيرة تحمل كتبًا وصناعات يدوية، كلّها تشعرك بالحنين إلى طقوس منسية."
ضحكت من كبدي على تلك المحادثة والمنافسة على وصفات الأمهات، وكم عشت تلك اللحظات مع أمّي إلى أن جاءت يوماً تقول لي: أصبحت أطباقك أشهى من أطباقي. لقد تفوقتِ عليّ.
أشتاق إلى صباحات القهوة مع أمّي.
القهوة في أمريكا لا تشبه أي قهوة. أستغرب كيف يطلقون عليها اسم "قهوة". هل من الممكن أن ترتشف القهوة باردةً! هل من المنطقي أن تتشارك حبات القهوة مع الحليب أو الكريما أو حتى القرفة أو السكر؟
لحبّات القهوة مرارة محببة لا يمكن طمسها بأيّ منكهات أخرى.
لسنوات وأنا أفقد أجواء فنجان القهوة، إلى أن عثرت عليها بالصدفة وأنا في طريقي المعتاد
ووجدتها...
في المدخل شجرة ياسمين صغيرة تحاول أن تتسلّق درجاً من الخشب الجميل.
عرفت أنه "كافيه" إيطالي.
وطقوس قهوتنا تشبه إلى حدٍّ ما طقوس الإيطاليين.

دخلتُ لأرى الفوضى الجميلة متناثرةً في الكافيه:
روائح قهوة، أكواب فخارية مزركشة (لاورقية)،
رفوف صغيرة عليها كُتب وصناعات يدوية،
وحتّى الليمون مبعثر على الطاولات.
المقاعد مختلفة، لا تشبه بعضها… وكم أحبّ هذه الفوضى الخلّاقة.
وجدتُ ما كنت أبحث عنه مطوّلاً.
تعرّفت إلى صاحبته…
تمنّيتُ أن أحتضنها لشدّة السعادة التي غمرتني.
رائحة قهوة قوية، صور متنوّعة تشعرك بالحنين…
أصبح لفنجان قهوتي معنى آخر…
وجدت فيه دفئاً لا يُشترى ..
أحببته لأنه أعادني إلى طقوسي المنسية...
فنجان على مهل لأنّ القهوة لا تُشرب بعجالة.
كنت لسنين أتمنى أن أجد ولو صدفةً شيئاً من الوطن…
ووجدت هذه الكافية التي أعادت لي قليلاً من الكثير الذي أفتقده، حتى في لحظات العجالة آخذ الفنجان وأعود إلى سيارتي لأحلم يوماً بأن يأتيني صوت فيروز من خارج السيارة، لا من داخلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.