أبي وجورج وسوف وأنا

أبي وجورج وسوف وأنا

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 1 ديسمبر 20257 دقائق للقراءة


اعتاد أبي، واعتدنا نحن أبناءَه وبناتِهِ مرغمين لا بإرادتنا الحرة ولا وفق رغباتنا الشخصية، المستقلة عن كل توجه أبوي تقليدي، على متابعة البرنامج الغنائي الأسبوعي "ما يطلبه الجمهور" الذي كان يُبث على القناة السورية الرئيسية، أيام زمان، والذي يعتبره البعض جزافاً "الزمن الجميل". لكن ربما كان زمناً جميلاً لكوننا لم نجد زمناً آخر سواه.

القناة الأولى الرئيسية

القناة الرئيسية في سوريا العهد البائد هي القناة الأولى والإجبارية، لا الإخباريّة الحالية بعد سقوط نظام الأسد، بحكم أنّنا في ذلك الزمن من ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لم نكن نملك ترف اختيار قنوات أخرى، ولا كان عندنا صحن لاقط، لا لابتوب ولا إنترنت ولا موبايل حر مستقل.

القناة السورية الرسمية الأولى كانت هي فعلاً المعادل العائلي المنزلي لخدمة التجنيد الإجباري في سوريا النظام السابق. أما القناة الثانية، ذات الصبغة الأجنبية المستوردة، والتي كانت تُذاع فيها أغانٍ أجنبية ومسلسل "لوريل وهاردي" الكرتوني، نشرات أخبار موجزة بالإنكليزية والفرنسية، ثم أضيفت لهاتين اللغتين الإسبانية ولاحقاً الروسية، فلم تحظ بشعبية داخل منزلنا أقصى شمال شرقي سوريا (Roj Ava) الحالية، إذ كنا أجانب أصلاء بالفطرة والسيرة الحسنة ولم نشعر في أي يوم أننا بحاجة إلى أجانب جدد.

بالنسبة إلى أبي كان جورج وسوف شخصاً خارج التقاليد المعتادة والموروثة، خارج الذوق الجمالي الذي تربى عليه ويجده دائماً الأفضل والأجمل... أقول لأبي إن وسوف لديه جمهور طويل عريض، وهو يقول إنه لا يعرف كيف يغني أساساً وإن من أطلق عليه لقب "سلطان الطرب" لا يعرف من الطرب شيئاً

والغريب أننا كعائلة كردية سورية لم يكن لدينا قناة كردية، وما كان متاحاً حينها هو الراديو من كردستان العراق أو "صوت أمريكا" القسم الكردي، أو أشرطة الكاسيت باللغة الكردية، إذ عبرها أمكننا سماع غناء الفنان محمد شيخو الحزين، وغزليات سعيد يوسف العاشق المتمدن، وجوان حاجو المغترب المجدّد، وآرام ديكران الأرمني الكردي الغريب والقريب والوفي لتقاليد الأغنية الكردية القديمة والشعبية.

هكذا نتحدث بالكردية في المنزل شفاهاً لا كتابةً، ونحفظ دروس العربية وقواعد النحو في المدرسة، نحل الوظائف المطلوبة، نبحر في بحور الشعر، لابن الفارض والمتنبي وأبي تمام، وحتى نصل إلى سليمان العيسى الذي سقط في الكيس حسبما كنا نتمازح حينها ساخرين من اسم شاعر البعث الأوحد.

لكننا في الآن عينه نسمع أغاني التلفزيون العربي السوري مساء كل خميس. وكنا نعطّل حينها ليوم واحد فقط هو الجمعة. وبحكم أننا نجلس معاً في الصالون نفسه، فما يسمعه الوالد نسمعه نحن وما يرضيه يرضينا إذ لا خيار آخر أمامنا، سوى النوم المبكر أو سماع نشرة الأخبار الرسمية التي كانت مع المذيع مهران يوسف أو رجا فرزلي، ثم جاءت المذيعة الشابة عزة الشرع وصارت أقوى حضوراً من سميرة توفيق والممثلة إغراء معاً.

المهم أننا أمام التلفزيون وما يطلبه الجمهور هو ما يطلبه أبي وما يطلبه أبي هو ما نطلبه نحن وأمي كذلك، لا فرق!

أمزجة وأذواق

كان أبي ينتظر بلهفة أغنية لعزيزة جلال أو وردة الجزائرية، أو أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ، ثم يدير رأسه نحونا، ما إن تظهر إحدى أغانيه المفضلة، قائلاً: "شوفوا كيف الجمهور محترم أيام زمان ولابسين كرافتات. أنا حضرت، بمعرض دمشق الدولي حفلة عبد الحليم أيام السبعينيات، بظن كانت وقتها أغنية "زي الهوا"، عبد الحليم كان لابس قميص زهري... إلخ".

وحين يبدأ جورج وسوف، كثير الحضور في عز شهرته، كان أبي يتذمر أو يغضب ويزعل. بالنسبة إلى أبي كان جورج وسوف شخصاً خارج التقاليد المعتادة والموروثة، خارج الذوق الجمالي الذي تربى عليه ويجده دائماً الأفضل والأجمل، ثم إنه ليس ضد القيم العائلية المحافظة. مع جورج يحل التوتر في المنزل. أختي لا تبدي رأياً، وهي على الأرجح لا تهوى جورج، لكنني أقول لأبي إن وسوف لديه جمهور طويل عريض، وهو يقول إنه لا يعرف كيف يغني أساساً وإن من أطلق عليه لقب "سلطان الطرب" لا يعرف من الطرب شيئاً على الإطلاق.

نحن لا نختار جورج وسوف حسب ما نهوى، حتى إذا رفضناه يبقى يحيط بنا من كل صوب، كالهواء، كصَفعات الريح في سيارات الأجرة والمطاعم والباصات وعند الحلاقين. فيما ميادة الحناوي ليست قدراً، إنها هروبٌ متوارٍ من القدر، هروبٌ فاشل بالطبع، لكنها مع ذلك محاولة هروب محترمة

المهم في الأمر بالنسبة إلى أبي الحفاظ على العائلة من أي تأثير قد يفضي إلى "التمرد والزعرنة". بالنسبة إليه كان جورج وسوف مثالاً على شخصية المتمرد والأزعر والطائش غير المراعي للقيم الجيدة والمفيدة للنشء الجديد والمجتمع المتماسك. وهذه القيم بالنسبة إليه لا تعني سوى احترام الأكبر سناً، والصمت في حضرة الغريب، ومساعدة الجيران العجائز، وعدم قطف الزهور، وأداء الواجب المدرسي والعودة مبكراً مساء إلى البيت: "لا سهر لا لعب شدة ولا مشروبات روحية أكيد". كان جورج بحسب رأي أبي يدفع المراهقين إلى السهر والهروب من المدرسة ومطاردة الفتيات المراهقات بل حتى السيدات المتزوجات ليل نهار في الصيف والشتاء على الشوارع وأمام أبواب المدارس الثانوية، بعد الظهر وفي الصباح الباكر.

كل هذا لا يعني لأبي سوى الخراب العائلي وضياع الجيل وخسارة الاستثمار العائلي المحافظ التقليدي والمنفتح، لكن ليس على "صوت جورج ولا على هيئته المغرورة ومثاله الفاحش المستفحل".

لكنني لم أجد أي فحش أو تجاوز أخلاقي في أغاني جورج وسوف. أغنية "روحي يا نسمة عند الحبايب" جميلة وبسيطة. لم أجد في كلماتها أي معنى يخدش الحياء العام. أو أغنية "على القلوب الهوى سلطان" كذلك، لا شيء فيها يتجاوز الحد. ربما أغنية "يا مدللة يا مدللة حبك أسَرْني وهدّني" تحمل معنى موارباً، إذ تقول لاحقاً "أنا ما فيّ واعدك، ما فيّ روح لوالدك، أنا أنا عمري، أنا عمري ستة عشر سنة" إذ توحي بمراهقة مستعجلة وغرام غير تقليدي!

عمرو دياب جاء متأخراً إلى الكنف العائلي. لم يكن محبوباً بيننا، مرة حضرت له حفلة في قاعة رياضية ضخمة بالعاصمة دمشق، انتظرناه طويلاً واقفين متلهفين لرؤية المحبوب على المدرجات الممتلئة، وإذ جاء ينط ويقفز بدا لي حينها أقرب إلى نجم رياضي منه إلى مغن مشهور.

الأمر مع جورج وسوف مختلف. كان مغني بارات ومطاعم، وكان يدعى إلى مهرجانات يحضرها عشرات الألوف من عشاقه. ربما هيئته وطريقة مشيه، لا مبالاته، كلامه السوقي، طريقة مسكه الميكروفون وتحريكها على نحو دائري، كل ذلك أوحى لأبي أن سلطان الطرب لا مكان له في بيتنا. هو لا يطيق مظهر جورج وسوف وحركاته، لا على المسرح ولا على التلفزيون ولا حتى في الراديو. إنه هابط هبوطاً شنيعاً. هكذا رآه أبي، الذي قرر أن قدرنا الغنائي يتناسب مع أم كلثوم وعبد الحليم، وإن مضينا خطوة أبعد نكون بصحبة نجاة الصغيرة وميادة الحناوي، بعد ذلك لا شيء، ربما إذا رفضنا ضمناً مختارات أبي نهرب إلى منها سميرة توفيق أو ذياب مشهور سفير الأغنية الفراتية السورية.

القدر الغنائي

ثم أليسَ صوتُ جورج وسوف، وشخصيته وتأثيره الكبير على الشباب والمراهقات، أيضاً نوعاً من القدر الغنائي، حاله حال الأقدار السياسية الدرامية الضحلة، مما يشبه العاصفة أو القحط والجفاف؟ أليس بهذا هو أبعد من أن يكون غناءً شعبياً محبوباً، على الرغم وربما بسبب شعبيته الطاغية التي هي بمكان ما فوق السؤال وفوق النقد؟

أتساءل بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة على آخر "ما يطلبه الجمهور" ووداع أيام المذيعة ماريا ديب. فنحن لا نختار جورج وسوف حسب ما نهوى، حتى إذا رفضناه يبقى يحيط بنا من كل صوب، كالهواء، كصَفعات الريح في سيارات الأجرة والمطاعم والباصات وعند الحلاقين. فيما ميادة الحناوي ليست قدراً، إنها هروبٌ متوارٍ من القدر، هروبٌ فاشل بالطبع، لكنها مع ذلك محاولة هروب محترمة.

كنت أبحث عن صيغة فنية ما تسمح بجَسْر الهوّة بين ميادة وجورج فتعثرت على الفور في أول احتمال لحشر صوت ما آخر، صوت مساند، صوت بمثابة جسر، كان ذلك صوت أصالة نصري. استبعدتُ أمل عرفة ونجوى كرم على الفور. ومع آلية الاستبعاد هذه أخذت طريقي الخاص إلى السماع حتى اليوم، سماعاً هو مزيجٌ من تكرارٍ ثقيلٍ وندمٍ خليلٍ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

الإعلام الموجّه والرسمي لا ينقل الواقع كما هو. 

رصيف22 يعمل كي لا تُحرَّف السردية.


Website by WhiteBeard
Popup Image