اختنقت الأماكن وضاقت الأرض، وبات الكل في لحظة ذهول، وصمت مدقع إلى حد الخرس. الكارثة كبيرة على عصفوري الحب، صالات لبنان لم تعد تتسع لأفراحهم، فكيف لهما أن يقيما حفلاً في صالة استعملت من قبل، نريد شيئاً خارج المألوف، شيئاً يدهش الجميع، فإن لم يتسع سطح الأرض لسكانها، فلماذا لا ندخل إلى باطنها؟ هكذا بدأت القصة.
جعيتا ليست أول الضحايا
زوجان مرهفان إلى حد الجنون، قررا أن "يعرّسا "في مغارة جعيتا، فهذه الفكرة لم تخطر على بال أحد من قبل، وحتى وإن خطرت فكانت هذه الخطوة مستحيلة في ظل وجود شركة مشغّلة تمنع حدوث أي هرطقة يمكن أن تؤثر على المغارة ومكوناتها، اتصلا بالبلدية الوصية على المغارة بعد انتهاء عقد الشركة، والتي استأذنت وزارة السياحة شفهياً، وكان ما لهما، عرس (مطنطن) على وقع موسيقى صاخبة وإضاءة شديدة، أقيم هذا العرس غير التقليدي وغير الحضاري في الوقت عينه.
مشهد "التعريس" في مغارة جعيتا، يفتح الباب على مصراعيه للوقوف على واقع الأماكن الأثرية والتراثية والبيئية، والتي يجري الفتك بها يوميّاً في لبنان، وآخر ما شهدناه حصل في مغارة الفقمة في عمشيت، حيث ضُربت القرارات القضائية القاضية بتوقيف أعمال البناء بعرض الحائط
لم تكن مشاهد العرس مدهشة فقط كما أرادها العروسان، بل كانت صادمة وصاعقة، فكيف لمنطقة حساسة بيئياً وفيها عشرات الأنواع من الكائنات المجهرية والفطريات، فضلاً عن التكونات الكلسية التي يقدر عمرها بآلاف السنوات، عدا عن كون المغارة تضم نبعاً غزيراً، والذي يعد المصدر الأول لمياه مدينة بيروت، والمحميّة بمجموعة من القوانين والإجراءات لسنوات طويلة، أن تصبح لقمة سائغة لمراهقين، ولبلدية تعلن صراحة لهاثها وراء المال ووزارة مستقيلة من مسؤولياتها؟
مغارة الفقمة تعاني أيضاً
مشهد التعريس في مغارة جعيتا، يفتح الباب على مصراعيه للوقوف على واقع الأماكن الأثرية والتراثية والبيئية، والتي يجري الفتك بها يوميّاً في لبنان، وآخر ما شهدناه أخيراً ما حصل في مغارة الفقمة في عمشيت، حيث ضُربت القرارات القضائية القاضية بتوقيف أعمال البناء أعلى المغارة عرض الحائط، واستمرت الأعمال رغم التقارير التي تؤكّد خطورة هذه الأعمال على المغارة، ورغم كل المناشدات الشعبية والاعتصمات من الناشطين، واعتراضهم لشاحنات الإسمنت بأجسادهم على الطرقات، والتي استطاعوا أن يوقفوها مؤقتاً.

من منا لا يذكر جسر نهر الكلب الأثري والذي استبيح من منتجع سياحي محظي برعاية سياسية، وهو مهدد بالانهيار، وكله أمام مرأى وزارة الثقافة؟
وكذلك أعاد هذا المشهد التذكير بطمر وطمس المعالم الأثرية في منطقة الباشورة وتحويلها إلى موقف للسيارات، في إهمال واضح من وزارة الثقافة، حيث تم تخريب الآثار من أجل منافع شخصية، وأنا شخصياً كنت قد مُنعت عام 2017 من الدخول إلى تلك البقعة وتصويرها، بحجة أنها تخضع للصيانة، والحقيقة أنها كانت تخضع للتجريف والتخريب من أجل إقامة هذا الموقف.
ومن منا لا يذكر جسر نهر الكلب الأثري والذي استبيح من منتجع سياحي محظي برعاية سياسية، وهو مهدد بالانهيار، وكله أمام مرأى وزارة الثقافة.
هذه الحوادث غيض من فيض، حيث لا "يعرّس" من يريد فقط في مغارة أثرية، بل في أي بقعة يجد فيها متسعاً لعرض غروره وعنجهيته وقلّة وعيه لما يقوم به تجاه هذه الطبيعة، ومتستّراً بالتراخي الرسمي، وسقوط منطق المحاسبة، ويفتح الباب للسؤال عن الشعور بالمسؤولية تجاه البلد وما فيه من مرافق مهمّة، وضعت لبنان في مقدمة الدول السياحية.

ماذا عن شواطئ لبنان؟
الاعتداءات على المناطق الطبيعية لا تقتصر فقط على ما تم ذكره أعلاه، وإنما سعى المواطن اللبناني المحظي لفترات طويلة بدأت منذ الحرب الأهلية مع الفوضى التي رافقتها إلى احتلال الشاطئ، حيث أنشئت المنتجعات السياحية والمطاعم على الشاطئ تماماً، من دون مراعاة لمبدأ الملكية العامة للشاطئ المنصوص عنها في القرار 144/س تنظيم الأملاك العمومية الصادر في 10 حزيران/ يونيو 1925، ودون الأخذ بعين الاعتبار تغيير طبيعة الشاطئ حيث تم تجريف وصب الصخور بالإسمنت فتم تخريب موائل المخلوقات البحرية وأماكن تكاثرها، عدا عن حرمان خزينة الدولة من عائدات هذا الاحتلال، وحرمان الناس من الولوج إلى الشاطئ.
أما على صعيد الغابات التي زينت جبال لبنان، فهناك المصيبة الكبرى، حيث تم "إحراق" عشرات الدونمات من الأشجار، فضلاً عن قيام مافيا تجار الحطب باقتلاع الأشجار المعمرة وقطعها، وكان أبرزها أشجار اللزاب الحساسة بيئيّاً والمساهِمة بشكل كبير في النظام البيئي اللبناني، والمحافظة على ديمومة الثلوج على قمم الجبال لفترات طويلة.
لم تسلم آثار لبنان من الحرب الإسرائيلية الأخيرة، كقصف سوق النبطية الذي يعود إلى القرن الثالث عشر، هو وعشرات البيوت التراثية. وتضرر مقام النبي محيبيب ومقام النبي شمع، وأيضاً القصف بالقرب من قلعة بعلبك وتدمير مبان تراثية مجاورة لها والإضرار بالمعبد الروماني داخلها
وعلى صعيد الأنهار فالاعتداءات لم تتوقف قط، حيث تحوّلت أنهار لبنان إلى مكبات للنفايات السائلة والصلبة، ناقلة معها كل "الموبقات" حيث تحولت إلى بؤر للمواد الفاسدة التي تركت آثاراً مباشرة على صحة الإنسان.
والآثار التي دمرتها الحرب
كل هذه الاعتداءات التي اقترفها مواطنون على مرأى من السلطة اللبنانية، زادت من آثارها الكارثية الحرب الإسرائيلية الأخيرة، حيث عمد الطيران الإسرائيلي إلى قصف الأماكن التراثية كما فعل بـ سوق النبطية الذي يعود إلى القرن الثالث عشر، والذي تم تدميره بشكل كبير مع عشرات البيوت التراثية فيه.

وكذلك قصف الأماكن الأثرية، حيث فجر وجرف عدة مواقع منها مقام النبي محيبيب في بلدة محيبيب قضاء مرجعيون في الجنوب اللبناني، ومقام النبي شمع في بلدة شمع قضاء صور، ومسجد بلدة بليدا الأثري الذي تعاقبت عليها مختلف الديانات التي وصلت إلى الجنوب. كما تم تدمير شارعين أثريين في مدينة صور، وكذلك قصف الجيش الإسرائيلي بالقرب من قلعة بعلبك ودمر مباني تراثية مجاورة لها وأدى إلى أضرار في المعبد الروماني داخل القلعة.
اليوم ندق ناقوس الخطر، لنقول إن هذه الآثارات والمناطق الطبيعية والسياحية ليست ملكاً لبلدية ولا ملكاً لوزير/ة، بل هي ملك لجميع اللبنانيين، وملك للأجيال القادمة، فماذا سنترك لهم؟
هل سنترك لهم أماكن مدمّرة وفاقدة للحياة؟ وعوضاً من أن تكون هذه الأماكن متنفساً للبنانيين، ورافعة اقتصادية للبنان، ومع كل هذه الاعتدءات سواء أتت من الداخل أو الخارج، تخسر الخزينة اللبنانية الكثير من الإيرادات، في الوقت الذي يستجدي فيه لبنان الدول المانحة من أجل قروض وهبات.
أما على صعيد الاعتداءات الإسرائيلية، يجب مقاضاة الاحتلال ليس فقط على المجازر التي ارتكبها بحق البشر، وإنما على ما ارتكبه بحق الحجر والطبيعة اللبنانية، ويجب تعويض ما تم حرقه من أحراش وغابات كانت تعد رئة المنطقة، من خلال حملات التشجير، كذلك يجب إعادة إعمار الأماكن التراثية والأثرية مع المحافظة على الصورة التي كانت عليها قبل العدوان.
أما بالنسبة إلى الاعتداءات الداخلية، فبات من الضرورة وضع حد لكل هذه التجاوزات في كافة الأماكن الأثرية والتراثية والطبيعية، وسن القوانين التي تحفظ هذه الأماكن وتصونها من كل الاعتداءات، وتنفيذها بالفعل. مع التأكيد على ضرورة رفع قيمة الغرامات، والأهم من كل هذا محاسبة المسؤولين عن "التعريس" أكان التعريس في مغارة أم في حرش أم على شاطئ، حتّى لا يبقى المعرّسون يمارسون أعمالهم الدنيئة بحق بيئتنا وطبيعتنا المميزة من دون محاسبة، فلكل شيء حدود، إلا التعريس فلا حدود له.
ملاحظة: "التعريس" مشتق من عرس أي زفاف، ويعني إقامة العرس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



