انتهى العدوان الإسرائيلي لكنّ تداعياته البيئية لم تنتهِ. فمع غياب الخطط السياسية الواضحة لأزمة النفايات، غرقت شوارع بيروت وطرابلس والجنوب بأكوام قمامة إضافية، ما جعل من هذه الأزمة مؤشراً دالّاً على التحديات المزمنة التي تواجهها مؤسسات الدولة في تطوير حلول فعالة ومستدامة لهذه المشكلة البيئية، سواء في ظروف الاستقرار أو في أوقات الأزمات.
وشكّل النزوح الناتج عن عدوان 2024 عامل ضغط إضافياً، وساهم في تفجّر أزمة النفايات من جديد.
منذ نهاية الحرب الأهلية، كانت شركة "سوكلين" تدير عملية جمع النفايات في بيروت وجبل لبنان بنظام مركزي غير مستدام. فـ"مطمر الناعمة" مثلاً بقي قيد الاستخدام منذ عام 1997 حتى 2015، وتجاوز طاقته الاستيعابية بأشواط، إلى أن تم إغلاقه في تموز/ يوليو 2015، حيث توقفت شركة "سوكلين" أيضاً عن جمع النفايات، فغرقت شوارع بيروت وطرابلس والجنوب في أكوام القمامة.
أزمة النفايات في لبنان تشكّل نموذجاً واضحاً عن الإشكاليات المؤسسية التي تعيق الإدارة البيئية الفعالة. فهي ليست مجرد مسألة تقنية، بل أزمة مركّبة ذات أبعاد سياسية وإدارية، تكشف عن غياب الرؤية الشمولية ضمن أجهزة الدولة، وضعف التنسيق بين السلطات المعنية، ما يحول دون الوصول إلى حلول مستدامة.
فبرغم مرور سنوات على الأزمة، لا تزال المعالجات مؤقتةً، يغلب عليها منطق الترقيع لا التخطيط المستدام، فيما تتكرر الأزمات مع تغيّر مكبّات وتبدّل شركات وتضارب صلاحيات بين الوزارات والبلديات، ليبقى السؤال الثابت: هل أزمة النفايات تقنية أو سياسية؟

بدايات أزمة النفايات
عانى لبنان من أزمة النفايات على مرّ عقود، ولا سيما النفايات الصلبة، مع غياب التخطيط المستدام والحلول الجذرية، وتسييس الملف البيئي. ولكن الأزمة تفجرت عام 2015، مع إقفال مطمر الناعمة بعدما فاق قدرته الاستيعابية وتسبب في كوارث بيئية وصحية خطيرة لسكان المنطقة والمحيط. وهنا بدأت النفايات تتراكم بشكل هستيري، ما سبّب ولادة الحراك المدني: حملة "طلعت ريحتكم" عام 2015- 2016.
في تلك الفترة، لجأت الحكومة إلى حلول ترقيعية ولا سيما نقل النفايات إلى أماكن بعيدة عن أعين وسائل الإعلام، إلى أن افتتحت من جديد مطمرَين أكثر حساسيةً بيئيةً جغرافياً، كونهما يقعان على الساحل: مطمر الكوستا برافا، ومطمر برج حمود.
خلال هذه الفترة (2016-2020) تم ردم البحر، واستُحدثت مطامر شاطئية. كان لبرج حمود حصة الأسد من هذه الأزمة البيئية، كونه استُخدم كموقع بديل لاستقبال نفايات بيروت وجبل لبنان، خصوصاً أنه لم يكن مهيئاً لاستقبال هذا العبء، وأنه افتُتح كجزء من خطة الحكومة الطارئة عام 2016.
في عام 2024، عادت أزمة النفايات لتنفجر مجددًا بعد العدوان الإسرائيلي، ليس فقط بسبب دمار البنى التحتية، بل بفعل النزوح الداخلي الذي زاد الضغط على المناطق المستضيفة. هذا الانفجار أظهر هشاشة النظام البيئي في لبنان، حتى في لحظات الاستقرار العسكري المؤقت
ومع انشغال الحكومة حينها بمعالجات ترقيعية بيئية لمناطق بيروت وجبل لبنان، تفجرت أزمة النفايات في مناطق أخرى من لبنان، كطرابلس "الشمال"، وصيدا "الجنوب".
لطالما عانت المدينتان مثل سائر مناطق لبنان، من الافتقار إلى شبكات متطورة لجمع ونقل ومعالجة النفايات، ومن عدم وجود مكبات صحية أو مراكز تدوير حديثة، ما دفع إلى تراكم النفايات في الشوارع، أو إلى استحداث مكبات عشوائية كالرمي في البحار والأنهر. ففي صيدا مثلاً، كان هناك مطمر غير قانوني يقع على أطراف المدينة، وكانت إدارة هذا المطمر محاصصةً بين جهات سياسية، ما أدى إلى التلوث البيئي والصحي في تلك المنطقة.

مخالفة صريحة لمبادئ الشفافية
هنا، لا بد من الرأي القانوني حيال شرعية المحاصصة السياسية المبنية على الطائفية والمناطقية في توزيع عقود جمع النفايات وتشغيل المطامر، ولا سيّما حين تُمنح العقود بناءً على اعتبارات سياسية أو طائفية بدلاً من الكفاءة والسعر الأفضل.
في هذا الشأن، تقول دكتورة القانون نرجس نون، لرصيف22: "المحاصصة تُعدّ ممارسةً تتنافى مع مبادئ الشفافية والمنافسة الحرّة، كما نصّ عليها قانون الحق في الوصول إلى المعلومات (قانون الرأي العام)، كما أنّ تغييب الإعلان العلني وتجاهل المعايير الموضوعية في منح العقود يتعارضان صراحةً مع مبدأ الشفافية".
ولدى السؤال عن إمكانية الطعن قانونياً في عقود تُبرم بناءً على نفوذ سياسي أو مناطقي، تؤكد القانونية أنه يمكن الطعن قانونياً بالعقود التي تُبرم بناءً على نفوذ سياسي أو مناطقي، بحسب قانون الشراء العام اللبناني الذي يحمل الرقم 244، لعام 2021، والذي يؤمّن أدوات قانونيةً للطعن والمساءلة، كما يعطي للقضاء دوراً مركزياً في محاسبة الجهات المتورطة.

نفايات خطرة
يشهد لبنان انتشار أنواع متعددة من النفايات بسبب غياب الخطط الفعالة والمستدامة، ولكن أيضاً بسبب استهتار المواطنين أو عدم وعيهم بخطورة الأزمة، إذ تشكل النفايات المنزلية (البلديّة) أو النفايات الصلبة، من بقايا طعام ونفايات عضوية أخرى، بالإضافة إلى الورق والبلاستيك والكرتون، النسبة الأكبر من النفايات الموجودة في لبنان.
بين 2016 و2020، رُدمت أجزاء من البحر في برج حمود والكوستا برافا لإنشاء مطامر شاطئية مؤقتة في قلب البيئة الساحلية، ما أدّى إلى تدمير بيئي حاد في مناطق مأهولة.
بحسب تقرير نشرته "هيومن رايتس ووتش"، عام 2017، بعنوان "كأنك تتنشق موتك"، يعاني من يسكنون بالقرب من أماكن الحرق المكشوفة من مشكلات صحية تترافق مع التنشق المطوّل والمتكرر لدخان محارق النفايات، ومنها مرض الانسداد الرئوي المزمن، السعال، التهابات الحلق، الأمراض الجلدية، والربو، بالإضافة إلى أمراض القلب والسرطان، كون النفايات البلدية عندما تُحرق تطلق الجزيئات الدقيقة كالديوكسين، والمركّبات العضوية المتطايرة، ومركبات الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات، وثنائي الفينيل متعدد الكلور.
في المقابل، تبلغ كمية النفايات الطبية الناجمة عن المستشفيات في لبنان، عشرة أطنان يومياً، بحسب أرقام 2016، تُضاف إليها ثلاثة أو أربعة أطنان من النفايات الطبية الناجمة عن المختبرات، ومراكز الأشعة، وأطباء الأسنان، والأطباء البيطريين، ما يؤدي إلى تلوث المياه السطحية والجوفية بمواد مسرطنة بسبب تسرب الملوثات الناجمة عن الرمي العشوائي للنفايات الطبية.
بالإضافة إلى هذه النفايات، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك أنواعاً أخرى ناتجةً عن المصانع والمزارع ولكن بنسبة أقل.

مشكلات صحية لانهائية
أسماء، طالبة جامعية من صيدا، عانى أغلب أفراد عائلتها من السرطان، تحديداً سرطان الكبد، بسبب التلوث الناتج عن حرق النفايات العشوائي بين المنازل. تقول لرصيف22: "بيتنا صاير محرقة، كل يوم بيحرقوا زبالة بين البيوت عنّا بالمنطقة، غير الروايح، أنا صار عندي ربو من ريحة الزبالة المحروقة".
أما وليد، وهو اسم مستعار، فيسكن بالقرب من نهر أبو علي في طرابلس، ويؤكد لرصيف22، أنّ الحياة في الصيف لديهم أشبه بالجحيم، يقول: "بطّل حدا يزورنا بالصيف، روايح بشعة، ذباب وحشرات، ومستحيل يجي حدا لعنا وما يمرض تاني أسبوع".
بينما تقول نتالي، التي تسكن بالقرب من مطمر برج حمود، إنها تعاني بشكل مزمن من الحساسية والأمراض الجلدية بسبب الروائح الخانقة، خصوصاً أنّ مكان عملها أيضاً قريب من المطمر، ما يزيد الوضع سوءاً.
وتؤكد لرصيف22، أنّ البلدية قبل 5 أعوام كانت تأتي دوماً لرشّ المبيدات والمواد بغية التخلص من الجرذان والحشرات في المنطقة، لكن منذ عام 2020 وأزمة الدولار، لم يعد أحد يأتي لرشّ المنطقة، الأمر الذي جعل الأمور تتفاقم.
بحسب دراسة أُجريت في الهند عام 2018، دائماً ما يعاني العمال والسكان القريبون من مواقع التخلّص من النفايات من التهابات جلدية وحساسية عينية، بينما تشير دراسة أخرى للأمم المتحدة، إلى أنّ 93% من الأطفال تحت 15 عاماً يتعرضون لمستويات عالية من الجسيمات الدقيقة الصادرة من نفايات البلاستيك، ما يؤثر سلباً على نمو الجهاز العصبي والتنفّس.
أُنشئ مطمر الناعمة عام 1997 كحل مؤقت، لكنه استُخدم حتى عام 2015 وتجاوز قدرته بكثير. بعد إغلاقه، انهارت منظومة جمع النفايات المركزية التي كانت تديرها شركة "سوكلين"، فانهارت معها بيروت وطرابلس والجنوب في فوضى بيئية ما تزال مستمرة حتى اليوم
في العام 2024، نشرت منظمة الصحة العالمية دليلاً مفصّلاً حول تأثير الإدارة السيئة للنفايات (البلدية والطبية والإلكترونية) على الصحة، وتبيّن أنّ الحرق المفتوح وإلقاء النفايات في المكبات يطلقان موادّ ضارةً مثل الديوكسينات والفلورانات والرصاص، كملوثات للهواء، ما يسبب حتماً أمراضاً تنفسية. أما ملوثات الماء والتربة فتؤدي إلى تشكّل برك موزعة للأمراض مثل الكوليرا والملاريا.

ما مدى الضرر البيئي الحالي والمستقبلي في لبنان؟
للإجابة عن السؤال السابق، التقى رصيف22، الخبيرة البيئية الدكتورة آمنة خالد من طرابلس، وهي إحدى أكثر المناطق تضرراً من أزمة النفايات.
تؤكد خالد، أنّ حرق النفايات العشوائي وفي الهواء الطلق (بسبب عدم توافر أنظمة جمع ونقل النفايات بشكل منظم)، يساهم في إطلاق غازات سامّة مثل أول أوكسيد الكربون والديوكسين، بالإضافة إلى الجسيمات الدقيقة، ما يلوث الهواء تلوثاً شديداَ. أما على صعيد التربة، فالمواد السامّة من النفايات كالزئبق مثلاً تتسرب إلى التربة وتجعلها غير صالحة للزراعة.
وأما النفايات الموجودة بالقرب من الشواطئ أو المكبات القريبة من الساحل، فتساهم في تلوث المياه البحرية والأنهار عبر جريان مياه الأمطار التي تحمل المواد السامة والنفايات البلاستيكية إليها، الأمر الذي يفسر كيف تصل النفايات إلى نهر"أبو علي"، طبعاً بالإضافة إلى الرمي المباشر في النهر، ما تسبب في زيادة نسبة الطحالب الضارّة وتدهور الحياة البحرية.

أثر تفكك القرار السياسي
تقول الدكتورة سارة عبيد، المنتخبة حديثاً عضواً جديداً في بلدية المنية النبي يوشع (طرابلس)، عن أولويات البلدية لمعالجة أزمة النفايات، إنّ أولى الخطوات هي التوعية المجتمعية، خصوصاً لمدينة غارقة في النفايات مثل طرابلس، فالحلّ يبدأ بزيادة الوعي المجتمعي بحسب رأيها.
وتقول: "البلدية ستسعى جاهدةً إلى بدء الفرز من المصدر، وتحسين نظام الجمع عبر جداول منتظمة واستخدام مركبات حديثة وكوادر مدربة، لضمان عملية نقل فعالة ونظيفة. ولكن كل هذا يبقى حبراً على ورق في حال لم تحصل البلدية على مصادر تمويل، كون الموضوع ليس بسيطاً بل بحاجة إلى مؤازرة من القطاع الخاص والمجتمع المدني في آن واحد".
رغم أن القانون اللبناني يتيح الطعن في العقود المُبرمة على أساس المحاصصة الطائفية أو النفوذ السياسي، لا تزال إدارات النفايات تُوزع بهذا المنطق. مما يعمّق الفوضى القانونية ويُفشل أي محاولة للإصلاح البيئي
وحول مصادر التمويل التي تطمح إليها البلدية، تقول: "بالطبع مشكلة شائكة مثل النفايات بحاجة إلى منح ومساعدات خارجية دولية. ولكن البلدية الجديدة ستقوم بخطوة جديدة من نوعها بفرض رسوم بيئية تدريجية على المواطنين بشكل رمزي، وفرض غرامات على الرمي العشوائي".
وحول تضارب الصلاحيات والمرجعيات الحكومية والبلدية، تقول أستاذة القانون نرجس نون: "في القانون اللبناني لا توجد جهة مركزية واحدة تحتكر صلاحية إدارة ملف النفايات، وتالياً هناك غياب للنص القانوني الواضح، الذي يحدد بالشكل النهائي من هو صاحب القرار والجهة الحاسمة في إدارة هذا الملف، خصوصاً عندما تختلف الرؤية بين وزارة البيئة والبلديات حول آلية المعالجة، الأمر الذي يساهم في التدخّل أحياناً من وزارة الداخلية في حلّ الخلافات، ما يكرس تداخل الصلاحيات وتضاربها".
وتضيف: "بحسب قانون حماية البيئة، القانون رقم 2002/ 444، تُعدّ وزارة البيئة الجهة المخوّلة بوضع السياسات العامة لحماية البيئة بما في ذلك إدارة النفايات، لكنها لا تمتلك صلاحيات تنفيذها مباشرةً، ما يضعف قدرتها على فرض السياسات التي تقترحها".
أما عن دور البلديات، فتؤكد القانونية أنها المسؤولة عن تنفيذ مقترحات وزارة البيئة بحسب قانون البلديات لعام 1977 (جمع ونقل ومعالجة النفايات وإبرام الاتفاقيات مع الشركات)، ليقتصر دور وزارة الداخلية على التنسيق بين الجهتين.
أزمة النفايات في لبنان ليست مسألةً تقنيةً بل مرآة للأزمة السياسية العميقة. فطالما بقيت الحلول خاضعةً لموازين القوى ومصالح الزعامات، ستبقى شوارع لبنان معرضةً للغرق في القمامة كلما انهار اتفاق أو تبدّل توازن. الحل يبدأ من الاعتراف بأنّ النفايات ليست عبئاً بل مورد يمكن إدارته بذكاء، لو توفرت الإرادة والحلول المستدامة، وإلا سيبقى لبنان غارقاً في القمامة!
أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية "DRI"، ضمن مشروع "أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلّة في لبنان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.