خيط حسّي يسحبك
تخيّلوا لحظة تتوقفون فيها عن التنفّس، فتلتقطون كل التفاصيل الصغيرة من حولكم: صورة، صوت، أو حتى رائحة تحفظونها داخل رؤوسكم.
عبر الأسطر التالية، سنتفكّر معاً كيف يلتقي الفرح بالخراب، والحضور بالهروب، والإحساس بالأمان بخطر الموت. ثنائيات متناقضة تصدم الحواس وتجذب الانتباه في آن.
مهرجان حرش بيروت
بين أجواء الحرش يرنّ أزيز رصاص المخيمات في الخلفية، كصدى ماضٍ لم يندثر بعد. ويسطع الخسوف الأخير في هذه السنة لقمر دمويّ السحنة، فيكسو المكان بوهج غريب.
أما في "الهنا والآن"، فيصدح صوت المطربة جاهدة وهبة بأكثر من ثلاث لغات، حاملاً رسائل الانتماء الوطني والانفتاح على العالم بخلطة فريدة. ومن خلال مونودراما تقليلية وساخرة في العراء الخريفي، تروي أنجو ريحان بصوتٍ عالٍ ولهجة جنوبية أصيلة قصص معاناة نساء هنّ الكل ولا أحد: من المتوقعات والمقموعات إلى المتحررات والمدهشات، مع رجعات متكررة إلى ربوع البلد.
مشاركة الناس في مهرجان حرش
بهذه اللمحات، لا يبقى الحرش مساحة طبيعية فحسب، بل يغدو مسرحاً حياً للتناقضات الإنسانية. تمتزج في ممراته الضيقة روائح التراب المبتل والأعشاب المحروقة بتردّدات خطوات المحتفلين، فيدرك المرء أن كل اهتزاز في هذا البعد يحمل تاريخ المكان وصدى صراعاته المتتالية.
تاريخ قريب وسياق أخير
ضمن مشروع "بالفنون والرياضة نلتقي ونرتقي"، قدّم مهرجان حرش بيروت 2025 بدورته الثامنة (5 ـ 7 أيلول/سبتمبر) مروحة واسعة من الأنشطة المختارة بعناية: موسيقى، مسرح، عروض دمى، ندوات حول الشعر والبيئة، وجولات داخل غابة الصنوبر الصغيرة.
الدعوة العامة والمجانية بادرت بها جمعية "السبيل-ثقافة للجميع"، التي تنشر مكتباتها العامة في "الباشورة" و"مونو" و"الجعيتاوي" منذ ما يقارب الربع قرن، جاعلة الكتاب في متناول كل من يرغب بلا شروط. كما تحقق المهرجان بالتعاون مع "بلدية بيروت" وجمعية "نحن"، وبدعم ميداني من "كووتر إنترناشونال"، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية.
الحرش ليس مجرد مساحة خضراء، بل هو مرآة تعكس صراعات المدينة وأحلام أهلها، حيث يصبح الفن صوتاً يردم فجوات التهميش ويعيد الحياة
استقطب الحدث أكثر من أربعة آلاف زائر وزائرة من مختلف الشرائح العمرية والانتماءات الاجتماعية والتنوّعات الاقتصادية والثقافية، بينهم وجوه مألوفة من المجتمع المدني، ذلك البديل المتطوّر عن اليسار القديم، إذا صح التعبير.
لكن بعد صيف مشتعِل، لن تكون هذه التغطية تقليدية للمكان. بل سنحاول مقاربة الحرش كمساحة قائمة على تخوم الضاحية الجنوبية المهدّمة والمثقلة بالمطالبات بإعادة الإعمار.
الأشخاص المعوقين يرفعون التدوير إلى إبداعات في مهرجان حرش
خلال الحرب الأخيرة على لبنان تحوّل الحرش إلى ملاذ للنازحين الذين فقدوا منازلهم. في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2024 لجأت مجموعة من المهجّرين إلى المكان، بعد استهداف مساكنهم، معتبرين إياه مأوى أخيراً رغم قساوة الحياة بلا سقف. ومع تزايد الأعداد، أصدرت بلدية بيروت في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 قراراً بالإخلاء: أمهلت اللبنانيين يوماً واحداً للانتقال إلى الكرنتينا، وطردت غير اللبنانيين بلا بديل.
في موازاة ذلك، لعبت مبادرات مجتمعية دوراً مهماً في الحفاظ على الحيوانات، إذ اعتنى "صندوق كلاب حرش بيروت" بنحو 22 كلباً، مؤمّناً لهم الغذاء والرعاية وسط ظروف قاسية.
من هم هنا؟
أصوات ملوّنة قطفناها عبر دردشات حيّة وأحاديث في فناءات الاحتفالية المفتوحة، مع بعض الزوار العابرين أو الرواد الدائمين؛ تقول هيام، ناشطة فلسطينية في منتصف العمر ورئيسة جمعية لذوي الإعاقة: "خلال الحرب كنا نتنقّل بين برج البراجنة والشياح، حيث مركز الجمعية، نشعر بالأمان هناك أكثر. لكن حين اشتد القصف صرنا نهرب نحو الحرش. إذا بدأ القصف على الشياح، نحمل ما تطاله أيدينا ونهرب مباشرة، ثم نعود إلى ديارنا بعد أن يهدأ الوضع قليلًا. كان الخوف كبيراً جداً، والناس يخرجون كما هم: بملابس النوم والشحاطات، وهمّهم الوحيد النجاة.
اليوم المشهد مختلف: هناك فرح وراحة، خصوصاً مع الأطفال وأجواء تبعث الأمل. للحرش رمزية ومعنى، فهو يربط بيروت بالضاحية، ويجمع الناس من بيئات مختلفة بلا طائفية. وهذه قوته".
تضيف خلود، سيدة من منطقة بَدارو، تعمل في الفنون المسرحية: "كنت أصطحب ابنتيّ إلى المهرجانات. حتى قبل ذلك، كنا نأتي دائماً. أذكر أن عمر إحداهما كان سنتَين، وكان الحرش يُفتح ويُغلق بشكل متقطع، فنأتي أحياناً ويطردوننا من الباب. ومع ذلك، اعتبرناه نعمة لأنه قريب، خصوصاً لوالدتي الثمانينية التي كانت تمشي يومياً ستة أو سبعة كيلومترات فيه. لولاه لعاشت في عزلة.
سوق الأكل إلى جانب مهرجان حرش
الحرش يكرّس الصحة والراحة معاً. وهو نقطة لقاء بين بيروت وأطرافها. لكن يحتاج إلى المزيد من التنشيط؛ فعاليات تجعل الناس يشعرون أنهم جزء من المدينة. حتى إضافة ألعاب للأطفال، على بساطتها، إيجابية جداً".
أما عفيفة، سيدة تعمل في الإعلام، فتقول: "الوصول إلى الحرش سهل، وقد رأيت فيه حالة من السياحة الداخلية. لكنه يفتقر إلى مقومات أساسية: الإنارة، الإشارات، المقاعد. المكان ممتاز من ناحية ترتيب الأشجار، لكنه يحتاج إلى اهتمام أكبر.
الحرش حلّ رائع، لأنه يتيح لذوي الدخل المحدود الترفيهَ والاختلاط. التجربة ناجحة وأعتقد أنها لن تكون الأخيرة".
الفن يكسر التهميش
جدير بنا أن نسأل إذاً: هل استطاع المهرجان أن يفتح المكان فعلاً أمام الجميع أم اكتفى بتجميله مؤقّتاً؟
فقد ظلّ طويلاً ساحةً ممنوعة، مغلقة بقرارات بلدية وأمنية جعلت الناس غرباء في بيئتهم الإيكولوجيّة. وفتحُه اليوم عبر الموسيقى والمسرح خطوة مهمّة، لكنها تبقى غير كافية ما لم ترافقها إرادة صلبة وخطة مدروسة.
الفن هنا يلعب دوراً مزدوجاً؛ يمنح أملاً ويخلق لحظات فرح متساوية، لكنه يذكّر أيضاً بالهشاشة. هيام ما زالت ترى في الحرش امتداداً للهروب من الموت. خلود تستعيد طفولة ابنتيها في ظلّ إغلاق متقطّع جعل اللحظة المشتركة استثناءً نادراً. أمّا عفيفة، فتنبّه إلى غياب أبسط شروط السلامة في الزيارة.
الحرش ليس مجرّد مساحة خضراء في قلب بيروت، بل مسرح حيّ تتقاطع فيه الذاكرة الفرديّة مع الجماعيّة. شهادات النساء الثلاث تكشف كيف كان يوماً ملاذاً من القصف، ومتنفّساً لأجساد تبحث عن الحركة والحياة. من برج البراجنة إلى بدارو، ومن أجيال مختلفة، برز الحرش رمزاً بين الضاحية والوسط، بين الأمان المؤقّت والخوف الموروث، بين الطرد من أبوابه والاحتفال داخله.
خاتمة وسؤال
ولنخرج بتساؤل أعمق: هل يمكن لحرش بيروت أن يصير مساحةَ عدالةٍ مدنية ونقطة لقاء فعلية؟ أم سيبقى حدّاً فاصلاً لنزاعات قد تنفجر مجدداً، كما في أحداث الطيونة (14 تشرين الأول/أكتوبر 2021) إثر تظاهرة مرتبطة بتحقيق تفجير المرفأ؟
لقد أعاد الاحتفال إبراز التوتر الدائم بين الهامش والمركز، بين من يحضر ومن يُقصى. وهو يذكّر بهشاشة الانسجام الاجتماعي وضرورة الرعاية الشاملة لكل زائر.
شعارات في مهرجان حرش
يبقى الحرش مثالاً حياً على التحديات التي تواجه العاصمة، ودليلاً على أهمية دمج الثقافة والفنون والبيئة مع الرعاية الإنسانية لتقديم تجربة متكاملة ومستدامة. بعد حرب ضروس، كان الحصرم فيها وجبة خفيفة للكبار والصغار.
أترك هذه الجملة الطويلة كما هي، كحبل يربطنا بالصيف المنصرم وواقع معقّد ممتد على خط زمني من الحوادث الدامية، كالقمر المنتظر في ليلة المهرجان الأخيرة. عسانا نتحرر يوماً ما من لعنة طائر الفينيق!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.