بينما يتواصل العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان، تعمل الجرّافات في مناطق عدة على رفع الركام ومخلّفات المباني المدمّرة، في مشهد تختلط فيه أصوات الحفر وأصوات الغارات اليومية التي لم توفّر حتى الآليات العاملة في الجنوب. فملف إزالة الأنقاض والردم لا يقتصر على كونه استجابةً طارئةً لدمار الحرب، بل يشكّل اختباراً جديداً لدولة سبق لها أن خبرت مراراً فوضى إدارة الردم وملفات إعادة الإعمار. وسط هذه الظروف، تبرز ثغرات إدارية ومالية تجعل من العملية قضيةً سياسيةً بامتياز، تثار حولها علامات استفهام عديدة.
فمنذ وقف إطلاق النار، أطلقت الحكومة سلسلة إجراءات لتنظيم أعمال إزالة الردم، من أبرزها اعتماد دفترََي شروط: الأول لعقود رضائية للأعمال المستعجلة التي لا تحتمل التأجيل بسبب تهديدها السلامة العامة، والثاني للمناقصات الرسمية. وفي الصيغة المعدّلة التي أعدّها رئيس هيئة الشراء العام، أضيف بند يُلزم المتعهدين بالالتزام بالضمانات البيئية، بما يشمل التقيّد بالقوانين واللوائح والإرشادات الصادرة عن وزارة البيئة، خصوصاً في ما يتعلق بفرز الردميات. كما خصصت 900 مليار ليرة لبنانية لاتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، ومثلها لمجلس الجنوب، و500 مليار للهيئة العليا للإغاثة، كلّ جهة ضمن نطاق اختصاصها، لتمويل أعمال رفع الأنقاض الناتجة عن العدوان الأخير.
ومع استمرار النقاش حول أسعار التلزيم وما أثارته من جدل، أعدّ المكتب الاستشاري "خطيب وعلمي" تحليلاً للتكلفة. هذه الشركة نفسها أشرفت على رفع الردم بعد حرب 2006، وواجهت عبر السنوات انتقادات بشأن شفافية العقود والمعايير المتبعة. أشار التحليل الصادر عنها، والذي اعتمدته الوزارة، إلى أنّ تكلفة إزالة الركام في المناطق خارج المدن تصل إلى 3.65 دولاراً للمتر المكعّب كحدّ أقصى، وفي المدن 5.01 دولار للمتر المكعب كحد أقصى، مع تحديد هذه الأسعار وفق مبدأ التلزيم بالتراضي، على أن تُجرى مناقصة عمومية في حال عدم الالتزام بها، وفق الأصول واللوائح المعتمدة. إلا أنّ سقوف الأسعار التي حدّدها المكتب الاستشاري لم تكن كافيةً بالنسبة للمتعهدين، الذين عدّوها غير واقعية، نظراً إلى الظروف الميدانية والتكاليف الفعلية لنقل الركام وفرزه.
تواجه الضاحية الجنوبية تحديات ميدانيةً وإداريةً معقدةً في عملية إزالة الركام، ما يعرقل جهود رفع الردم بعد الحرب الأخيرة. فهل تنجح الدولة اللبنانية في الاختبار الذي يمثّله ملف إزالة الأنقاض والردم؟
التحديات الإدارية والعدوان الإسرائيلي
تواجه الضاحية الجنوبية تحديات ميدانيةً وإداريةً معقدةً في عملية إزالة الركام، ما يعرقل جهود رفع الردم بعد الحرب الأخيرة. وفق المهندس الاستشاري في اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، وليد جابر، استمرت متابعة الملف أشهراً عدة بعد مناقصة حكومية، حيث تشرف شركة "خطيب وعلمي" استشارياً، بينما تقع المسؤولية التنفيذية على المقاول "البنيان". وأوضح جابر، في مقابلة تلفزيونية، أنّ أبرز العقبات ارتبطت بالمكبّ الرئيسي رقم 338 في منطقة الأوزاعي، الذي توقف عن استقبال الردم لأكثر من شهرين بسبب عوائق بيئية وإدارية، بينها التنسيق مع وزارة البيئة لإجراء الفحوصات اللازمة، ما أدى إلى تراكم الردم في الضاحية. وبعد استكمال الإجراءات والحصول على الموافقات الرسمية، تم رفع نحو 335 مبنى من أصل 370، فيما لا تزال 35 وحدةً قيد التحضير، مع مواجهة صعوبات إضافية مستمرة بسبب تراكم النفايات، ما يستلزم التنسيق مع شركة City Blue لجمعها قبل رفع الردم، وذلك ضمن الآليات المعمول بها.
أما في الجنوب، ومع استمرار العدوان الإسرائيلي، فتوشك الآليات على إنهاء إزالة الركام في معظم القرى والمدن بعد أشهر على تلزيم أعمال رفع الردم للمتعهدَين "بيتا للهندسة" و"إيلي نعيم معلوف". إلا أنّ العمليات شبه متوقفة في المناطق الأمامية المستهدفة من الاحتلال، حيث تتعرض الجرّافات والحفارات للاستهداف المستمرّ من قبل العدو. برغم ذلك، لا يعزى ما أُنجز بالكامل إلى الدولة، إذ شهدت المنطقة مبادرات فرديةً، بحيث قام عدد من السكان المتضررين برفع الركام على نفقتهم الخاصة، متعاقدين مع متعهدين محليين، دون أيّ تعويض، بينما اكتفى المتعهدون بالاستفادة من مواد الردم مثل الحديد والألمنيوم، بالإضافة إلى مبالغ لا تتجاوز ألف دولار عن كل منزل.
أما الجزء الأكبر من الأعمال، فتمّت عبر مجلس الجنوب الذي أطلق خمس مناقصات عمومية، فازت بأربع منها شركة "بيتا للهندسة". إلا أنّ المناقصات لم تجرِ بسلاسة، إذ أُعيدت مرتين بعد رفض كبار المتعهدين المشاركة اعتراضاً على الأسعار المحددة من قبل الوزارة. إلى ذلك، تبقى التحديات أمام استمرار العدوان الاسرائيلي قائمةً، كما الإدارية، ففي المناطق شبه الآمنة لم يُصرف سوى أقل من 900 مليار ليرة من الدفعة الحكومية الأولى، فيما تُنقل كميات الردم إلى المكبات بعد الفحص البيئي، وتستخدم بعض البلديات أجزاء منه في رصف الطرق الزراعية لتقليل الضغط على المكبات، بينما يستمر التنسيق مع أصحاب المنازل لتجنب حجب أي غرف صالحة للسكن. ففي العديد من القرى، اضطر السكان إلى إبقاء غرف صالحة للسكن ضمن المنازل المتضررة، خشية عدم حصولهم على تعويضات مستقبلية، ما يبطئ إعلان انتهاء عملية رفع الردم.
آليات الرقابة الحكومية بين التحديات البيئية والإدارية
أصدرت وزارة البيئة تعميمَين لتنظيم التعامل مع ردم الحرب، وتحديد أماكن نقله، مرفقَين بإرشادات ومحاذير بيئية. فقد صدر التعميم الأول في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024، متضمّناً الإرشادات العامة لإدارة ردميات الحرب في لبنان. أما التعميم الثاني، الصادر في 16 كانون الثاني/ يناير 2025، فجاء استكمالاً للأول، واضعاً مبادئ أكثر تفصيلاً شملت الاقتصاد الدائري والاستدامة، معايير السلامة العامة، توعية العمّال، وحماية التراث الثقافي. إلا أنّ التحديات تبدو أكبر من النصوص، فعمليات الفرز تكاد تكون مستحيلةً أمام ضخامة الكميات، والبنية التحتية للتدوير غائبة تماماً، فيما تتصاعد المخاطر على المياه الجوفية والهواء نتيجة التسربات والانبعاثات والغبار. أما المواد الخطرة من "أسبستوس" ومعادن ثقيلة وذخائر غير منفجرة، فما زالت تُطرح كإشكالية مفتوحة في غياب آليات واضحة للمعالجة، وهو ما يترك السكان والبيئة في مواجهة خطر مستمر.
توضح وزارة البيئة، في تصريح لرصيف22، أنّ ملف إزالة الردم تتقاسمه جهات عدّة، حيث تتولى الوزارة مهمة ضمان نقل الردميات والتخلص منها في وجهتها النهائية بأقل أثر سلبي ممكن على البيئة. في المقابل، تقع مسؤولية جمع الركام على كل من مجلس الجنوب، الهيئة العليا للإغاثة، واتحاد بلديات الضاحية، فيما تعود مسؤولية حماية المواقع الأثرية إلى وزارة الثقافة. وفي وثيقة رسمية حصل عليها "رصيف22" بشكل حصري من قبل وزارة البيئة، على أن تُنشر لاحقاً من قبلها، أشارت الوزارة إلى وجود ثغرات جوهرية تبدأ من غياب التنسيق بين المؤسسات وضعف الإطار التشريعي، ولا تنتهي عند المخاطر الصحية والبيئية، فضلاً عن التحديات المرتبطة بالتمويل والبنية التحتية. وتقترح الوثيقة تطوير قاعدة بيانات وطنية دقيقة، وإقرار إصلاحات قانونية ملزمة، بجانب تعزيز قدرات البلديات والمقاولين في إعادة التدوير واستخدام المواد في مشاريع البنى التحتية، مع إشراك المجتمع وتأمين مصادر تمويل مستدامة. كما تضع الوزارة إطاراً لمتابعة التقدّم يعتمد على مؤشرات كمية ونوعية، تشمل حجم الأنقاض المعالجة، مستوى الالتزام بالمعايير البيئية، حجم التمويل المخصص، ودرجة الشفافية والمساءلة.
التمويل الدولي والإدارة المحلية
لم يقتصر الجدل حول الركام على كونه مسألةً بيئيةً أو لوجستيةً، بل تمدّد ليصبح اختباراً لمدى قدرة الدولة على إدارة أموال المانحين. ففي حزيران/ يونيو 2025، وافق مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الدولي على مشروع "المساعدة الطارئة للبنان"، مانحاً البلاد تمويلاً بقيمة 250 مليون دولار لإعادة إعمار البنى التحتية واستعادة الخدمات الحيوية، مع شرط اعتماد مقاربة شفافة مبنية على البيانات لتحديد الأولويات. فعلى الورق، وضعت وزارة الأشغال العامة ومجلس الإنماء والإعمار خطتَين: الأولى للالتزام البيئي والاجتماعي، والثانية لإشراك أصحاب المصلحة. وسارعت الحكومة إلى تعديل بنية المجلس، من خلال إنشاء مجلس إدارة متكامل وتبسيط الإجراءات، فيما تولّت وزارة البيئة متابعة الجوانب البيئية والاجتماعية، ووزارة الأشغال الإشراف المباشر على التنفيذ تحت مظلة رئاسة الحكومة. لكن، في الميدان، بقيت الصورة أكثر تعقيداً، خصوصاً على صعيد الشفافية في عمليات التلزيم. تشير كلارا غاريوس، مديرة البرامج في مبادرة غربال، إلى تحسّن ملحوظ مقارنةً بالمراحل السابقة: "سابقاً، لم يكن يُنشر أي شيء، اليوم أصبح هناك نشر وإن جزئياً". بحسب غاريوس، مجلس الجنوب نشر تفاصيل عن عدد كبير من المدارس الرسمية، الثانويات، ومباني البلديات التي يرممها عبر طلبات عروض أسعار، مع توضيح الجهة المنفذة وقيمة العقد، وكذلك أعمال الطرق والمباني، بينما بقيت بعض المناقصات الكبرى، مثل إزالة الردم بكميات كبيرة، من خلال مناقصات رسمية محدودة.
في ظلّ مراقبة المجتمع المدني والمانحين الدوليين، تبدو الشفافية والإشراف المباشر على التلزيمات ضرورتَين قصويين لتفادي تكرار الأخطاء التاريخية. لكن التنفيذ لا يزال رهين قدرة المؤسسات على التنسيق، والاستجابة للواقع الميداني، وإشراك السكان المحليين بفاعلية
لكن التحسن لا يخلو من مشكلات تقنية وإجرائية، إذ يعاني الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام من قصور واضح: عدم تدريب الموظفين على رفع الملفات، أخطاء في إدخال البيانات، خلط في تواريخ الإعلان وفضّ العروض، وصعوبة في تحديد القيمة الدقيقة أو الجهة المنفذة. "المشكلة ليست في الآلية نفسها، بل في التطبيق على الأرض"، توضح غاريوس، مشيرةً إلى تفاوت النشر جغرافياً: كثافة في الجنوب، حضور محدود في صيدا، شبه غياب في بيروت، وتغطية جزئية في البقاع. وتضيف غاريوس: "جميع عمليات الشراء منشورة رسمياً على موقع هيئة الشراء العام أو في الجريدة الرسمية، وفي حالات معيّنة نلجأ إلى قانون حق الوصول إلى المعلومات لمعرفة نتائج المناقصات، بما يشمل الجهة الفائزة وقيمة العقد". وتؤكد أنه يمكن لأيّ شخص متابعة موقع مناقصة التابع لمبادرة غربال، للاطلاع على كامل المعلومات المتعلقة بالمناقصات والشراء العام، ما يفتح الباب أمام مراقبة عامة وشفافة.

بين الورق والميدان... هل تُترجَم الالتزامات إلى واقع؟
يبقى ملف إزالة الركام وإعادة الإعمار في لبنان اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة على التعلم من تجاربها السابقة، وعلى ترجمة الخطط الورقية إلى واقع ملموس. فالتعاميم والخطط والمناقصات موجودة، لكن على الأرض تواجه المتعهدين والجهات الرسمية تحديات هائلة: تراكم الردم، المواد الخطرة، حماية المواقع الأثرية، وضمان الالتزام بالمعايير البيئية والاجتماعية، بجانب المخاطر المستمرة للعدوان الإسرائيلي. الفجوة بين الورق والميدان ليست جديدةً، فقد شهد لبنان خلال حروب السنوات الماضية وانفجار مرفأ بيروت تراكم كميات هائلة من الركام دون آليات واضحة للتعامل معها، ما أدى إلى تداعيات بيئية وصحية.

اليوم، وفي ظلّ مراقبة متزايدة من المجتمع المدني والمانحين الدوليين ومع فورة الإصلاحات المطروحة، تبدو الشفافية والإشراف المباشر على التلزيمات ضرورتَين قصويين لتفادي تكرار الأخطاء التاريخية. لكن التنفيذ لا يزال رهين قدرة المؤسسات على التنسيق، والاستجابة للواقع الميداني، وإشراك السكان المحليين بفاعلية، كما فرض الرقابة والمحاسبة بدل أن تتحول عملية رفع الردم إلى مجرد توزيع أموال وعقود. وفي هذا السياق، يبقى السؤال المركزي: هل ستتمكن الجهات المعنيّة من إدارة ملف رفع الركام وإعادة الإعمار بشفافية وفاعلية وفق الشروط الإصلاحية، أو أنّ فوضى التلزيمات والمتعهدين ستستمر كما جرت العادة؟
*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية "DRI"، ضمن مشروع "أصوات من الميدان… دعم الصحافة المستقلّة في لبنان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.