تُثقل الرياضات المختلفة، من كرة القدم إلى كرة السلة مروراً بالتنس والفورمولا وان، كواهل اللاعبين والمدرّبين، وتفرض عليهم ضغوطاً تدفعهم نحو الاعتزال. أبرز هذه الضغوط رفع عدد المباريات واستحداث بطولات جديدة حتى لا يجد الرياضيون وقتاً يمضونه مع عائلاتهم وذويهم. ويعزو كثر ما يجري إلى ارتهان كرة القدم لشركات الإعلان والرعاية والمؤسسات العملاقة التي تجني أرباحاً طائلةً من البطولات والمباريات. فإلى أين تمضي هذه الرياضات بمحترفيها؟
أسوأ فكرة
مطلع العام 2024، صدَم المدرب يورغن كلوب، الرأي العام الكروي وجماهير فريق "ليفربول"، حين كشف عن نيته اعتزال تدريب كرة القدم نهاية ذلك الموسم.
أكّد كلوب، في بيان اعتزاله، على محبّته الكبيرة لفريق "ليفربول" وطاقم العمل، معرباً عن امتنانه للسنوات التي قضاها في الأنفيلد، وشدد على أنه اتخذ القرار عن قناعة تامة، وقال: "فقدت طاقتي، أعلم أنني لا أستطيع القيام بهذا الأمر مراراً وتكراراً".
لدى إعلانه اعتزاله، كان يورغن كلوب في سن الـ56، أي أنه كان لا يزال في أوج مسيرته التدريبية، لكنه اعترف بأنّ الضغوط التي تفرضها كرة القدم الحديثة على اللاعبين والمدرّبين هي ما دفعه إلى الاعتزال.
يُعدّ يورغن كلوب، أحد أبرز منتقدي الأنظمة الجديدة في كرة القدم، ورفْع عدد المباريات واستحداث بطولات جديدة بشكل يرهق اللاعبين والمدربين وطواقم العمل.
وفي هذا الصدد، كان كلوب قد انتقد بشدّة فكرة كأس العالم للأندية التي استضافتها الولايات المتحدة الصيف الماضي، ورأى أنها أسوأ فكرة على الإطلاق تم تطبيقها، وقال في مقابلة مع صحيفة ألمانية: "في العام الماضي، كان لدينا كوبا أمريكا وبطولة اليورو، العام القادم هو عام كأس العالم، وهذا يعني أن اللاعبين الموجودين هناك لن يستطيعوا التعافي جسدياً وذهنياً".
اللافت أنّ يورغن كلوب هو واحد من مجموعة كبيرة تضمّ لاعبين ومدرّبين ومؤثرين في عالم الرياضة، ينتقدون الحال التي وصلت إليها الرياضة اليوم، وارتهانها لشركات الإعلان والرعاية والمؤسسات العملاقة التي تجني أرباحاً طائلةً من البطولات والمباريات.
المباريات والمسابقات الرياضية تعني بيع تذاكر في الملعب، وبثاً تلفزيونياً وعبر الإنترنت يحصد ملايين المشاهدات، وإعلانات على قمصان الرياضيين ولافتات إعلانيةً تملأ الملاعب... لكن كيف ينعكس هذا على اللاعبين والمدرّبين؟
بدوره، كان صاحب الكرة الذهبية في العام 2024، وأفضل لاعب في بطولة يورو 2024، الإسباني رودري، من أبرز منتقدي ازدحام جدول المباريات، إذ قال في مؤتمر على هامش انطلاق دوري أبطال أوروبا للعام 2024-2025: "أعتقد أن اللاعبين قريبون من حالات إضراب رفضاً لجدول المباريات المزدحم، هذا ليس رأيي فقط بل رأي عدد كبير من اللاعبين. إذا استمر الأمر على هذا النحو سنصل إلى نقطة لا يكون لنا خيار فيها، إنه أمر يقلقنا لأننا نعاني منه".
وضمن السياق نفسه، انتقد النجم الفرنسي كيليان مبابي، زيادة عدد البطولات، إذ قال قبل أسابيع إنه لا يعلم ما إذا كان اللاعبون اليوم جاهزين لخوض 60 مباراةً في الموسم، كاشفاً أنه تعرّض في الموسم الماضي لالتهاب في المعدة والأمعاء، ولم يجد الوقت الكافي للراحة.
وانتقد مبابي عودة الفرق بشكل مبكر إلى التدريبات قبل بداية الموسم، ورفض في الوقت نفسه المزاعم التي تشير إلى أنّ اللاعبين يجنون الكثير من الأموال وتالياً عليهم الرضوخ للأمر الواقع.
"البوكسنغ داي" على حساب اللاعبين وأسرهم
في الواقع، المباريات والمسابقات الرياضية تعني بيع تذاكر في الملعب، وبثاً تلفزيونياً وعبر الإنترنت يحصد ملايين المشاهدات، وإعلانات على قمصان الرياضيين وعقود رياضة لملابسهم وأحذيتهم ولافتات إعلانيةً تملأ الملاعب.
في الدوري الإنكليزي، جرت العادة بتكثيف جدول المباريات في أسبوع عيد الميلاد ورأس السنة، في سياق ما يُعرف باسم الـ"البوكسينغ داي"، حيث يضطر اللاعبون والمدربون والطواقم الفنية إلى البقاء في فترة العيد بعيدين عن عائلاتهم وخوض ثلاث مباريات في أسبوع واحد.
يقول القيّمون على هذا التقليد، إنّ الهدف منه ترفيهي لكونه يتيح للناس مشاهدة أكبر عدد من المباريات من الملعب أو عبر البثّ في فترة عطلتهم للاستمتاع أكثر بها، الأمر الذي ينتقده بشدّة اليوم اللاعبون والمدربون ويرون أنّ الأمر يتم على حسابهم وحساب عائلاتهم.
تخوض فرق النخبة في أوروبا ما يتراوح معدّله الوسطي بين 55 و60 مباراةً في الموسم، موزّعة على البطولات المحلية والقارية والمباريات الودية، وهناك أيضاً مباريات المنتخب التي قد تتراوح بين 10 و20 مباراةً، ويمكن أن يرتفع العدد في حالات معيّنة.
في موسم 2022-2023، شارك برونو فرنانديز، في 76 مباراةً مع "مانشستر يونايتد" والبرتغال، بمعدل مباراة كل خمسة أيام تقريباً، تضاف إليها مئات الحصص التدريبية. في المقابل، فإن لاعب كرة القدم، في تسعينيات القرن الماضي، كان يلعب 40 أو 45 مباراةً في الموسم كحدّ أقصى.
لم تعد الرياضة تشبه ما عشقها الناس لأجله على امتداد العقود الماضية. تحويلها إلى أداة استهلاك أفقدها الكثير من متعتها، وباتت خاضعةً لمزاج الشركات العملاقة التي تتعامل معها كصناعة تضخّ الأموال بلا انقطاع.
في السنوات الأخيرة، اعتمدت الأندية الأوروبية فكرة إقامة معسكراتها التحضيرية لبداية الموسم في بلدان بعيدة كالولايات المتحدة وشرق آسيا وخوض مباريات وبطولات ودية فيها، ما يدرّ عليها مبالغ كبيرةً، برغم انتقاد اللاعبين والمدربين لهذا النظام. كذلك أصبح مألوفاً أن تقام بطولات مثل كأس السوبر الإيطالي أو الإسباني في منطقة الخليج العربي، وهذا كله يرهق اللاعبين ويرفع من فرص تعرّضهم للإصابات.
غوارديولا: "لا يفكرون في اللاعبين ومصلحتهم"
في أثناء جولة فريق "مانشستر سيتي" التحضيرية لموسم 2024-2025، انتقد مدرب الفريق الإسباني بيب غوارديولا، ازدحام جدول المباريات واضطرار فريقه إلى خوض خمسين مباراةً في الموسم.
وأشار غوارديولا، في مؤتمر صحافي على هامش إحدى المباريات، إلى أنّ الفيفا واليويفا والاتحاد الإنكليزي للكرة لا تفكر في اللاعبين ومصلحتهم، ولذلك يتوجب عليهم كمدربين أن يقوموا بالأمر بأنفسهم.
واصل بيب انتقاده قائلاً: "على الفِرق أن تسافر حول العالم لترسيخ العلامة التجارية، بطولة الأمم الأوروبية تستحق أن تُلعب، والمنتخبات الوطنية كذلك، الفيفا واليويفا والعديد من الاتحادات الأخرى تريد الدفاع عن هذا المنتج (كرة القدم) وإقامة المباريات".
صرخة ليبرون جيمس
لا يبدو الوضع أفضل في الرياضات الأخرى، ففي دوري كرة السلة الأمريكية NBA مثلاً، صحيح أنّ عدد مباريات الموسم العادي لم يتغير منذ سنوات بعيدة (82 مباراةً منذ موسم 1962)، لكن التحديثات التي دخلت مؤخراً وإضافة بطولة التحضير للموسم المصغّرة قبل ثلاث سنوات، رفعت عدد المباريات، وتالياً فإنّ الفريق المتوّج باللقب قد يلعب أكثر من 110 مباريات في الموسم.
نجم "لوس أنجلوس ليكرز"، ليبرون جيمس، انتقد أكثر من مرة جدول المباريات المزدحم الجديد.
وبعد تعرّض كاوهي ليونارد، نجم "لوس أنجلوس كليبرز"، لإصابة قوية، أعاد جيمس التأكيد على مواقفه، وكتب على موقع إكس: "لم يرغبوا في الاستماع إليّ بشأن بداية الموسم. كنت أعرف تماماً ما سيحدث. أردت فقط حماية سلامة اللاعبين. هذه الإصابة هي ليست جزءاً من اللعبة، إنها نتيجة للعبتنا اليوم (يقصد زيادة عدد المباريات)، إنها نقص في روح الرياضة الحقيقية".
البطولات تضغط لاعبي التنس
المشكلة نفسها تظهر في الرياضات الفردية، ففي كرة المضرب، يشتكي اللاعبون دائماً من النظام الجديد واضطرارهم إلى خوض عدد كبير من البطولات خاصةً مع ارتفاع مستوى المنافسة.
صحيح أنّ اللاعب غير مجبر على المشاركة، كما هي حال الألعاب الجماعية، لكن عليه أن يشارك في البطولات الكبرى ليحسّن ترتيبه العالمي أو يحافظ على رصيده النقطي. هذا الرأي عبّر عنه أكثر من مرة رافائيل نادال، وهو أحد أساطير اللعبة.
اعتزل يورغن كلوب في سن الـ56، أي في أوج مسيرته التدريبية، لكنه اعترف بأنّ الضغوط التي تفرضها كرة القدم الحديثة على اللاعبين والمدرّبين هي ما دفعه إلى الاعتزال... كيف؟
بدورها، أعلنت نجمة التنس التونسية، أنس جابر، عن قرارها أخذ إجازة طويلة من اللعبة بسبب كثرة المباريات والبطولات، عادّةً أنّ الجدول يرهق الجميع ومن غير المقبول أن تقام بطولتان متتاليتان في فئة الـ1،000 نقطة في وقت قصير.
وأشارت أنس، إلى أنها ستتوقف عن اللعب لأنها لن تسمح للجدول بأن يملي عليها ما يجب فعله، وما لا يجب فعله.
عدد قياسي لسباقات الفورمولا وان
حتى العام 2000، كان عدد سباقات "الفورمولا وان"، لا يتخطى الـ20 سباقاً في الموسم. لم يكن العدد ثابتاً، بل يتراوح غالباً بين 17 و19، ومع الوقت اعتمد اتحاد اللعبة سياسة رفع عدد السباقات تدريجياً بهدف إعطاء الفرصة لأكبر عدد ممكن من الجماهير لمشاهدة السباقات على الحلبات المختلفة، وإطالة مدة الموسم بما يعطي المشاهدين المزيد من المتعة.
وقد شهد موسم 2024، رقماً تاريخياً بلغ 24 سباقاً، الأمر الذي اعترض عليه عدد كبير من المتسابقين، أبرزهم بطل العالم ثلاث مرات مارك فيرستابين، الذي قال معلّقاً على رفع عدد السباقات إنّ "الأمر تجاوز الحدود ولم يعد محمولاً"، مشيراً إلى أنه يعشق السباقات ويمارس سباقات خارج إطار الفورمولا وان، لكن النظام الجديد متعب ويدفع بعض المتسابقين إلى تقصير مدة مسيرتهم الرياضية والاعتزال مبكراً.
بدوره، شارك بطل العالم السابق، لويس هاميلتون، رأي فيرستابين، إذ عدّ أن الأمور وصلت إلى الحد الأقصى وربما تجاوزته، داعياً إلى التفكير في تأثير زيادة عدد السباقات على شعبية اللعبة في كل مكان في العالم، وهو رأي قريب من رأي البطل الإسباني كارلوس ساينز، الذي يرى أنّ إقامة سباق كل نهاية أسبوع يفقد اللعبة بريقها ويضع المتسابقين تحت ضغوط كبيرة.
باختصار، لم تعد الرياضة تشبه في جوهرها ما عشقها الناس لأجله على امتداد العقود الماضية، إذ إنّ التعديلات التي أُدخلت إليها وتحويلها إلى أداة استهلاك أفقداها الكثير من متعتها، وباتت خاضعةً لمزاج الشركات العملاقة التي تتعامل معها كصناعة تضخّ الأموال بلا انقطاع.
وسط هذا كله، تتزايد أصوات الاحتجاج مؤخراً وقد نشهد إضرابات ورفضاً للعب، كما أشار لاعب "مانشستر سيتي"، رودري، وربما يكون شعار كلوب: "لقد فقدت طاقتي"، الصرخة التي تمثل كل العاملين في عالم الرياضة اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



