هل يمكن لثقافةٍ أُنهِكت بالرموز أن تُعيد بناء ذاتها؟... عن تأجيل الوعي الفلسطيني

هل يمكن لثقافةٍ أُنهِكت بالرموز أن تُعيد بناء ذاتها؟... عن تأجيل الوعي الفلسطيني

رأي نحن والتنوّع

الاثنين 10 نوفمبر 20258 دقائق للقراءة

الثقافة هي الذاكرة الطويلة للأمم، والمستودع الذي تحفظ فيه الشعوب خبراتها ورؤاها ومعانيها. وهي التي تُنظّم العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الماضي والمستقبل، وبين الفكرة والفعل. فإذا تحوّلت الثقافة إلى طقوسٍ جامدة، توقّف الزمن داخلها، وصار الإبداع استثناءً بدل أن يكون قانوناً. 

والثقافة ليست ما نرثه فقط، إنها ما نُضيفه إلى الميراث كي يستمرّ. وكلّ أمّةٍ لا تُجدّد ثقافتها تُصبح أسيرة ماضيها حتى وهي تظنّ أنّها تُدافع عنه. لذلك فإنّ إعادة بناء الثقافة الفلسطينية هي إعادة بناء الوعي الجمعيّ كي يعيش الزمن وليس كي يُردّده.

تكرار البطولة

في التجربة الفلسطينية، صارت الثقافة ساحةً للرموز أكثر من كونها ساحةً للفكر. الشِعر يُكرّر البطولة ذاتها، والرواية تُعيد المأساة ذاتها، والموسيقى تعزف الوجع ذاته. لكنّ الوجع حين يتحوّل إلى لحنٍ متوارثٍ دون فكرٍ جديدٍ يصبح نشيداً بلا وعي. فالثقافة التي تكتفي بالنوستالجيا تفقد قدرتها على الفعل. لا بدّ من نقلها من مجال التعبير عن الألم إلى مجال إنتاج المعنى، لأنّ التعبير فعلُ ذاكرةٍ، والإبداع فعلُ وعي.

إعادة بناء الثقافة تبدأ من تحرير المثقف من وظيفته الأيديولوجية. فالمثقف الذي يخدم السلطة أو الجماعة يُفقد الكلمة حريتها، لأنّ الحرية لا تُدار بالتكليف بل بالوعي. المثقف ليس صوت الدعاية، بل ضمير المجتمع. ودوره ليس التهليل للانتصارات الصغيرة، بل كشف التناقضات التي تمنع النهوض

فالثقافة الحيّة هي التي تُجيد إعادة تسمية الأشياء. فالكلمة حين تتغيّر، يتغيّر الوعي بها. لذلك يجب أن تُستعاد المفردات الكبرى مثل الوطن، الحرية، المقاومة، الشهادة، الانتماء، في ضوء واقعٍ جديدٍ يعيش فيه الفلسطينيّ بين الرقمنة والعولمة والاقتصاد المعرفيّ. فالمعنى الذي لا يتجدّد يتحجّر، والشعار الذي لا يُختبَر في الحياة اليومية يتحوّل إلى حجرٍ آخر في جدار الذاكرة. إنّ الثقافة الفلسطينية التي تنهض من الرماد لا تُعيد بناء الرموز، بل تُعيد بناء الوظيفة الفكرية لهذه الرموز، لتُصبح أدوات فهمٍ وليست أدوات تكرارٍ.

إعادة بناء الثقافة تبدأ من تحرير المثقف من وظيفته الأيديولوجية. فالمثقف الذي يخدم السلطة أو الجماعة يُفقد الكلمة حريتها، لأنّ الحرية لا تُدار بالتكليف بل بالوعي. المثقف ليس صوت الدعاية، بل ضمير المجتمع. ودوره ليس التهليل للانتصارات الصغيرة، بل كشف التناقضات التي تمنع النهوض. حين يتصالح المثقف مع دوره النقديّ، تستعيد الثقافة صدقها. فالكلمة التي تُقال خارج الخوف تُنقذ المجتمع من الأكاذيب التي تُخدّره.

غير أنّ الثقافة لا تُبنى بالنقد وحده، بل بفتح الأفق أمام الإبداع. والمجتمع الذي لا يُوفّر بيئةً للفنّ يخسر القدرة على الحلم. فالإبداع هو المرآة التي يرى فيها الناس أنفسهم بعيونٍ جديدةٍ، وهو المساحة التي يتدرّب فيها الخيال على التغيير قبل أن يُطبّق في الواقع. لذلك يجب أن تُقام مؤسساتٌ ثقافيةٌ مستقلةٌ تُشرف على الفنون والآداب والمسرح والسينما والموسيقى، تُموّلها الدولة لكنها لا تتحكّم فيها. فالثقافة التي تُموَّل بالثقة تُثمر، والتي تُراقَب بالريبة تذبل.

تخليص الثقافة من "نخبويتها"

وهنا، ليست الثقافة عمل النخبة فقط، بقدر ما هي وظيفة مجتمعية تُمارَس في كلّ بيتٍ وشارعٍ ومدرسةٍ. فالأسرة التي تُربّي أبناءها على القراءة تزرع فيهم الوعي أكثر مما تفعل القوانين. والمعلّم الذي يفتح نقاشًا حول رواية يُنشئ مواطناً يُفكّر لا تابعاً يُكرّر. لذلك يجب أن تُدمج الثقافة في النظام التعليميّ بوصفها ممارسةً يوميةً لا مادةً ثانويةً. القراءة، والسينما، والموسيقى، يجب أن تكون جزءاً من الجدول المدرسيّ، لأنها أدوات تشكيل الوجدان الجماعيّ، والوجدان الذي لا يُربّى لا يُنتج حضارة.

في سياق الثورة الصناعية الرابعة، يجب أن تتحوّل الثقافة إلى فضاءٍ رقميٍّ حرٍّ. فالإبداع لم يَعُد ورقةً وقلماً فقط، بل محتوى مرئيّاً ومسموعاً وتفاعلياً يُنتجه الفرد ويُشارك فيه الملايين.

وفي المجتمع الفلسطينيّ الذي أنهكته السياسة والانقسام، يجب أن تُستعاد الثقافة بوصفها المجال الوحيد الذي يمكن أن يوحّد دون قهر. فهي قادرة على بناء وحدة رمزية حين تعجز السياسة عن بناء الوحدة المؤسّسية. والقصيدة التي تُخاطب الإنسان تُوحّد أكثر من الخطاب الذي يُخاطب الحزب. والمسرحية التي تُعرّي الخوف تُحرّر أكثر من البيان الذي يُدين. لذلك يجب أن تُدعم المهرجانات الثقافية بوصفها مساحات للقاء والتفكير المشترك، وليست منصّاتٍ للخطابة الفارغة.

في البنية المؤسسية، تحتاج الثقافة إلى وزارةٍ أو مجلسٍ أعلى يُديرها بعقلية المنظومة وليس بعقلية الفرد. فالفعل الثقافيّ يُبنى بالتخطيط طويل المدى وليس بالعواطف. يجب أن تُرسم استراتيجيةٌ وطنيةٌ للثقافة، تُحدّد أهدافها ومؤشراتها، من دعم النشر والترجمة، إلى إنتاج السينما الوثائقية، إلى إنشاء المكتبات الرقمية المفتوحة. الثقافة اقتصادٌ ناعمٌ يُنتج فرصًا للعمل والمعرفة والهوية في آنٍ واحدٍ، وليست مشروعًا ترفيهيًا.

أما في البنية الاقتصادية، فالثقافة الحديثة تُدار كصناعةٍ بقدر ما تُدار كقيمةٍ. لذلك يجب أن يُعاد النظر في اقتصاد الثقافة بوصفه أحد محركات التنمية الوطنية. كلّ كتابٍ يُترجم، وكلّ فيلمٍ يُنتج، وكلّ معرضٍ يُقام، هو استثمارٌ في القوة الناعمة. والمجتمع الذي يُنتج محتواه يُحافظ على سيادته الرمزية، لأنّ الاستعمار الثقافيّ يبدأ حين يُصبح المستهلك أكثر من المبدع. لذلك يجب دعم الصناعات الإبداعية بالشراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ، لأنّ الإبداع حين يتحوّل إلى سوقٍ منضبطةٍ يُصبح مستدامًا.

زمن الإبداع الرقمي

أما في البعد القيميّ، تحتاج الثقافة الجديدة إلى أن تُعيد ترتيب العلاقة بين المقدّس والجماليّ. فالمجتمع الذي يخلط بين التقوى والتحريم يخاف من الفنّ، بينما الفنّ الصادق هو أداةُ معرفة وليس أداة فساد. الجمال حين يُفهم في عمقه يصبح طريقاً إلى الحقيقة. لذلك يجب أن تُفتح المساحة أمام التجريب الفنيّ والفكر النقديّ، لأنّ الإيمان الذي لا يُفكّر في ذاته يتحوّل إلى عادة، والعادة تُميت الروح. الثقافة التي تتصالح مع التساؤل تُصبح أكثر إيماناً بإنسانيتها.

وفي غزّة التي تحوّلت إلى رمادٍ متكرّرٍ، الثقافة ليست ترفاً، الثقافة هنا وسيلةٌ للبقاء النفسيّ والروحيّ. القصيدة هنا ليست زينةً لغويةً، بل علاجٌ جماعيٌّ من الخوف. والرسم ليس هوايةً، بل لغةُ مقاومة ناعمة تُعيد للإنسان قدرته على تذوّق الحياة وسط الموت. لذلك يجب أن تُفتح المسارح والمعارض والمكتبات رغم الحصار، لأنها جدرانٌ جديدةٌ للحياة، تُبنى بالحبر بدل الإسمنت.

الثقافة الجديدة يجب أن تُعيد الاعتبار إلى الخيال بوصفه أداة تفكيرٍ لا هروبٍ. فالأمم التي تفقد خيالها تفقد قدرتها على الابتكار. والخيال ليس ترفاً، بل مختبرُ المستقبل، فيه تُصاغ الأفكار قبل أن تُصبح سياسات

وفي سياق الثورة الصناعية الرابعة، يجب أن تتحوّل الثقافة إلى فضاءٍ رقميٍّ حرٍّ. فالإبداع لم يَعُد ورقةً وقلماً فقط، بل محتوى مرئيّاً ومسموعاً وتفاعلياً يُنتجه الفرد ويُشارك فيه الملايين. لذلك يجب أن تُنشأ منصّاتٌ رقميةٌ ثقافيةٌ فلسطينيةٌ تُقدّم المحتوى الإبداعيّ بلغاتٍ متعددةٍ، وتربط المبدعين حول العالم بشبكةٍ من التعاون الثقافيّ والمعرفيّ. الثقافة التي تدخل الفضاء الرقميّ بوعيٍ تحافظ على أصالتها، والتي تدخله مصادفة تضيع في زحام الآخرين.

الثقافة الجديدة يجب أن تُعيد الاعتبار إلى الخيال بوصفه أداة تفكيرٍ لا هروبٍ. فالأمم التي تفقد خيالها تفقد قدرتها على الابتكار. والخيال ليس ترفاً، بل مختبرُ المستقبل، فيه تُصاغ الأفكار قبل أن تُصبح سياسات. لذلك يجب أن تُشجَّع الكتابة الإبداعية، والفنّ المفاهيميّ، وأدب الخيال العلميّ، لأنها تمهّد الطريق أمام العلوم والتقنية. فكلّ اختراعٍ كان يوماً ما حلماً أدبياً.

وفي النهاية، الثقافة التي تُبنى على الإبداع تُنتج إنساناً يعرف أن الحياة ليست انتظاراً، بل عملٌ دائمٌ على تحسين شكلها ومعناها. حين تُصبح الثقافة طاقةَ تفكيرٍ وليست طقساً للتكرار، تتحوّل الأمة من ماضٍ يُستعاد إلى مستقبلٍ يُصنع. وغزّة التي تُعيد بناء ثقافتها من الرماد تُعلن أنّ الحصار لا يُغلق الأفق، لأنّ الإنسان الذي يفكّر بالجمال يظلّ أقوى من الخراب، والمدينة التي تُبدع تبقى حيةً حتى في العدم، لأنها تحمل في عقلها ما يُبقيها في الوجود — الثقافة التي تُفكّر وتُبدع وتُضيء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image