كيف تكون ضحيةً فلسطينيةً مثاليةً؟

كيف تكون ضحيةً فلسطينيةً مثاليةً؟

رأي نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 26 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

عزيزي الفلسطيني: بينما يُقصف بيتك، ويُشرّد أهلك، ويُحاصَر خبزك وماؤك، لا تنسَ أنّ للعالم شروطه الخاصة كي يعترف بك كضحية، فالضحايا ليسوا جميعاً متساوين أمام المجتمع الدولي للتعاطف معهم؛ هناك ضحايا مميّزون، لا يُشاهد لهم مثيل في التاريخ، وضحايا يُعاملون كأيقونات، ويمثّلون البريء الذي يفضّلون أن يحكوا قصّته. 

ولأنّك فلسطيني، وباعتراف الجميع ضحية استثنائية، فقد أعددنا لك هذا الدليل المفصّل لتنال شهادة "الضحية المثالية" المعتمدة عالمياً.

1- نفّذ الأوامر دون اعتراض

حين يطرق الجنود بابك في ساعات الفجر الأولى، ويأمرونك بالمغادرة، ويلقون عليك أوامر الإخلاء بلا رحمة، لا تُظهر أيّ مقاومة. لا تحاول النقاش أو الشرح، ولا تعبّر عن غضبك أو استنكارك للحدث. ابتسم ابتسامة الخائف المهزوم، وامشِ بهدوء كما لو كنت تمثّل مشهداً سينمائياً للضحية المثالية، فحسب.

تذكّر: مجرد التفكير في البقاء في بيتك سيحوّلك من "مدني" إلى "عسكري" أو إلى "درع بشري"، وتصبح مسؤوليتك عن أيّ أضرار جانبية وفقاً للقانون الدولي أقلّ مما لو امتثلت للمغادرة، حتى لو تحوّلت غزّة كلها بمساحتها التي لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربعاً، إلى مناطق عسكرية يجب إخلاؤها. 

عليك الطاعة، فالطاعة هنا ليست خياراً، بل هي شرط أساسي للاعتراف العالمي بوجودك كضحية.

عزيزي الفلسطيني: بينما يُقصف بيتك، ويُشرّد أهلك، ويُحاصَر خبزك وماؤك، لا تنسَ أنّ للعالم شروطه الخاصة كي يعترف بك كضحية، فالضحايا ليسوا جميعاً متساوين أمام المجتمع الدولي للتعاطف معهم؛ هناك ضحايا مميّزون، لا يُشاهد لهم مثيل في التاريخ

مثال: عائلة في مخيم الشاطئ تُجبَر على مغادرة منزلها تحت نيران القصف، الطفل يجرَّد من لعبته، الأمّ تحاول حمل دلو ماء، والجيران يصرخون في الخارج. أيّ حركة خطأ، أو نظرة مليئة بالغضب أو الرعب، تُسجَّلان فوراً كتهديد محتمل، وتختفي كل براءتهما.

2- تخلَّ عن كل ما يوحي بالمقاومة

أيّ مقاومة، مهما كانت بسيطةً، تُلغِي براءتك في نظر العالم. لا تحمل حجراً، ولا عصا، أو حتى مطفأة حريق قابلة للاشتعال. أي شيء في يدك يُفسَّر على أنه تهديد، حتى رفع يديك للدفاع عن نفسك تُقرأ كسلاح محتمل.

عليك أن تكتفي بجسدك العاري الممدد على الإسفلت، بلا أي حركة تُظهر القوة أو القدرة على الردّ، فهذا هو الطريق المختصر نحو التعاطف المؤقت والمراقب من شاشات الإعلام الدولي. تذكّر أنّ العالم يحبّ الجسد الأعزل، البريء تماماً، ويحب الذين لا يملكون إلا أن ينتظروا عين الرحمة. 

في مسيرات العودة عام 2018، كان شابّ في غزة يحمل علم فلسطين فقط، لم يكن معه سلاح، ولا حتى حجر. ومع ذلك، تم وصفه في الإعلام الغربي بأنه "محرّض"، فقط لأنّ رفع العلم يمكن أن يُقرأ كعمل "سياسي عدواني". العلم، وهو رمز الهوية، ألغى عنه صفة المدني الأعزل.

3- اجعل ملامحك حزينةً بما يكفي

الضحية المثالية تظهر على شكل شخص محطّم، كأنه فقد كل شيء، حتى القدرة على البكاء بحرية. استيقظ يومياً وتدرّب أمام المرآة على ملامح "المقهور المطيع"، وهي: رأس مطأطأ، ظهر منحنٍ، وعينان زائغتان قليلاً، وكأنّك تقول للعالم: "أنا لا أستحق سوى الرحمة". 

حين تخرج أمام الكاميرا، لا تصرخ في وجه المجتمع الدولي، ولا تلعن الاحتلال، واستخدم عبارات مألوفةً: "أنقذونا، نحن نبحث عن الأمان"، "أطفالنا أبرياء".

انتبه: أي تحديق مباشر في العينين يمكن أن يُفسَّر على أنه مقاومة أو تحدٍّ، وهو ما يزعج المتلقي الغربي الذي اعتاد على سردية الضحية المسالمة. 

هنا، التعبير العاطفي المدروس أهم من الواقع نفسه.

مثال: امرأة مسنّة في القدس حاولت أن تدفع جندياً كان يمنعها من دخول بيتها، ولم ترفع سكيناً ولا عصا، بل مجرد حركة بيدها لتزيحه عن الباب، في رواية الإعلام الإسرائيلي والغربي، هذه الحركة تحولت إلى "محاولة اعتداء". لو أنها اكتفت بالبكاء والانهيار أمام الكاميرا، لكانت صورتها قد عُرضت كضحية "مثالية".

4- تحدّث بلغة العالم لا بلغتك الخاصة

حين تخرج أمام الكاميرا، لا تصرخ في وجه المجتمع الدولي، ولا تلعن الاحتلال أو الاستعمار، استخدم عبارات مألوفةً: "أنقذونا، نحن نبحث عن الأمان"، "أطفالنا أبرياء". كلمات مثل "الاستعمار"، "الفصل العنصري"، أو "المقاومة"، محرّمة، لأنها تُثير توتر المستمع الغربي، وتبعدك عن خانة الضحية المثالية. 

لغة العالم تختلف عن لغتك؛ يجب أن تكون لغةً رثائيةً مألوفةً، لغة الصرخة التي لا تهدّد أحداً.

مثال: بثّ مباشر على إحدى القنوات خلال النشرة الإخبارية، وصرخة لأحد أهالي الشهداء يقول فيها إنه سيستمر في المقاومة هو وأبناؤه، وسيرث إرثها حتى النصر. تمّ حذف المقطع عندما أعيد بثّ النشرة، حيث إنّ أي حديث عن المقاومة يُستبعد على الفور من التقرير.

6- تذكّر أنّ العالم يحبّ القصص البسيطة

العالم يعشق سرديات الضحايا التي يمكن تفسيرها بسرعة، دون تعقيد أو تاريخ طويل. لا تحاول شرح جذور الاحتلال أو سياسات التمييز، فذلك يُربك المتلقي. كل ما يحتاجه صورة متقنة للدمار، وقصة قصيرة عن فقدان.

هنا، الواقع المعقّد يُختصر في مشهد واحد قابل للتمثيل في وسائل الإعلام الغربية، وتصبح الضحية جزءاً من لوحة فنية يمكن تعليقها في صالونات السياسة الدولية.

العالم ينتظر منّا الاصطفاف وراء المساعدات، ونحن ننتظر عدالة محمود درويش عندما قال في خطبة الهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض: "كل شيء يحاصركم، أيها البيض، موتى يموتون، موتى يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسرّ، فلتمهلوا الأرض حتى تقول الحقيقة، كل الحقيقة، عنكم وعنّا.... وعنّا وعنكم!

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، خلال الهدنة المؤقتة، ظهر بعض الفلسطينيين الذين عبّروا عن غضبهم من أنّ المساعدات لا تكفي، وأنهم لا يريدون فقط الطعام بل إنهاء الحرب. هذه الأصوات لم تُعرَض كثيراً، بينما انتشرت صور أخرى لأشخاص يتلقّون الطحين والماء بابتسامة أو دموع، العالم يريد أن يرى الفلسطيني ممتنّاً للفتات، لا غاضباً من أصل الجريمة.

7- لا تنسَ التفاصيل الصغيرة

حتى المشاهد الصغيرة مهمة: الحذاء المفقود، الدمية المحترقة، وطبق الطعام المقلوب على الأرض… إلخ، هذه التفاصيل الصغيرة تُعزز صورتك كضحية نموذجية، العالم يحب أن يرى كل شيء مرتباً في صورة المأساة. حتى رائحة الدخان أو الغبار، لو صُوّرت بطريقة معينة، تُضيف نقاطاً على مقياس التعاطف الدولي.

في برلين ولندن ونيويورك، خرجت مظاهرات ضخمة للتضامن مع غزة. في هذه المظاهرات، كان المتظاهرون يرفعون شعارات مثل: "From the river to the sea, Palestine will be free" (من النهر إلى البحر فلسطين حرّة). فوراً، واجهوا حملات إعلاميةً وسياسيةً ضخمةً تتهمهم بـ"معاداة السامية". بعض الجامعات في أمريكا منعت الطلاب من استخدام هذا الشعار، وتم فصل أو تهديد أساتذة رفعوه على وسائل التواصل.

على الرغم من أنّ العالم ينتظر منّا الاصطفاف وراء المساعدات، نحن ننتظر عدالة محمود درويش عندما قال في خطبة الهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض: "كل شيء يحاصركم، أيها البيض، موتى يموتون، موتى يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسرّ، فلتمهلوا الأرض حتى تقول الحقيقة، كل الحقيقة، عنكم وعنّا.... وعنّا وعنكم!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image