زمن العنف الطويل… تأمُّل في التجربة الغزّية كصورة للحداثة

زمن العنف الطويل… تأمُّل في التجربة الغزّية كصورة للحداثة

رأي نحن والحقوق الأساسية

السبت 11 أكتوبر 20258 دقائق للقراءة

غزة مساحة محصورة على خريطة المتوسط، تحمل في تضاريسها ما يتجاوز الجغرافيا نحو معنى أشمل للعصر الحديث. في صورتها، تتكثّف مفارقة عالمٍ يُنتج العنف كما ينتج التكنولوجيا ويحوّل الدمار إلى طقسٍ مألوف داخل نظامه الأخلاقي والسياسي.

المدينة هنا ليست موقعاً محدداً بقدر ما هي استعارة لكيفية اشتغال الحضارة حين يتماهى التقدّم مع القدرة على الإبادة، وحين يصبح القتل ممارسةً مبرّرةً تُدرَج في روتين الإدارات ومصطلحات المؤسسات.

الركام المتراكم في أفقها ليس أثراً عابراً بل جزء من المشهد العالمي الدائم الذي يطبّع العنف ويحوّله إلى حالة من الاستقرار الرمزي. الزمن في هذه الرقعة لا يتحرك إلى الأمام، بل يدور داخل نفسه، وفي كل دورة يعيد إنتاج الفاجعة بوجه جديد وكلمات أكثر حياداً.

الصمود في غزّة يتجاوز فكرة المقاومة ليصبح عمليةً دؤوبةً لإعادة بناء الذات داخل شروط الهدم المستمرة، ومن هذا التفاعل بين الفناء والإحياء تنبثق رمزية التجربة؛ خراب يتجدّد وصمود يولَد معه، وفي تداخلهما يتشكّل المعنى الأكثر كثافةً للمأساة الإنسانية

من هذا الدوران المستمر، يظهر العجز الإنساني كقانون غير مكتوب ينظّم العلاقة بين القوة والحياة، وهو عجز يلبس ثوب النظام ويقدّم نفسه كضرورة واقعية داخل بنية العالم الحديث.

تحوُّل المدينة إلى ذاكرة للخراب يعني دخول العنف في نسيجها العميق بحيث يصبح جزءاً من وعيها الجمعي. التاريخ يفقد في هذا السياق قدرته على الإغلاق لأنّ الكارثة لا تُختتم بل تُدار، وتتحوّل من حدث استثنائي إلى نظام متكرِّر للإبادة المنظَّمة.

مدن كثيرة شهدت الدمار في القرنين الأخيرين، من وارسو المهدّمة إلى بيروت المجروحة وسراييفو المحاصرة، غير أنّ تلك المدن وجدت طريقها إلى الذاكرة بعد أن توقّفت آلات الحروب. وحدها غزة تظلّ في حاضرٍ معلّق يعيد إنتاج المأساة في دورات زمنية متتابعة كأنها تدور في حلقة مغلقة تمنع الزمن من الانقضاء.

في هذا الثبات المدمّر، يتكشّف جوهر الحداثة وهي تنقلب على ذاتها؛ قدرة غير مسبوقة على التنظيم والدمار في الوقت نفسه، وعقل يبرّر عنفه باسم النظام والأمن والعقلانية.

المأساة هنا لا تُسجَّل في التاريخ كحادثة، بل تستمر كأحد أشكال الوجود، شكل تُدار فيه الحياة تحت منطق السيطرة والعقاب، وتُعاد صياغة الخراب بوصفه وجهًا آخر للنظام العالمي ذاته.

الخراب في غزة يمتد إلى اللغة التي تحاول وصفه وإلى المعاني التي يُفترض أن تفسّره. كل بيت ينهار يسقط في قلب الخطاب الذي يبرّر الصمت، وكل حيّ يُمحى يكشف هشاشة المفردات التي تُستعمل لتغطية الفاجعة، مثل الردّ والضرورة الأمنية والاستقرار.

مع كل انهيار تتداعى البنية الأخلاقية للنظام الدولي كما تتداعى الأبنية المادية، وتختلط تحت الركام الأجساد بالكلمات؛ الأولى يبتلعها العنف والثانية تفقد حياتها تحت ثقل البلاغة. في هذا المشهد تتعرّى المنظومة التي تدّعي حماية القانون بينما تمارسه كأداة للتمييز، ويتكشّف الخطاب الليبرالي في لحظة اختباره الحقيقي حيث تتحوّل العدالة من مبدأ إنساني إلى حالة مشروطة بالمكان والسياق.

في غزة، يتكثّف وعي الإنسان بعصره. المأساة هناك ليست حدثاً يمرّ، بل نظام تفكيرٍ يعيد إنتاج نفسه كل يوم، كأنّ العالم وجد طريقه إلى الاستقرار في قلب الفاجعة.

ما يحدث في غزة يعيد تعريف العلاقة بين القوة والمعنى، ويضع اللغة نفسها أمام امتحانها الأصعب، حين يصبح الصمت أحياناً أصدق من البيان.

الخراب في غزة يتجاوز حدودها الجغرافية، ويغدو صورةً مشتركةً في خيال أطراف متعدّدة، يحملها كل طرف بمعناه الخاص. في الوعي الإسرائيلي، يظهر كتهديد دائم على تخوم الدولة. جبهة لا تعرف السكون مهما ارتفعت الجدران، وتكاثفت التحصينات. صراع مع فكرة أكثر منه مواجهة مع عدو.

في المخيلة الغربية الليبرالية، يبدو مشهد غزة امتحاناً أخلاقياً يعيد طرح سؤال التوازن بين المبادئ والمصالح، إذ تبرز المدينة كمرآة تكشف ازدواجية الخطاب الإنساني حين يتصادم مع حسابات القوة. 

في الفضاء العربي، تتحوّل غزة إلى مرثية للعجز الجمعي، إذ تتقاطع فيها خيبة الأنظمة مع استسلام الشعوب لصورة المراقب الصامت.

هذه القراءات المتباينة تتجمّع لتكوّن خريطةً رمزيةً واحدةً، تكشف اتساع الشرخ الأخلاقي في العالم الحديث حيث يصبح الخراب لغةً مشتركةً تترجم موقع كل طرف داخل المنظومة لا موقفه منها.

وسط الركام يتشكّل نوع آخر من الحياة، حياة تنبع من قلب الخراب وتستمد معناها من مواجهته. في غزة تُقام المدارس فوق الأرض التي انهارت بالأمس وتستعيد الأسواق إيقاعها في مدن فقدت عمرانها ويواصل الناس عيشهم اليومي بإصرار يشبه إعلاناً صامتاً للوجود.

هذا الفعل المتكرّر لا يحمل بطولات صاخبةً، لكنه يعيد تعريف معنى البقاء في زمن صار فيه "الفناء" جزءاً من العادة.

الصمود هنا يتجاوز فكرة المقاومة ليصبح عمليةً دؤوبةً لإعادة بناء الذات داخل شروط الهدم المستمرة، ومن هذا التفاعل بين الفناء والإحياء تنبثق رمزية التجربة؛ خراب يتجدّد وصمود يولَد معه، وفي تداخلهما يتشكّل المعنى الأكثر كثافةً للمأساة الإنسانية حين تتحوّل الحياة نفسها إلى شكل من أشكال المقاومة الهادئة.

غزة تحوّلت إلى لغة احتجاج كونية تتردّد أصداؤها في شوارع نيويورك ولندن وباريس، وتنعكس ملامحها في الفنون والقصائد كأنها مفردة أساسية في معجم العدالة المعاصرة. ذكرها يستحضر شبكةً كاملةً من القهر الممتد من فلسطين إلى أطراف العالم، فيتجاوز حضورها حدود الجغرافيا نحو حقل رمزي مفتوح على المعاني السياسية والإنسانية.

في هذا الامتداد يلوح خطر خفيّ يتمثّل في أن تتحوّل المدينة إلى أيقونة مريحة يسهل التماهي معها من بعيد من دون ملامسة واقعها المادي القاسي. الرمزية تمنحها اتساعاً عالمياً وتنتزع منها في الوقت نفسه تفاصيلها اليومية التي تمنح المأساة ثقلها الحقيقي، وهي تفاصيل تتجسّد في رائحة الخبز في طوابير الانتظار، وفي لحظات الضوء القصيرة حين تعود الكهرباء، وفي الوجوه التي تتشابه من شدّة الإرهاق.

جوهر التجربة يكمن في الموازنة بين الحضور الرمزي الذي يمنحها صوتاً عالمياً والواقع الحي الذي يحفظ إنسانيتها ويعيدها إلى تفاصيل العيش اليومي حيث تتجسّد الكرامة في أبسط أشكالها.

الذاكرة التي تحملها غزة تمتدّ خارج حدود المكان لتصبح ذاكرة الإنسانية في لحظة اختلالها الأخلاقي. في فضائها تتجسّد مفارقة العصر الحديث حيث تتعاظم القدرة المادية على السيطرة، فيما يتسع العجز عن صون حياة إنسان واحد.

هناك يظهر التناقض في صورته الأكثر صفاءً، إذ تنكشف الحداثة في جوهرها كقوة مزدوجة تبتكر أدوات المعرفة والإبادة في آن. العالم يرسل مركباته إلى الفضاء ويطوّر العقول الاصطناعية ويواصل في الوقت نفسه تشغيل آلة موت تنطق باسمه وتعبّر عن منطِقِه العميق.

ما تكشفه غزة هو لحظة مواجهة بين الإنسان وإنجازه، بين العقل الذي صعد إلى الفضاء والضمير الذي سقط تحت الركام، بين الكفاءة التقنية التي بلغت ذروتها والمعنى الأخلاقي الذي تآكل في صمت الحسابات الباردة.

استعادة اسم غزة اليوم تحيل إلى شعور جمعي يتخطّى الحدود ويتجاوز فكرة الحدث أو الحرب. في الذاكرة العالمية تتقاطع صورتان متناقضتان ومتجاورتان في الوقت نفسه؛ أطفال تحت الأنقاض وأرتال نازحين يسيرون في الطين، وحشود في الجامعات والساحات ترفع صور المدينة بوصفها مرآةً تعكس ملامح العالم المعاصر. في هذا التزامن يتولد وعي جديد لا يقتصر على التعاطف، بل يفتح أفقاً أوسع للتفكير في الأسئلة التي تشكّل جوهر الوجود الإنساني مثل المعنى والقوة والعدالة والحدود التي تصل إليها إنسانيتنا حين تُختبر في أقصى لحظاتها هشاشةً.

غزة اليوم جغرافيّاً منكوبة، تحمل معنى يتجاوز حدود المكان. هي نصّ مفتوح في سجلّ الوعي الإنساني، وذاكرتها ليست استعادةً للخراب بقدر ما هي محاولة لفهم الكيفية التي يتحوّل بها العنف إلى لغةٍ مشتركة لهذا العصر

المقصود ليس البحث عن خلاص رمزي لغزة، فمثل هذا التصوّر يختزل التجربة ويجرّدها من طبقاتها المعقّدة. حضورها المتكرّر في الخيال العالمي يكشف خللاً أعمق يتمثّل في أنّ العالم لا يرى ذاته إلا من خلال صور الخراب التي يصنعها. في هذا الإطار تمثّل غزّة انعكاساً صافياً للنظام الدولي وصورته الأكثر صدقاً حين تتعرّى من التبرير. كل محاولة لإغلاق هذا الجرح تنتهي بإعادة فتحه في موضع آخر، لأنّ جوهر المأساة لا يكمن في المدينة نفسها، وإنما في البنية التي تتيح استمرار تدميرها وتجعل الفاجعة قابلةً للتكرار.

غزة اليوم جغرافيّاً منكوبة تحمل معنى يتجاوز حدود المكان. هي نصّ مفتوح في سجلّ الوعي الإنساني، وذاكرتها ليست استعادةً للخراب بقدر ما هي محاولة لفهم الكيفية التي يتحوّل بها العنف إلى لغةٍ مشتركة لهذا العصر. في تجربتها يتجسّد التأمّل في السياسة والأخلاق حين تنفصلان عن الإنسان، وفيها أيضاً يتبدّى احتمال مزدوج؛ أن تظلّ غزة أيقونةً تذكّر العالم بفضيحته الأخلاقية، أو أن تصبح نقطة انطلاقٍ لتخيّل عدالةٍ جديدة أكثر صدقاً وشمولاً. اسمها سيظلّ حاضراً في الذاكرة الإنسانية، أثراً لا يُمحى، واختباراً دائماً لقدرة البشر على استعادة إنسانيتهم كلّما واجهوا صورتهم المنكسرة في المرآة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image