المولد في البحر
وُلد "بيري رئيس" (Piri Reis) واسمه الحقيقي محيي الدين بيري في مدينة غاليبولو الساحلية الصغيرة. وقد اشتُق اسم المدينة من الكلمة اليونانية "كالّيبوليس" التي تعني "المدينة الجميلة"، وتقع في محافظة جناق قلعة بتركيا، وتُعدّ مركز الملاحة البحرية العثمانية.
لا تتوافر معلومات مؤكدة حول تاريخ ميلاد بيري رئيس، لكن بالنظر إلى الحروب التي شارك فيها منذ صغره برفقة عمه، يرى المؤرخون أن ميلاده كان بين عامي 1465 و1470. والده حاجي محمد أطلق علليه اسم محيي الدين بيري، غير أن لقب "رئيس" -الذي كان يُطلق في العهد العثماني على القادة والربّان البحريين- أُضيف إلى اسمه منذ طفولته، تماماً مثل عمه كمال رئيس، أحد البحّارة البارزين في تلك الفترة، والذي أصبح لاحقاً من كبار أدميرالات الأسطول العثماني.
يقول ابن كمال، شيخ الإسلام والمؤرخ في العهد العثماني، في كتابه "تاريخ الملاحة التركية"، عن الأطفال المولودين في غاليبولو: "أطفال غاليبولو ينشأون في الماء كالتماسيح. مهدهم سفينتهم التي يموتون فيها. إنهم ينامون على صوت تهويدة الماء والقوارب".
نشأ بيري رئيس مثل بقية أطفال بلدته وفق هذه التقاليد، وعاش في سواحل غاليبولو حتى الحادية عشرة من عمره. وعلى خلاف معظم أقرانه، أتيح له تعلّم القراءة والكتابة. وعند بلوغه الحادية عشرة، خطا أولى خطواته نحو أن يصبح بحّاراً، حين التحق بسفينة عمه كمال رئيس.
وُلد بيري رئيس من رحم البحر، فعاش بين أمواجه كما يعيش الطفل في مهد أمه، لا يعرف للأمان معنى إلا في صوته، ولا للوطن حدوداً إلا حيث تمتد المياه
كان يعلم أن الملاحة مهنة صعبة تتطلب قوة بدنية هائلة، وذهنية متيقظة، وصبراً طويلاً، والتزاماً صارماً بقوانين البحر، فضلاً عن إتقان علوم وفنون الملاحة. أمضى أربعة عشر عاماً متواصلة إلى جانب عمه في رحلات بحرية متتابعة، اكتسب خلالها جميع المهارات اللازمة.
أدميرالات قراصنة
في ذلك العصر، كان كثير من أصحاب الخبرة الواسعة في الملاحة يمتهنون القرصنة البحرية، وكان هذا أيضاً حال بيري رئيس وعمه. ففي عام1486، استنجد مسلمو غرناطة في الأندلس بكلٍّ من تونس ومصر والإمبراطورية العثمانية، طالبين المساعدة. فلبّى كمال رئيس النداء برفقة بيري رئيس، وساعدا المسلمين على الانتقال عبر البحر إلى إفريقيا.
ومنذ ذلك العام حتى عام 1493، أصبحا من أقوى قراصنة البحر في غرب البحر المتوسط، واستطاعا القضاء على معظم منافسيهم، والاستيلاء على سفنهم. كانوا يتخذون من سواحل المنطقة موانئ شتوية لسفنهم، وزاروا الجزائر وتونس والبوسنة، وأقاموا فيها بعض الوقت، وأقاموا علاقات ودّية مع سكانها.

دوّن بيري رئيس لاحقاً كل ما جمعه من معلومات عن هذه الرحلات، من تفاصيل جغرافية وتاريخية وطبيعية، في كتابه الشهير "كتاب البحرية" (Kitab-i Bahriye)، الذي يُعد من أهم آثاره.
كان القراصنة المهرة في تلك الفترة من أمهر البحّارة، حتى إن السلطان العثماني بايزيد الثاني، عندما قرر إنشاء أسطول بحري، دعا هؤلاء القراصنة للانضمام إلى الجيش العثماني.
وبعد أن استقر بايزيد في الحكم عقب وفاة أخيه "جم سلطان"، وجّه اهتمامه إلى توسيع رقعة الإمبراطورية، فاحتاج إلى جيشٍ قويّ براً وبحراً. وفي تلك الفترة، أُسر كمال رئيس في إحدى جزر اليونان بتهمة القرصنة، ونُقل إلى القسطنطينية، لكن السلطان فاجأ الجميع حين منحه هو وبيري رئيس أوسمة الشرف العسكرية، وفي عام 1494 التحق بيري رئيس رسمياً بالأسطول العثماني.
شارك في معارك بحرية عديدة بين عامَي 1499 و1502، وخاصة في حروب البندقية، حيث حقق انتصارات باهرة وذاع صيته.
في رثاء الأستاذ
في عام 1511، لقي كمال رئيس حتفه في حادث بحري مأساوي، فأصاب موته بيري رئيس بحزنٍ عميق، إذ فقد أستاذه ومرشده ورفيقه الدائم. عاد إلى مسقط رأسه غاليبولو وابتعد مؤقتاً عن البحر، لكنه لم يستطع فراق مهنته التي عشقها.
في تلك الفترة، أنجز أولى أعماله، وهي "خريطة العالم"، كما أعاد تحرير جزء كبير من "كتاب البحرية" ليصبح دليلاً بحرياً شاملاً.
عندما غزا السلطان ياووز سليم مصرَ بين عامَي 1516 و1517، كانت قيادة الأسطول بيدِ جعفر بك، الذي عيّن بيري رئيس قائداً لأكبر الفرق البحرية. وبعد استيلاء العثمانيين على الإسكندرية، اتجه بيري رئيس عبر نهر النيل إلى القاهرة ورسم خريطة دقيقة للمنطقة، ودوّن ملاحظات تاريخية وجغرافية عنها.
وبعد ضمّ مصر إلى الدولة العثمانية، أتيح له لقاء السلطان ياووز سليم في الإسكندرية عام 1517، حيث أهداه خريطة العالم التي كان قد رسمها سابقاً.
عاد بعدها إلى غاليبولو، وتفرّغ لأعماله العلمية في رسم الخرائط والطبوغرافيا. وبعد وفاة السلطان سليم عام 1520، تولّى ابنه السلطان سليمان القانوني العرش، وكان عهده عصر الفتوحات الكبرى. وفي عام 1524، رافق بيري رئيس الصدر الأعظم إبراهيم باشا في رحلته إلى مصر، إلا أن العاصفة أجبرتهم على اللجوء إلى جزيرة رودس، حيث نشأت بينهما صداقة وثيقة. وهناك عرض بيري رئيس على إبراهيم باشا تفاصيل كتابه "كتاب البحرية"، فأُعجب الصدر الأعظم بالعمل، واقترح عليه نشره في كتاب مستقل.
الرحلة الأخيرة
عاد بيري رئيس إلى غاليبولو وأكمل جمع المعلومات لكتابه، ثم قدّمه إلى السلطان سليمان بواسطة إبراهيم باشا. وبعد إنجاز الكتاب، عاد إلى الخدمة في الأسطول، ونُفّذت على يده حملات بحرية في البحر الأحمر وبحر عُمان والخليج العربي.
خاض حروباً طويلة ضد البرتغاليين، وحتى بعد بلوغه الثمانين، تمكّن من قمع تمرد العرب في مدينة عدن باليمن. وبعدها أُوكلت إليه مهمة جديدة لاحتلال جزيرة هرمز في الخليج، على رأس 15 ألف جندي و30 سفينة، مع أمرٍ صريح بتجنّب الاشتباك قدر الإمكان مع البرتغاليين.

دخل المحيط الهندي بخمسٍ وثلاثين سفينة، وتمكّن رغم قلة عدده من هزيمة الأسطول البرتغالي الذي كانت قد ضعفت قوتُه. فرّ بعض البرتغاليين إلى حصن جزيرة هرمز، فحاصرهم بيري رئيس، لكن الحصن كان محصناً جيداً ومدعوماً من سكان الجزيرة، فاضطر إلى رفع الحصار.
يرى بعض المؤرخين أن سبب رفع الحصار كان تلقيه رشوةً من البرتغاليين، غير أن بيري رئيس، الغاضب من تعاون الأهالي معهم، نهب الجزيرة.
وصل خبر ذلك إلى والي البصرة رمضان أوغلو قباد باشا، الذي كان قد علم أيضاً بتقدّم الأسطول البرتغالي نحو مضيق البصرة، فغضب من تصرف بيري رئيس، وقرّر اعتقاله ومصادرة أمواله.
لم يكن بيري رئيس مجرد بحّار يرسم الخرائط، بل كان عينَ البحر التي أبصرت العالم، وقلبَ الموج الذي دوّن التاريخ على صفحة الماء
وبسبب حاجة سفنه إلى الصيانة وجنوده إلى الراحة، تركهم خلفه وسار بثلاث سفن محمّلة بالغنائم نحو السويس في مصر. لكن شكاية والي البصرة وصلت إلى والي مصر، فاعتُقل بيري رئيس فور وصوله.
قُدّم إلى المحاكمة بتهمة كسر الحصار وترك قواته، ودافع عن نفسه موضحاً صعوبة العودة بالسفن المنهكة، لكن دفاعه لم يُقبل، فصدر الحكم بإعدامه بأمرٍ من السلطان سليمان القانوني عام 1554 في القاهرة، وهو في أكثر من ثمانين عاماً من عمره، وصودرت جميع ممتلكاته.
إسهامات بيري رئيس
يُعدّ بيري رئيس من أعظم الملاحين ورسامِي الخرائط في التاريخ العثماني، وخلّف أعمالاً خالدة في مجالي الجغرافيا والملاحة، ما زالت تُعد من أبرز إنجازات علم رسم الخرائط.
أهم مؤلفاته هو "كتاب البحرية"، الذي يُعد من أروع الأدلة الملاحية في القرن السادس عشر، إذ يتضمن وصفاً دقيقاً للموانئ والسواحل والتضاريس البحرية في مناطق كـ بحر إيجه والأدرياتيكي وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وتونس.
ولا يقتصر الكتاب على المعلومات الجغرافية فحسب، بل يضم أيضاً ملاحظات تاريخية وثقافية قيّمة. وقد كُتب في نسختين بين عامي 1521 و1525، وتُحفَظ نسخه الأصلية في مكتبات عالمية مثل إسطنبول وبرلين وباريس وفيينا ولندن.
كما رسم بيري رئيس خريطتين للعالم: الأولى عام 1513، والثانية عام 1528، على جلود الحيوانات، وزيّنها بألوان زاهية. وتُظهر الخريطة الأولى تفاصيل دقيقة عن القارتين الجديدتين -الأمريكيتين- وتُعرض اليوم في متحف طوب قابي سراي بإسطنبول، وتُعد من أثمن كنوز تاريخ رسم الخرائط.
اعتمد بيري رئيس في أعماله على مصادر متعددة من خرائط قديمة وتقارير البحارة ورحلات المستكشفين، فجمع تراثاً علمياً ضخماً من معارف الجغرافيا والملاحة في عصره، ولا تزال مؤلفاته تُعد من أهم المراجع في التاريخ والعلم الجغرافي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



