فخر النساء زيد (1901–1991) واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ الفن الحديث في العالم الإسلامي، جمعت في مسيرتها بين النسب الأرستقراطي والتجريب البصري الجريء، بين الشرق العثماني والغرب الأوروبي، وبين التجريد الروحي والانخراط في الحداثة.
قصر شاكِر باشا
وُلدت فخر النساء زيد في جزيرة بويوك أدا (إحدى جزر الأميرات) بتركيا. كانت ابنة محمد شاكِر باشا، وابنة أخ أحمد جواد باشا، الصدر الأعظم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. أما والدتها، عصمت خانم، فقد وُلدت في جزيرة كريت وكانت تنتمي إلى إحدى العائلات المعروفة هناك. البيت الذي وُلدت فيه كان قصراً من ثلاثة طوابق، مزخرفاً بخشبٍ جميل، يضم حوض ماء، وحمّاماً، وغرفاً عديدة.
كانت عائلة شاكِر باشا كبيرة وعديدة الأفراد، يعيش معظمهم في القصر ذاته. كثيرون منهم أصبحوا لاحقاً من نجوم الفن والأدب في تركيا. أما شاكِر باشا فكان مثقفاً واسع الاطلاع، يتقن ست لغات، ويهوى الرسم. أهدى لاحقاً مكتبته التي تضم خمسة آلاف كتاب إلى متحف الآثار في تركيا. وقد نال الجائزة الثانية في مسابقة رسم أقيمت في باريس، لذا كان قصره دائماً مقصداً للمربين ومدرّسي اللغات والموسيقى والرسم.
فخر النساء زيد واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ الفن الحديث في العالم الإسلامي، جمعت في مسيرتها بين النسب الأرستقراطي والتجريب البصري الجريء، بين الشرق العثماني والغرب الأوروبي، وبين التجريد الروحي والانخراط في الحداثة
في هذا البيت، تلقت فخر النساء وشقيقتها الصغرى، عالية بيرغر (التي أصبحت لاحقاً فنانة مرموقة في فن الحفر والرسم)، وأخوها جواد شاكِر كاباآتشلي (أحد أبرز كتاب القصص في تركيا) تعليماً فنياً وثقافياً مميزاً.
البدايات
حين كانت فخر النساء في الثامنة من عمرها، شجعها شقيقها جواد على أن تأخذ الرسم بجدية. كان جواد يدرس في كلية فنية بإيطاليا، لكنه بدأ دراسته في التاريخ بجامعة أوكسفورد نزولاً عند رغبة عائلته. ترك دراسة التاريخ لاحقاً ليتزوج فتاة إيطالية، وانتقل إلى روما ليكمل دراسة الرسم.
في إحدى زياراته لإسطنبول، وصف جواد فتاة أحلامه لفخر النساء وطلب منها أن ترسمها بالحبر الصيني على ورقة بيضاء. وقد كتب لاحقاً في مذكراته: “بضربات رقيقة وقوية، خلقت فجأة مخلوقاً على الورق جعلني مندهشاً تماماً.” أعطاها جواد دفتر رسم وأقلاماً، فرسمت كل ما رأته في المنزل حتى حلول المساء. قال عنها: “ربّتّ على رأسها وقلت فقط إنها موهوبة بالنسبة لعمرها، لكن الحقيقة أن أسلوبها وطريقتها في الاقتراب من الرسم أذهلتني.”
في مراهقتها، التحقت بمدرسة “الصناعات النفيسة”، وفي عام 1919 انتقلت من الجزيرة إلى إسطنبول لتدرس في أكاديمية الفنون الجميلة. في ذلك الزمن، كانت معظم نساء تركيا يرتدين النقاب، لكنها خلعت حجابها وارتدت أزياء عصرية عندما دخلت الجامعة، في خطوة أظهرت شخصيتها المتمردة والمستقلة.
الزواج الأول وأيام باريس
في العام نفسه، تزوجت من عزت مليح دوريم، الكاتب التركي، وسافرا إلى باريس لقضاء شهر العسل. كانت تلك أول مواجهة لها مع المتاحف والمعارض الفنية الغربية. وقد وفّر لها هذا الزواج حياة اجتماعية مليئة بالمناسبات والنقاشات مع الطبقة المثقفة الثرية في تركيا، وتعرفت خلال تلك الفترة إلى مصطفى كمال أتاتورك.
في أحد المؤتمرات التي تحدث فيها أتاتورك عن الأبجدية الجديدة، جلست بجانبه، وكانت أول كلمة كتبها على السبورة لشرح الحروف الجديدة هي “فخر النساء”. لكن حياتها الخاصة لم تكن سعيدة، فقد عاشت مع زوجها في منزل واحد مع والدته وشقيقته وابنته من زواج سابق.
أصعب لحظات حياتها تمثلت في فقدان ابنها الأول، فاروق، الذي توفي عن عمر سنة ونصف بعد إصابته بالحصبة من أخته غير الشقيقة. قالت عن تلك المرحلة: “لم أشعر بمثل هذا الألم لا قبلها ولا بعدها.” كانت هذه الخسارة بداية الانهيار في علاقتها بزوجها، التي انتهت لاحقاً بالطلاق.
رغم المعاناة، أنجبت من هذا الزواج نجات دوريم، الذي أصبح من أبرز رسامي التجريدية في تركيا، وشيرين دوريم، التي أصبحت فنانة مسرحية معروفة.
الزواج الثاني و”الأميرة” فخر النساء
في عام 1934، وبعد طلاقها من عزت مليح، تزوجت من الأمير زيد بن الحسين، شقيق الملك فيصل الأول (ملك العراق) والملك عبد الله (ملك الأردن). كان زيد حينها سفيراً للعراق في أنقرة. وقد دعم فخر النساء طوال حياتها الزوجية، خاصة حين كانت تمر بحالات اكتئاب شديدة تبقيها في الفراش لأيام.
عاشت مع الأمير زيد فترة في بغداد حين أصبح نائباً للملك، ونالت لقب “أميرة”. لكن الحياة في بغداد لم ترُق لها، واعتبرتها رتيبة وخانقة بالنسبة لفنانة، فقررت الانتقال إلى باريس لتحقيق طموحاتها الفنية. أقام زوجها لاحقاً في برلين ولندن سفيراً للعراق، فعاشا فترات في هاتين المدينتين، لكن باريس بقيت مركز حياتها الفنية.
أنجبت من زيد ابنهما رعد بن زيد، الذي شغل مناصب بارزة في العائلة المالكة الأردنية. أنهت دراستها الفنية عام 1927 في أكاديمية “رانسون” في باريس، وهناك تعرّفت على الفن التجريدي الذي غيّر مسارها الفني. أقامت معارض في مختلف أنحاء العالم، منها في إسطنبول، حيث نظمت معرضين مهمين في 1944 و1946، وآخر في أكاديمية الفنون الجميلة عام 1964، ومعرضاً ناجحاً في متحف الحثيين بأنقرة في السنة نفسها.
علاقة معقدة مع الابن
نجات دوريم، ابنها من زوجها الأول، درس في باريس وأصبح رساماً تجريدياً بدوره. رغم مشاركتهما في معارض كثيرة، إلا أن علاقتهما كانت متوترة، يغلب عليها مزيج من الحب والنفور. كان نجات ينتقد أعمال والدته علناً، ويصفها بأنها “فنانة متوسطة”. أما هي فكانت تقول إن “فنه لا يُرضي ذوقها”. تقول زوجته ماريا: “نجات كان يفتخر بعائلته، لكنه كان دائماً يشعر بخيبة أمل منهم. أعتقد أنه صار رساماً فقط ليكسب حب والدته… وهو شيء لم ينله أبداً".
حياتها الفنية
أقامت فخر النساء زيد أكثر من 30 معرضاً في تركيا، في إسطنبول وأنقرة وإزمير. كما عرضت أعمالها في باريس ولندن (4 و6 مرات على التوالي)، وكذلك في سويسرا وبلجيكا والولايات المتحدة. توجد لوحاتها في متاحف عالمية مرموقة.
جمعت في أعمالها بين التجريد، والرمزية، والأنماط المستوحاة من الزجاج الملوّن، والتكوينات الهندسية. في بدايتها، كانت تستخدم أشكالاً بشرية ذات طابع مينياتوري، ثم انتقلت إلى التجريد الهندسي، وفي سنواتها الأخيرة ركّزت على رسم البورتريهات، محاولةً عكس البعد النفسي للنموذج
تأثرت بكل التيارات الفنية تقريباً، وخلقت أسلوباً خاصاً يمزج بين الفن الإيراني والغربي. جمعت في أعمالها بين التجريد، والرمزية، والأنماط المستوحاة من الزجاج الملوّن، والتكوينات الهندسية. في بدايتها، كانت تستخدم أشكالاً بشرية ذات طابع مينياتوري، ثم انتقلت إلى التجريد الهندسي، وفي سنواتها الأخيرة ركّزت على رسم البورتريهات، محاولةً عكس البعد النفسي للنموذج.

قالت: “لرسم بورتريه لا يُشبه الصورة، بل يكون عملاً فنياً بحتاً، نحتاج إلى ثلاثة عناصر: الرسام، والنموذج، وتلك الصورة التي يجب أن تظهر على القماش. لا أحب أن يقترب النموذج مني كثيراً، أخشى أن يخدعني هذا القرب. أفضل أن تكون بيننا مسافة ستة إلى ثمانية أمتار. أحب أن أعمل في نوع من الغموض. رسم بورتريه هو معركة يجب أن يربحها الرسام.”
السنوات الأخيرة في الأردن والوفاة
بعد انقلاب 1958 في العراق ومجزرة العائلة المالكة، كانت فخر النساء وزوجها زيد يعيشان في لندن حيث كان يشغل منصب السفير. انتقلا بعدها إلى شقة متواضعة ثم إلى باريس، حيث عاشا حياة مريحة وإن لم تكن فاخرة كما في السابق.
في عام 1962، بيعت إحدى لوحاتها بعنوان “شيء بين الذرّة والحياة النباتية” في مزاد كريستيز في دبي مقابل 2.741 مليون دولار.
بعد وفاة زوجها عام 1970، عادت إلى عمّان لتعيش قرب ابنها رعد. هناك، أسست مؤسسة فنية باسمها. وفي أواخر حياتها، عُرضت أعمالها في إسطنبول عام 1988، وفي فرنسا وألمانيا عام 1990.
توفيت فخر النساء زيد في 5 أيلول/سبتمبر 1991، ودُفنت في مقبرة العائلة المالكة الأردنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.