على الرغم من تفاوت الأنماط بين البلدان، تستخدم الحكومات والجهات الفاعلة الخاصّة الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد بطرق تُعمّق أوجه اللامساواة القائمة وتُقيّد الحقوق. فمن تقنيات المراقبة مثل التعرّف على الوجوه، والتنبؤ الشرطي، والمدن الذكية، إلى التحيّزات الخوارزمية على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات العمل المؤقت، يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الحيّز المدني، وأسواق العمل، وديناميات النوع الاجتماعي. وفي سياقات النزاع والعمل الإنساني، أسهم الذكاء الاصطناعي عملياً في تفاقم الأذى.
خلصت ورقة بحثية لمنظمة أوكسفام، متاحة باللغتين العربية والإنكليزية، إلى أن الذكاء الاصطناعي الذي بات يُعتَمَد بصورة متزايدة يشهد تطوّراً سريعاً، ما ينتج عنه تحوّلات جوهرية على الصعيد العالمي، لا سيما في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع، في مجالات المجتمع والسياسة والاقتصاد. وفيما يختلف تبـنّي القطاع الخاص والحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للذكاء الاصطناعي بحسب البلد أو الإقليم، فإنّ المنطقة ليست بمنأى عن هذه التحوّلات وتداعياتها على مختلف مناحي الحياة. وفي منطقة تعصف بها النزاعات والأزمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، من المُرجّح أن يُسهم تبـنّي الذكاء الاصطناعي في تفاقم أوجه اللامساواة وانتهاكات حقوق الإنسان.
وتُسهم أنظمة المراقبة التي يدعمها الذكاء الاصطناعي - وتلك التي تنشرها منصّات التواصل الاجتماعي - في انتهاك الحقوق المدنية والسياسية، وعلى رأسها حرية التعبير والمعلومات، وحرية التجمّع، والحق في الخصوصية. ويُسهّل الذكاء الاصطناعي على الجهات الحكومية تنفيذ عمليات المراقبة بسرعة وفاعلية أكبر، من خلال تعقب واستهداف الأفراد والمجموعات ذات الاهتمام، بما في ذلك المدافعين/ات عن حقوق الإنسان، والصحافيين/ات، والناشطين/ات. كما تعمل بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على توسيع قدراتها في مراقبة الحيّز العام عبر تقنيات التعرّف على الوجوه، والتنبؤ الشرطي، ومشاريع المدن الذكية. ومن شأن ذلك كله أن يُسهّل أيضاً المراقبة القائمة على النوع الاجتماعي للنساء وأفراد مجتمع الميم-عين، الذين يواجهون أصلاً مستويات عالية من التدقيق المجتمعي.
ومع استمرار تمدّد المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي إلى الحيّز العام غير المتصل بالإنترنت ومجالات المشاركة المدنية، تعمل الأنظمة الخوارزمية التي تنشرها المنصّات الرقمية - لا سيما منصّات التواصل الاجتماعي - على قمع الخطاب السلمي والأصوات والسرديات القادمة من المنطقة، في الوقت الذي تُخفق فيه هذه الخوارزميات في رصد المحتوى الضارّ وإزالته بشكل استباقي، بما في ذلك العنف القائم على النوع الاجتماعي، وخطاب الكراهية، والتحرّش، والتحريض على العنف ضدّ الأقليات والفئات المستضعفة. وفي بعض الحالات، تُسهم أنظمة توصية المحتوى في تفاقم انتشار هذا المحتوى الضارّ من خلال إعطاء الأولوية للانتشار السريع والتفاعل بهدف إبقاء المستخدمين/ات متصلين/ات بالمنصّات. وتعود هذه الإخفاقات إلى تحيزات كامنة في بيانات التدريب، ومصادرها، وآليات توصيفها، فضلاً عن التحيّز المتأصل في المنظومة الذي ينشأ حين تكون التعليمات الموجّهة لها منحازة عمدًا. كما تعاني النماذج اللغوية المتعدّدة اللغات، التي تعتمدها هذه المنصّات لتوليد المحتوى وتحليله، من قصور واضح في ما يتعلّق باللغات واللهجات المَحكيّة في المنطقة.
تسلّط هذه الورقة البحثيّة من أوكسفام الضوء على المخاطر التي تهدّد العدالة الاجتماعية وعدالة النوع الاجتماعي، واختلالات موازين القوى، والاستجابات النسوية والإقليمية الناشئة الناتجة عن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
ولا تقتصر آثار الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الحقوق المدنية والسياسية، فمع تزايد وتيرة اعتماده، من المرجّح أن تتفاقم أوجه اللامساواة. ففي الواقع، لن يتمكّن الجميع في المنطقة من الوصول إلى نماذج الذكاء الاصطناعي والمساهمة في تطويرها على قدم المساواة، إذ غالباً ما تقود اعتماد هذه النماذج وتطويرها في المنطقة دول معدودة ذات سجلّ طويل في إساءة استخدام التكنولوجيا الرقمية للسيطرة على السكان وإخضاعهم.
وتنبع أبرز المخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من استخدامه في سياقات النزاع والأزمات الإنسانية. فقد عمدت القوات الإسرائيلية إلى نشر أنظمة اتخاذ القرار الممكننة لتعقب الأهداف وتوليدها وقصفها في قطاع غزة؛ وهي أنظمة تعتريها تحيزات في البرمجة والخوارزميات، كما أنّ غياب الرقابة البشرية المستمرّة وانعدام الحرص الواجب في إدارة العمليات الحربية يُقوّضان بشدّة الضمانات القانونية والأخلاقية المصمّمة لحماية الحق في الحياة.
كما أنّ هذا التوجّه إلى الاعتماد المفرط على الحلول التقنية يثير تساؤلات بشأن مدى ملاءمة أدوات الذكاء الاصطناعي لحلّ المشكلات والسياقات التي تواجه الفئات التي تحتاج إلى دعم، لا سيما وأنّ هذه الأدوات غالباً ما تُطوَّرها شركات ومنظمات غير ربحيّة في دول غربية بعيدة تماماً عن السياقات المحلية. ومن جهة أخرى، يُستخدَم الذكاء الاصطناعي في المنطقة بشكل مفرط ينتهك الخصوصية، لا سيما في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الواقعة على طرق البحر الأبيض المتوسط المؤدية إلى أوروبا. ففي إطار إستراتيجية الاتحاد الأوروبي لتوسيع رقعة ضبط الحدود، تُقدَّم بشكل سري إلى حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا معدّات تقنية بما في ذلك أنظمة الذكاء الاصطناعي، بهدف مراقبة حركة الأشخاص للحؤول دون وصولهم إلى أوروبا، من دون إجراء تقييمات مناسبة لتأثير هذه التقنيات على حقوق الإنسان، أو من دون النظر في احتمالات استخدامها التي قد ينتج عنها انتهاك لحقوق المهاجرين/ات واللاجئين/ات والسكان المحليين.
وتركّز هذه الورقة البحثية على أربعة جوانب رئيسية، وهي:
الجزء الأول… أنظمة الذكاء الاصطناعي وتقويض حقوق الإنسان
يركّز هذا الجزء علي كيف قد تقوّض أنظمة الذكاء الاصطناعي حقوق الإنسان في المنطقة إذ تنتهك تقنيات المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي والأنظمة الخوارزمية التي تعتمدها منصّات التواصل الاجتماعي لحقوق الإنسان الأساسية، ولا سيما حرّية التعبير وتداول المعلومات، وحرّية التجمع، والحق في الخصوصية. ونتيجة لذلك، تُقوّض هذه التقنيات المشاركة المدنية والحيّز العام، وتُعيق النقاش المفتوح، وتُضعف النضال من أجل عدالة النوع الاجتماعي.
تتمتع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بسجل موثّق لجهة اقتناء أحدث تقنيات المراقبة وأشدّها تطفّلاً، بهدف تعقب أنشطة الأفراد على الإنترنت وفي الحيّز العام. وقد أسهمت التطورات في الذكاء الاصطناعي في تعزيز قدرات المراقبة الجماعية بشكل غير مسبوق.
"ثمّة تحيّز مثبت وقائم مسبقاً ضد النساء في القطاعين العام والخاص، سواء في قبول توظيفهن، أو تحديد رواتبهن، أو فرص حصولهن على التعليم والتدريب. وأيّ نظام ذكاء اصطناعي في المنطقة سيُغذّى بهذه البيانات، سيعكس هذه المشكلة"
وبفضل تقنيات التعلّم الآلي، باتت تقنيات التصفية أدقّ في تصنيف المحتوى الرقمي الذي تُراقبه وتستهدف حجبه أو تصفيته، كما اكتسبت القدرة على "تحديث ذاتها تلقائياً للتعرّف على الأساليب المتطوّرة لتجاوز الفحص العميق للحزم، مثل التشفير أو الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN)". كما يُستخدَم التعلّم الآلي في هجمات برمجيات التجسّس، بما في ذلك أدوات مثل "بيغاسوس" و"فينسباي"، وهما من أشدّ التقنيات اختراقاً.
ويُسهّل الذكاء الاصطناعي، لا سيما التوليدي منه الذي يستخدم المحتوى المزيّف أو ما يُعرف بالتزييف العميق (deep fakes)، تنفيذ هجمات التصيّد الإلكتروني، وهي من أكثر التقنيات اختراقاً واستهدافاً للناشطين/ات المدنيين/ات بهدف الوصول إلى بياناتهم.
أبدت دول مجلس التعاون الخليجي اهتماماً بالغاً بتقنيات التعرّف على الوجوه وغيرها من أدوات المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في الحيّز العامّ. فقد نشرت قطر، على سبيل المثال، شبكة واسعة من الكاميرات المزوّدة بإمكانات التعرّف على الوجوه خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022. وفي الإمارات، تعاونت شرطة دبي مع شركة SAS، وهي شركة تبيع حلول الذكاء الاصطناعي، لتوفير تقنيات التنبؤ الشرطية، بينما تعتمد شرطة أبو ظبي على حلول التعلّم الآلي وتقنيات التعرّف على الوجوه للتنبؤ بالجرائم وتوجيه سيارات الدوريات نحو المناطق المصنّفة على أنها "عالية الخطورة". وبالمثل، أعلنت بلدية عمّان الكبرى في الأردن، عام 2023، عن خطط لبدء استخدام تقنيات التعرّف على الوجوه "للمساعدة في تحسين الأمن، والحدّ من الجريمة، ورفع الكفاءة الأمنية في العاصمة".
ونظراً لمعايير النوع الاجتماعي السائدة ومستويات التدقيق المجتمعي التي تواجهها النساء وأفراد مجتمع الميم-عين، تعرّضهم المراقبة لمخاطر متزايدة من قبل السلطات أو الجهات غير الحكومية، وتنتهك سلامتهم الجسدية من خلال تعريضهم لمزيد من العنف والتحرّش والتضييق. وسيُفاقم الذكاء الاصطناعي من مراقبة النوع الاجتماعي وآثارها على النساء وأفراد مجتمع الميم-عين، الذين يواجهون أصلاً مستويات عالية من التدقيق. فمع تسهيل الذكاء الاصطناعي لعمليات التعقب وجمع البيانات التي تمارسها الحكومات، وفي ظل غياب الحماية الصارمة للخصوصية والرقابة القضائية المستقلة، تتعرّض السلامة الجسدية للنساء وحقوقهنّ الإنجابية لمزيد من التهديد.
ومن الممكن أن تُستخدم هذه التقنيات في المستقبل لتعزيز السيطرة على النساء، لا سيّما في البلدان التي تعتمد سياسات "الولاية الذكورية"، والتي تفرض قيوداً على حركة النساء وحريّاتهنّ، مثل السفر أو الحصول على جواز سفر، دون موافقة ما يُسمّى "بالولي الذكر".
ومن المرجّح أن تؤدّي تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تفاقم تعقّب تحرّكات النساء وأنشطتهنّ. لذا، فمن الضروري مراقبة الخوارزميات التي تتيح التعقّب والمراقبة القائمين على النوع الاجتماعي، والبحث فيها، والتدخّل في عملها.
جرى توثيق استخدام روبوتات الشبكة العنكبوتية المعروفة اصطلاحاً بكلمة "بوت" (bot) لاستهداف الحيّز المدني، بما في ذلك على أساس النوع الاجتماعي، منذ عام 2011 على الأقلّ، حين كانت المنطقة تشهد ذروة موجة الاحتجاجات الشعبية المؤيدة للديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، استخدمت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا روبوتات الشبكة العنكبوتية كجزء من حملات أوسع نطاقاً من التضييق و/أو التضليل، تهدف إلى التلاعب بالخطاب العام وإسكات الصحافيين/ات والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان، والناشطين/ات، والسياسيين/ات المعارضين/ات.
وفي بعض السياقات، تُستخدم روبوتات الشبكة العنكبوتية أيضاً بالتوازي مع جيوش من المتصيّدين/ات البشريين/ات، ما يُصعّب على المنصّات رصدها وإزالتها. ويمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يُضخّم هذه الإستراتيجية ويشكّل تهديدات إضافية للأشخاص الفاعلين في الحيّز المدني.
فضلاً عما سبق، بات التضليل القائم على النوع الاجتماعي بهدف التهديد والابتزاز والتشهير بالنساء - ولا سيّما الناشطات منهن في الحيّز المدني والسياسي - منتشراً على نطاق واسع، وثمّة مخاوف جدّية من أن يجعل الذكاء الاصطناعي التوليدي الحيّز الرقمي وغير الرقمي أقلّ أماناً للنساء ولمجتمعات الميم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ففي عام 2019، حذّر مركز الخليج لحقوق الإنسان من احتمال استغلال محتوى التزييف العميق في استهداف المدافعين/ات عن حقوق الإنسان، لا سيّما من النساء. ومنذ ذلك الحين، ظهرت حالات اعتداء على نساء باستخدام التزييف العميق.
الجزء الثاني… الذكاء الاصطناعي والفوارق الاقتصادية
بالإضافة إلى تفاقم التهديدات التي تطال حقوق الإنسان والمشاركة المدنيّة، تُنذر أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضاً بزيادة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. فبعد مرور 12 عاماً على ثورات الربيع العربي المطالبة بالعمل والكرامة والحرّية، لا تزال اللامساواة قائمة، بل وقد تفاقمت في المنطقة. إذ تُعاني الفئات المحليّة (باستثناء الأثرياء) من آثار السياسات التقشّفية، وارتفاع معدّلات التضخّم، وانهيار الخدمات العامّة، وانعدام عدالة الأنظمة الضريبيّة. وفي عام 2023، قُدّرت نسبة البطالة الإقليميّة بـ9.1%، مع تسجيل معدّلات بطالة مرتفعة بشكل خاص بين الشباب، والنساء، وخريجي/ات الجامعات.
تختلف مستويات تبنّي الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تتصدّر إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط مشهد تبنّي الذكاء الاصطناعي وتطويره. وقد خلّف استخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي عواقب كارثية على الفلسطينيين/ات وحقوقهم الإنسانية. في حين أنّ دول الخليج، صاحبة السجلّ الطويل في استخدام التكنولوجيا المتقدّمة لترسيخ السلطة والتضييق على الحيّز المدني، تسعى دائبة إلى الاستثمار في التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، من أجل تنويع اقتصاداتها المعتمدة على النفط. أمّا خارج الخليج وإسرائيل، تسير وتيرة تطوير الذكاء الاصطناعي وتبنّيه ببطء شديد في البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض.
كذلك، تُهدّد مكننة الوظائف المدفوعة بالذكاء الاصطناعي بتفاقم البطالة، لا سيّما في الوظائف ذات المهارات المتوسطة، وهي الأكثر شيوعاً في المنطقة. وقد تتأثّر النساء بشكل خاص، إذ يُنذر الذكاء الاصطناعي باستبدال الأدوار الإدارية التي تضطلع بها النساء بنسبة غير متكافئة.
وتنبع آثار الذكاء الاصطناعي على مشاركة النساء في سوق العمل من تحيّزات متجذّرة تُقيّد عمل النساء في أدوار ووظائف محدّدة. ويُهدّد اعتماد الذكاء الاصطناعي لمكننة بعض هذه المهام والوظائف بتقويض مشاركة النساء في سوق العمل، لا سيّما في ظل عدم تكافؤ فرص الوصول إلى اكتساب المهارات الجديدة، نتيجةً، مثلاً، لكمّ العمل غير المدفوع وأعباء الرعاية اليومية التي تتحمّلها النساء. وكما هو الحال في مناطق أخرى، تبقى فجوة النوع الاجتماعي في العمل غير المدفوع والرعاية المنزلية كبيرة، في ظلّ أعراف اجتماعية تُكرّس دور النساء كمقدّمات للرعاية ومُتولّيات للمهام المنزلية.
وتُسهم الفجوة الرقمية في النوع الاجتماعي أيضاً في إعاقة قدرة النساء على تطوير مهاراتهنّ الرقمية، بما يُهدّد بقاء هذه المهارات ذات صلة في سوق عمل يشهد أصلاً تحوّلات متسارعة. ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تقلّ احتمالية استخدام النساء للإنترنت بنسبة 12% مقارنةً بالرجال، وذلك بسبب عدم قدرتهنّ على تحمّل تكاليف الوصول، أو ضعف مهاراتهن الرقمية، أو بفعل القيود التي تفرضها أعراف النوع الاجتماعي التي تحدّ من وصولهنّ إلى الإنترنت. وحتى حين تتاح للنساء إمكانية الوصول، إلا أنّ الوقت الذي يمكنهن تخصيصه لتطوير المهارات يبقى محدوداً بفعل ما يتحمّلنه من أعباء غير المتناسبة في الرعاية والعمل غير المدفوع.
يبحث هذا التقرير في واقع تأثيرات الذكاء الاصطناعي على حقوق الإنسان والمساواة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويستكشف سبل المقاومة والمشاركة في اتجاه تقنيات نسوية تُيسّر قيم العدالة الاجتماعية والإنصاف والحرية للجميع
وفي ما يتعلق بالتوظيف، تقول خبيرة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، نور نعيم: "ثمّة تحيّز مثبت وقائم مسبقاً ضد النساء في القطاعين العام والخاص، سواء في قبول توظيفهن، أو تحديد رواتبهن، أو فرص حصولهن على التعليم والتدريب. وأيّ نظام ذكاء اصطناعي في المنطقة سيُغذّى بهذه البيانات، سيعكس هذه المشكلة".
كما أوضحت أنّ هذه التحيّزات تتفاقم بسبب ضعف تمثيل النساء في شركات الذكاء الاصطناعي. فعلى الرغم من أنّ عدد النساء اللواتي يتخرّجن في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في المنطقة آخذ في الازدياد، إلا أن تمثيلهن في سوق العمل لا يزال منخفضاً بشكل غير متكافئ.
وما زالت وكالات التوظيف ومنصّات الوظائف تعتمد حلول الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، تتيح منصة "لينكد إن" للمُوظِّفين/ات استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لإدخال احتياجاتهم/ن في التوظيف، لذا تولّد واجهة التوظيف عوامل تصفية البحث لتحسين إعلانات الوظائف، والعثور على المرشحين/ات.
وليس من الواضح تماماً إلى أي مدى تقيّم هذه المنصّات مخاطر التحيّز، لا سيما في المنطقة، أو تتخذ خطوات لمعالجة هذه المخاطر والحدّ من آثارها، على سبيل المثال، عبر ضمان وجود إشراف بشري وإتاحة إمكانية الطعن للمرشحين/ات الذين/اللواتي ترفض أنظمة الذكاء الاصطناعي طلباتهم/ن.
الجزء الثالث… الحروب والنزاعات والأزمات الإنسانيّة
تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراحل متعدّدة من الحروب، بدءاً من الأسلحة التي تنفّذ القتل المباشر، وصولاً إلى السرديات التي تُجرّد الشعوب من إنسانيتها. كما تؤثّر هذه التقنيات على تقديم المساعدة وحقوق الأشخاص المُهجّرين بسبب النزاعات، وعلى قدرة الحيّز المدني في توثيق الجرائم المرتكبة خلال الحروب والمطالبة بمحاسبة مرتكبيها. وتُعزّز هذه الأنظمة من هيمنة السلطات المُركّزة في الأنظمة العسكرية الشديدة التسليح، وتُشكّل تحديات جديدة ومتفاقمة أمام حركة حقوق الإنسان والمجتمعات المحلية المُهمّشة.
بالإضافة إلى الحروب والنزاعات وتفاقم أوجه اللامساواة، تواجه شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أزمة مناخية وشيكة وأزمة هجرة متصاعدة. وقد اضطر ملايين الأشخاص إلى الفرار من منازلهم نتيجة الحرب الأهلية في سوريا، فيما أصبح يُعرف بأنّه "واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم"، فيما انهار اقتصاد البلاد حيث يعيش أكثر من 90% من السكان في حالة فقر، ويحتاج الملايين إلى مساعدات إنسانية. وفي عام 2024، بلغ عدد اللاجئين/ات السوريين 4.8 ملايين، يعيش معظمهم في الدول المجاورة أي الأردن ولبنان وتركيا، فيما بلغ عدد النازحين داخلياً 7.4 ملايين.
وقد سعت المنظمات الإنسانية على مدى سنوات إلى استخدام التكنولوجيا لتقديم خدماتها بالتعاون مع القطاع الخاص. فعلى سبيل المثال، أصبحت أنظمة الهوية الرقمية البيومترية "جزءاً طبيعياً ومركزياً بشكل متزايد من البنى التحتية الإنسانية". كما بدأ القطاع الإنساني في تجربة استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.
ويُخشى أن يُفاقم الذكاء الاصطناعي الآثار السلبية لتغيّر المناخ في منطقة تُعدّ أصلاً من أكثر مناطق العالم معاناة من شحّ الماء. وتشمل الآثار البيئية للذكاء الاصطناعي استهلاكه العالي للطاقة، إذ قد يتطلّب تدريب نموذج واحد آلاف ميغاواط/ساعة من الكهرباء ويُنتج مئات الأطنان من الكربون، واستهلاكه الكبير للماء، نظراً لحاجة مراكز البيانات إلى المياه لأغراض التبريد. ومع استمرار تبنّي الحكومات والقطاع الخاص في المنطقة للذكاء الاصطناعي، ستزداد الحاجة إلى مراكز البيانات.
الجزء الرابع… المشاركة والمقاومة
بدأت العديد من الجهود الرامية إلى تعزيز التفاعل مع الذكاء الاصطناعي الموثوق به من داخل أقسام الجامعات. فقد أطلق مركز الوصول إلى المعرفة من أجل التنمية (A2K4D) في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عام 2020، أول شبكة نسوية للذكاء الاصطناعي في المنطقة، بالتعاون مع ناشطين/ات وأكاديميين/ات، وبناءً على أعمال المركز السابقة حول اقتصاد العمل المؤقت. وتستضيف الشبكة ندوات عبر الإنترنت وتدعم مبادرات تهدف إلى تعزيز الذكاء الاصطناعي الموثوق به في المنطقة ومن أجلها. ومن بين شركائها شبكة النساء العربيات في الذكاء الاصطناعي، التي تعمل على تدقيق نسوي لمجموعات البيانات العربية ونماذج اللغة الكبيرة.
إلى ذلك، يشهد تطوّر الذكاء الاصطناعي تأثيراً هائلاً - وقد يواصل تأثيره المتسارع - على مختلف جوانب حياة الأفراد حول العالم، بما في ذلك تأثيرات متعدّدة على حياة الفئات المهمّشة أصلاً، ما يجعل منه تحدياً عالمياً بامتياز. ولعلّ التحدّي الأبرز يكمن في وتيرة التطوّر المتسارعة بشكل أُسّي، إذ تُسرّع الطبيعة التكرارية للذكاء الاصطناعي بشكل متزايد من وتيرة الإنجازات التقنية. وعلى الرغم من أنّ هذا الواقع يستدعي دق ناقوس الخطر والتريّث في نشر نماذج الذكاء الاصطناعي، فإن الحكومات الغنية والنافذة، إلى جانب شركات التكنولوجيا الكبرى، منخرطة في سباق محموم نحو "الذكاء الاصطناعي العام"، وهو سباق لا يمكن التوفيق بينه وبين المصلحة العامة أو مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.
وفي مواجهة ذلك كلّه، يجب أن نُركّز على سُبل استجابة المجتمع المدني، والحركات النسوية والعمالية، والناشطين/ات، والصحافيين/ات، وكل الأشخاص الذين يثمّنون الحرية في مختلف أنحاء العالم، لهذه الرؤى التقنية-الاستعمارية الجديدة التي تُفرض على البشرية في ظل أزمات متعدّدة ومتشابكة. ويتطلب ذلك جهوداً عاجلة - توازي في تسارعها وتيرة تطوّر الذكاء الاصطناعي الأُسّية - تنتقل فيها أشكال التعاون من الخبرات الفردية إلى حركات أوسع للعدالة الاجتماعية وكتل نقدية مناصرة للخصوصية، تستحضر المعارف المتراكمة في التاريخ النسوي والكويري والعمالي لفهم الذكاء الاصطناعي، وتُواجه التحيّزات المتأصّلة فيه والمعزَّزة من خلاله، وتُعزّز في الوقت ذاته تنظيمه الصارم في سياقات الحروب، بما يَحول دون ارتكاب فظائع مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
وتُظهر أبحاثنا أنّ ثمّة كماً وافراً من المعلومات المتاحة والناشئة المتزايدة ذات صلة بإشكاليات الذكاء الاصطناعي. إلا أنّ الوضوح، وكذلك الدراسات التطبيقية، أقلّ بكثير فيما يخصّ الاستخدامات العملية، وسُـبُل المقاومة أو التفاعل التي لا تقتصر على تحليل المشكلة، بل تركز على ما يواجهها ويُناهضها، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، وفي السياقات الوطنية والإقليمية والعالمية. ومن اللافت أيضاً تزايد الاهتمام السريع بفهم الذكاء الاصطناعي والتفاعل معه ضمن المنظمات النسوية والمجتمع المدني. ويُتيح هذا الواقع فرصاً فورية لتطوير مجموعة واسعة من التدخلات التعاونية والاستباقية، تستند إلى تحليل نسوي نقدي للتكنولوجيا، ويمكن أن تشكّل قاعدة انطلاق لحراك متنامٍ يهدف إلى الدفاع عن حقوق الخصوصية، والاستقلالية، والسلامة.
يستند هذا التقرير إلى 12 مقابلة شبه مُنظّمة مع 14 مشاركاً/ة رئيسياً/ة، معظمهم/ن من النساء، يعملون/ن في مجال الذكاء الاصطناعي في المنطقة أو على المستوى العالمي من خلال عدسة نسوية. وقد وفّرت مراجعة الأدبيات بيانات وسياقاً إضافياً
ومن خلال تيسير الحوار بين الخبيرات والخبراء، ومنظمات المجتمع المدني، والحركات الاجتماعية في المنطقة، يمكننا الوصول إلى إجابات عن الأسئلة الملحّة ذات صلة "بالكيفية". كيف يمكن للمنظمات النسوية - سواء كانت تقدّم خدمات أو تدير برامج مناصرة - أن تدمج الذكاء الاصطناعي في أعمالها القائمة؟ وما هي البرامج التكنولوجية التقاطعية الجديدة التي يمكن أن تتبناها، أو ما هي الموارد التي تحتاجها لبناء هذه البرامج؟ وكيف يمكن للحركات أن تبقى على اطلاع يومي بالأخبار والمستجدات ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن للمنظمات الإقليمية أن تنضمّ إلى جهود المناصرة أو أن تبني عملاً حقوقياً ذا معنى يهدف إلى حظر الأنظمة القتالية الذاتية التشغيل، والتنبؤ الشرطي، والتقييم الاجتماعي، والمراقبة البيومترية الجماعية، وتقنيات التعرّف على المشاعر والنوع الاجتماعي، وغيرها من التقنيات التطفلية والتمييزية الصريحة؟
فضلاً عن أسئلة على غرار: كيف يمكننا بناء حركات اجتماعية خارج منظومات المراقبة في ظل تآكل حقوق الخصوصية؟ وما هي التحديثات والتحولات المطلوبة في سياسات الأمن الرقمي وممارساته لضمان سلامة هذه الحركات مستقبلًا في الحيّز الرقمي؟ وهل يمكننا استرداد مفهوم "استعادة أدوات البرمجة والتصميم لخدمة الحراك الاجتماعي" عبر نماذج جديدة للذكاء الاصطناعي تُطوَّر ذاتياً، وتُستضاف محلياً، وتُصمَّم بشكل تعاوني، بحيث تخدم جهود المجتمع المدني وتُعزّزها؟ وكيف تبدو الحركات العمالية الجديدة والمحدَّثة في سياق الدفاع عن الحقوق ضمن اقتصاد العمل المؤقت المتنامي أو سوق العمل القائم على الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يتأثر مفهوم العدالة الإنجابية، وما مدى تأثير ذلك على استقلالية النساء الجسدية مستقبلاً؟
وفيما نعمل على بناء حيّز يُتيح إجراء هذه النقاشات المهمّة وإيجاد إجابات متكرّرة ومتجدّدة لسؤال: "كيف نقاوم؟"، من الضروري أن نبقى على اطلاع دائم بتطوّرات الذكاء الاصطناعي العام. فعندما يحين وقت ظهور الذكاء الفائق خلال السنوات القليلة المقبلة، يجب أن نكون مستعدّين لملاقاته بذكاء نسوي فائق خاص بنا: شبكي، قوي، فاعل، ومتجذّر في معارف جميع الأجيال النسوية التي سبقتنا.
ختاماً، في مواجهة هذه التحدّيات السالفة الذكر، يعمل الناشطون/ات، والأكاديميون/ات، والمنظّمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على استكشاف مسارات مختلفة لدمج الذكاء الاصطناعي في أعمالهم/ن، ومقاومة تطبيقاته الضارّة. ويشمل ذلك مبادرات تُنتج مجموعات بيانات ونماذج تدريب جديدة تُراعي السياقات المحلية، وتكون مراعية للنوع الاجتماعي، ومتنوّعة لغوياً، وتقيس التحيّز، وتُدقّق في مجموعات البيانات باللغة العربية والنماذج اللغوية الضخمة - وذلك كله من منظور نسوي. ومع ذلك، تظلّ المنطقة بحاجة ماسّة إلى جهود جماعية وعاجلة لمواجهة هذه الرؤية الاستعمارية التقنية، من خلال الاستفادة من التاريخ النسوي، وتاريخ مجتمع الميم-عين، وتاريخ الحركات العمّالية، لتوجيه كيفية استخدام قلّة ثرية ونافذة من الحكومات والشركات للذكاء الاصطناعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
 
 




