حين يتجلّى الإله في الصمت… رحلة عبر الأديان والفلسفات

حين يتجلّى الإله في الصمت… رحلة عبر الأديان والفلسفات

مدونة نحن والحرية

الخميس 13 نوفمبر 20259 دقائق للقراءة

"في بعض الأديان، يظهر الإله كصوت رعد أو عاصفة، لكن في الكتاب المقدس، غالباً ما يكون حضوره في الصمت. ففي سفر الملوك، يُروى كيف تجلّى الله لإيليا: أولاً جاء إعصار، ثم زلزال، ثم نار. لكن الله لم يكن في أيّ منهم. ثم جاء لاحقاً في "صوت صغير هادئ"، أو كما في بعض الترجمات الحديثة في "صمتٍ هشٍ". 

كذلك، هناك قصة مشابهة في الفلسفة الهندوسية، تتحدث عن طالب سأل معلمه أن يشرح له "براهمان" أو "روح العالم"، وعندما سمع المعلم السؤال، ظل صامتاً. كرر الطالب السؤال مرتين أو ثلاثاً، ولم يتلقّ أي كلمة.

ردّ المعلم أخيراً، وقال: "لقد كنت أعلّمك الآن، لكنك لا تنصت". والإجابة بالطبع كانت: الصمت، كذلك الأمر عند بوذا الذي استخدم الصمت وسيلة للتعليم.

قرأت تلك الفقرة في كتاب "الصمت في عصر الصخب" للمستكشف النرويجي إيرلنج كيج، الذي ألّفه بعد تجربة عاشها في القطب الجنوبي، حيث انعزل هناك خمسين يوماً دون أي وسيلة تواصل، بعيداً من حمّى الرسائل والإشعارات والمكالمات الطويلة.

 توقفت طويلاً أمام هذه الفكرة. رافقتني حتى بعد أن انتهيت من قراءة الكتاب. ظلت تراود عقلي، وتلّح عليَّ يومياً، كيف يمكن أن يحمل الصمت قداسة كتلك؟

ملاذ نادر

في عالم غارق في الضجيج، يصبح الصمت ملاذاً نادراً. ربما لهذا السبب لجأت الأديان والفلسفات منذ قرون إلى السكون باعتباره لغة للإله، وطريقاً للمعرفة. 

فمن الكتاب المقدس إلى التصوف المسيحي والإسلامي، ومن نصوص الأوبانيشاد والبوذا إلى الطاوية، يتكرّر المشهد ذاته: حين تصمت الكلمات، يتكلم المقدّس، أو الأدق: يتكلم المقدس من خلال الصمت. 

لذا، فإن أردت أن أتبين الإله في مرة، يجب عليَّ أن أتأمل في صمت لبعض الوقت. يا لها من فكرة.

في النصوص الدينية الأولى، يظهر الصمت باعتباره أحد أعمق صور الحضور الإلهي. ففي الحضارة المصرية القديمة، شغل التأمل مكانة روحية رفيعة وكان الآلهة والآلهات يتخذون ألقاباً وصفات تتعلق بالصمت. أوزيريس، على سبيل المثال، نُسب إليه لقب "سيد الصمت"، حيث لعب السكون دوراً مهماً كعنصر مميز لمجال سيادته وسيطرته، كذلك إحدى الآلهات المعروفة في الحضارة المصرية القديمة تسمى "مريت سجر"، ويعني اسمها مُحبة الصمت، ارتبطت بالجبانة الملكية في طيبة، وكان الناس يتقربون إليها بالأناشيد والابتهالات، ومن بينها قولهم: "السلام لكِ يا مريت سجر، يا سيدة الجبل العظيم، يا من تسكنين في الصمت".

من الكتاب المقدس إلى التصوف المسيحي والإسلامي، ومن نصوص الأوبانيشاد والبوذا إلى الطاوية، يتكرّر المشهد ذاته: حين تصمت الكلمات، يتكلم المقدّس، أو الأدق: يتكلم المقدس من خلال الصمت

كذلك، صورت كثير من النصوص الأدبية أو الجنائزية الصمت كصفة إيجابية، فالصمت حاضر في العالم الآخر المقدس، الذي تسكنه الأرواح الطيبة بعد الموت، كذلك يذُكر كثيراً في مقاطع من كتاب الموتى والأعمال الأدبية ونقوش المقابر، ويوصف باعتباره سلاماً في عالم مثالي خالٍ من العيوب. وفي بعض النصوص ذُكرت أرض الأرواح الطيبة (الجنة) بأنها أرض خالية من الصوت.

ومن هنا، يمكن أن نفهم كيف التقط أفلاطون هذا الجوهر في فلسفته، إذ رأى أن المعرفة الحقيقية لن تتحقق بالكلام أو الجدال، بل بالتأمل الصامت وكان يؤمن أن الحقيقة تُستحضر من داخل النفس لا من الخارج، وكأن الصمت هو الطريق الذي يتيح للروح أن تتذكّر ما كانت تعرفه قبل أن تولد. 

وفي هذا المعنى، يصبح الصمت عودة إلى الأصل، تماماً كما كان في الميثولوجيا المصرية: لحظة الخلق الأولى.

صمتٌ فتنوير

في الفلسفات الهندوسية وخصوصاً في الأوبانيشاد (جزء من أقدم الكتب المقدسة الهندوسية، التي كُتبت بين 1500-1000 ق.م)، يتجلّى الصمت كأعمق وسيلة لمعرفة الحقيقة المطلقة.

ففي إحدى التعاليم، يُوصَف الوعي الأسمى أو مفهوم الـ "توريا"، بأنه وعي لا داخلي ولا خارجي، بل سكون تام، سلام لا تصفه الكلمات. إنها لحظة صمت عميق يلتقي فيها الإنسان بالحقيقة وكأن الصمت نفسه يصبح صلاة.

هذه الأفكار وجدت صداها عند حكماء الهندوس، فعلى سبيل المثال، يقول الحكيم رامانا العظيم: "الأديان أنهار مختلفة تتقاطع وتصب في محيط الصمت".

"الإنسان إذا تكلم يعوم على سطح الأشياء أما عندما يغوص في الأعماق فلا يعود بإمكانه الكلام"

الحكيمة ما أنندا مايي فكانت ترى أن "الإنسان إذا تكلم يعوم على سطح الأشياء أما عندما يغوص في الأعماق فلا يعود بإمكانه الكلام"، كذلك لا ننسى التقاليد الهندوسية القديمة، فاليوغا في أساسها هي تقليد تأمل وصمت لتحقيق الحضور الروحي. 

أما في البوذية، فالصمت ليس غياباً للكلام، بل حالة حضور تام. قيل إن بوذا كان يلتزم الصمت حين تُطرح عليه أسئلة عن طبيعة الوجود أو الإله، لأن الإجابة، في جوهرها، تتجاوز حدود اللغة والعقل. 

وفي الطاوية (فلسفة صينية قديمة)، يبدو أن الصمت هو الممر الوحيد لفهم "الطاو" – المبدأ الذي لا يُسمّى، ولا يمكن القبض عليه بالكلام، وهو المبدأ الذي تقوم عليه كل الأشياء في الكون- يقول لاو تسي، المؤسس، في كتابه الطاو تي تشينغ: "من يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف".

اللغة تُجزئ ما هو كامل والكلمة مهما بلغت من البلاغة، تظل ظلّاً للحقيقة، لا جوهرها، بينما الصمت يفتح الباب لما هو أبعد من الشكل والاسم، ففي نظر الطاوي: "الحكيم ليس من يشرح الوجود، بل من ينسجم معه في صمت، كما تنسجم قطرة الماء مع البحر". 

السكون المقدّس

لم تذهب الأديان السماوية بعيداً من هذه الأفكار، فكما ذكرت؛ روى الكتاب المقدس، أن النبي إيليا عندما انتظر رؤية الإله، تجلى الله له في السكينة وليس الصخب. هذا المعنى نفسه يتردد في التصوف المسيحي، حيث كتب القديس أوغسطين عن "السكينة الداخلية" كطريق لفهم الله، فالإنسان لا يصل إلى الحق إلا حين يخفت ضجيج العالم الخارجي، ويصغي إلى أعماقه. فالسكينة هي ما تحقق الاتصال العميق بين الروح والإله.

أما في التصوف الإسلامي، فيُنظر إلى الصمت باعتباره مفتاحاً للمعرفة الباطنية، ليس كامتناع عن الكلام فحسب، بل كحالة روحية تُتيح للقلب أن يصغي إلى ما تعجز اللغة عن قوله.

ويرى أبو حامد الغزالي أن الصمت هو باب الحكمة، وأن الكلام المفرط يحجب صفاء القلب، ولا يقرّب الإنسان من الحقيقة الإلهية بقدر ما يشتته عنها، بينما السكون يُنقّي النفس ويقرّبها من الله، فالمعرفة الحقيقية، في نظره، لا تُنال بالجدل أو الحروف، بل بالنور الذي يُلقيه الله في القلب المتأمل.

اليوم، بعدما غمرتنا موجات لا تنتهي من الضجيج الرقمي، عاد العلم ليؤكّد ما عرفته الفلسفات القديمة، وأثبتت دراسات علم الأعصاب أن لحظات الصمت تُنشّط مناطق الدماغ المسؤولة عن الإبداع والتركيز، وتقلل من هرمونات التوتر، وتعيد التوازن للجهاز العصبي

أما محيي الدين ابن عربي، فذكر في كتابه "الفتوحات المكية"، علم الصمت بوصفه مرتبة من مراتب المعرفة، ويقول إن "السكوت عن الله هو كلامٌ فيه" و "العارف إذا نطق فقد خان، لأن الحقيقة لا تُقال بل تُشهد". 

وبالتالي، إن الصمت عنده ليس غياباً للكلام، بل حضور أعمق للمعنى. هو لحظة يذوب فيها الإنسان في صمت الوجود، حيث تتكلم الأشياء دون صوت. 

وهكذا، يتحوّل الصمت في التصوف الإسلامي من مجرّد فضيلة أخلاقية إلى حالة وجودية، تُمكّن الإنسان من تجاوز حدود العقل واللغة نحو اختبار مباشر للحقيقة الإلهية.

بوابة الصمت 

لم تختلف الفلسفات الغربية الحديثة عن هذا التصور، إذ رأت هي الأخرى في الصمت طريقاً للحكمة والتنوير. فالعقل الغربي أدرك مبكراً أن حدود اللغة هي حدود العالم والفلاسفة، مهما اختلفت مدارسهم، يتقاطعون عند نقطة واحدة: الصمت ليس فراغاً، بل هو حضور كثيف للمعنى، أو حالة من الإنصات العميق للوجود.

عند ديكارت، كانت لحظة الصمت هي اللحظة التي ينسحب فيها كل شيء ليتجلّى "الأنا المفكِّر" وحده؛ فالمعرفة تبدأ حين يصمت العالم الخارجي، وحين لا يبقى سوى صوت الوعي الداخلي، ثم جاء كانط ليميز بين ما يمكن للعقل أن يعرفه، وما يجب عليه أن يصمت حياله، فهناك "الشيء في ذاته" الذي لا تدركه الحواس ولا اللغة، تماماً كما قال المتصوفة قديماً إن الله يُعرَف ولا يُوصَف. 

وفي القرن العشرين، ذكر الفيلسوف فيتجنشتاين، في كتابه "رسالة منطقية فلسفية"، أن ما لا يمكن قوله يجب أن يُصمت عنه. 

وكأن الفيلسوف، بعد رحلته الطويلة من التحليل والتفكير والمنطق، انتهى إلى البوابة نفسها التي وقف عندها المتصوفون من قبل: بوابة الصمت.

الصمت ضرورة روحية

اليوم، بعدما غمرتنا موجات لا تنتهي من الضجيج الرقمي، عاد العلم ليؤكّد ما عرفته الفلسفات القديمة أن الصمت ليس فراغاً بل ضرورة بيولوجية وروحية في آنٍ واحد. 

أثبتت دراسات علم الأعصاب أن لحظات الصمت تُنشّط مناطق الدماغ المسؤولة عن الإبداع والتركيز، وتقلل من هرمونات التوتر، وتعيد التوازن للجهاز العصبي، وكأن الصمت، الذي كان في الأديان والفلسفات طريقاً للتجلّي الإلهي، أصبح في العلم الحديث طريقاً لاستعادة الإنسان نفسه، ومن ثم روحه وتوازنه الداخلي.

لم يعد الصمت ترفاً روحياً، بل حاجة وجودية. إنه لحظة نعود فيها إلى أصلنا الأول، حيث يتجلّى الله، أو المعنى، أو السلام في السكوت الهشّ الذي بدأ منه كل شيء.

أذكر مقالاً قرأته للعالم الفيزيائي المصري، أحمد فرج علي، جعلني أدرك أن الصمت لم يعد مجرّد تجربة روحية أو تأمل فلسفي، بل صار يمتد إلى حدود العلم ذاته، فالعلماء الذين يتأملون أعماق الكون، من الثقوب السوداء إلى الانفجار العظيم، يجدون أنفسهم أمام صمتٍ كونيّ كثيف: "الكلمات كلها أصابع تشير إلى القمر، لكن القمر نفسه لا يُمسك إلا في لحظة تأمل صامتة".

وهكذا، يظل الصمت هو اللغة التي يتحدث بها الوجود، حين تعجز كل اللغات الأخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image